الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

وارث الريح
أمل زاهد
لم أملك وأنا اقرأ مسرحية (وارث الريح) لجيروم لورنس وروبرت لي، والتي نقلها إلى العربية الأستاذ حمد العيسى بلغة سلسلة وتدفق عذب إلا أن استحضر كل أولئك الذين اضطهدوا وعُذبوا وحُكموا ونُفوا وحرّقت كتبهم وصودرت أفكارهم وألجمت أصواتهم وكممت أفواههم عن التعبير، فمثلوا أمامي وهم يحملون أفكارهم وأرواحهم فوق أكفهم يتطلعون إلى الحرية ويجأرون بالرغبة في إطلاق سراح أفكار كل خطيئتها تكمن في اختلافها عن المألوف وعما اعتاد الناس أن يسمعوه ويقرأوه ويسلموا تسليما قاطعا بصحته، أو في رفضها للتطويع والاندماج تحت لواء السلطة سواء كانت دينية أو سياسية، والتي تريد إخضاع العارف والسيطرة عليه حتى تتمكن بواسطته وتحت قيادته من السيطرة على العامة وتدجينهم والهيمنة عليهم.
قدموا أمامي وهم يدافعون عن حقهم في التفكير والتحليق في سماء الاختلاف وفي إثارة الأسئلة وفي رؤية وقراءة الواقع بمنظور وفهم جديدين لا يرومان إلا مصلحة ومنفعة الإنسان الذي سخّر الله سبحانه وتعالى هذا الكون له وكلفه بأن يكون خليفته على الأرض، فالفكرة هي التي تخدم الإنسان وتسعى لتحقيق منفعته ولا يمكن أن يصير الإنسان خادما لها وعبدا خاضعا في مملكتها.
فالمسرحية تتحدث عن محاكمة (سكوبس) وهو مدرس علم أحياء في الرابعة والعشرين من عمره قام بتدريس طلبته في مدينة صغيرة بأمريكا نظرية دارون مع أن المجلس التشريعي في ولاية (تنسي) كان قد أصدر قانوناً يمنع تدريس نظرية التطور والارتقاء لتشارلز دارون في المدارس الحكومية في مارس عام 1925م، مما حدا بالمدعي العام لرفع قضية ضد المعلم لخرقه ذلك القانون في شهر مايو من نفس العام.
وقد اكتسبت تلك القضية شهرتها كونها رمزاً للصراع بين المحافظين والليبراليين، بين الإصرار على تكبيل العقل والحجر على حريته في التفكير وبين الرغبة في الانطلاق في آفاق رحبة تقودها الرغبة في امتطاء أجنحة المعرفة والبحث والتجربة واحتمالية الخطأ والصواب التي تستلقي دائماً بين ثنايا النظريات العلمية فتدحض النظريات نفسها عندما يُكشف النقاب عما يثبت خطأها. فجوهر هذه القضية كما يقول المترجم ليس حول صحة نظرية داروين أو خطئها وبالتالي تعارض العلم مع الدين، كما يتبادر لذهن بعض القراء، ولكنه الحق في حرية التفكير. تلك الحرية التي تحرك دوماً الأفكار الراكدة في تلافيف العقول وتدفع بالإبداع قدماً وبالعقول مسافات شاسعة إلى الأمام كي تسبر أغوار الكون وتقدم كل ما ينفع الإنسان.
وعندما تقرأ مسرحية وارث الريح لا بد أن تتمثّل لك في مدينة (هيلزبورو) الأمريكية الصغيرة، ملامح وقسمات أي مدينة في أنحاء العالم تعاني من ورم الأحادية ومن داء التعصب وإقصاء أي صوت ينطق بما يختلف عن السائد، ولا بد أن تشاهد في شخوصها ملامح شخصيات تقابلها في حياتك اليومية، تسارع إلى إطلاق الأحكام الجاهزة دون أن تكلّف نفسها معرفة حقيقة ما تصدر عليه حكمها.
فحين سُئل الطلبة الذين تظاهروا في القاهرة من عدة سنوات عن رواية (وليمة لأعشاب البحر) على سبيل المثال، صرح كثير منهم أنهم لم يقرأوا الرواية ولم يعرفوا ما جاء فيها وأنهم بنوا رأيهم على أحكام مسبقة قيلت لهم وقاموا بناء عليها بالتظاهر، وقس على ذلك كثيراً من الأحكام التي يصدرها الناس وهم بحيثياتها وتشعباتها جاهلون. فالتعصب وأحادية الرؤية لهما ملامح وسمات محددة يشترك فيها كل المعتصبين مهما تباينت عقيدتهم ومهما اختلفت مشاربهم الفكرية. ومن خلال المسرحية تستطيع أيضاً أن ترى كيف يتم استخدام الدين لأغراض سياسية ولمقاصد أيدلوجية، فقد قام المحامي والسياسي المحافظ (ويليام جينجيز بريان) بالتطوع لقيادة فريق الادعاء، وكان يعد في ذلك الوقت أعظم خطيب سياسي في أمريكا، وقد رشحه الحزب الديموقراطي ثلاث مرات للرئاسة الأمريكية ولكنه لم يوفّق، فتولى القضية حتى يجد منبراً يستغله لمطامحه السياسية، ويتمكن من خلاله تأجيج العاطفة الدينية والمزايدة عليها حتى يتم له الاستحواذ على لب الناس والسيطرة على مشاعرهم.
واليوم ومع عودة الأصولية ومدها الكاسح الذي يجتاح العالم بأسره في وقتنا الحالي، يعود الصراع في أمريكا حول نظرية دارون إلى سابق اشتعاله، فقد صرح ( فيليب بيتز) عميد جامعة (ستانفورد) بأن هناك قوى تعادي العلم؛ وذلك في خطاب بثه على موقع الجامعة على الإنترنت (من أهم هذه القوى المد المتصاعد للمشاعر المعادية للعلم والذي يبدو أنه يتركز في واشنطن ولكنه يمتد لجميع أنحاء الأمة. ويقول (رولنجز) رئيس جامعة (كورنل ): إن الجدل يؤدي لاتساع هوة الخلافات السياسية والاجتماعية والدينية والفلسفية في المجتمع الأميركي، وأضاف (حين يحل الانقسام الأيديولوجي محل تبادل المعلومات الموثّقة تكون النتيجة أفكاراً جامدة ويتأثر التعليم. فدون شك ليس هناك عدو للتعليم بضرواة وشراسة جمود الأفكار وتحجر الرؤى وبقائها تراوح مكانها في عالم يهتز ويصطخب بجدة الأفكار وعنفوانها.
يأتي اسم وارث الريح كرمز للعبث الكامن تحت لواء أي خصومة لا تقود إلا إلى هلاك أحد أطرافها، فوارث الريح لا يحصد إلا زوابعها ودوامتها التي تهلك كل شيء ولا تخلف بعدها إلا الدمار والهلاك. وهي مأخوذة من عبارة يقولها المدعي العام على مسامع قس المدينة وأهلها عندما يلمس أنه يذهب بعيداً في حقده على المعلم طالباً من أهل المدينة أن يلعنوه وأن يسألوا الله أن يسومه سوء العذاب، فيخبره أن إخلاصه قد يكون فوق المطلوب وقد يحطّم كل شيء يريد إنقاذه، ويذكّره بحكمة سليمان المذكورة في سفر الأمثال والقائلة (من يكدر حياة أهل بيته يرث الريح). فلا بد أن يخرج من تحت أعطاف أية خصومة وريث للريح تصفر في جنبات بيته بهديرها وزوابعها ولا تخلف فيه إلا خرابها، وحينها يستوي النصر والهزيمة والمهزوم والمنتصر ولا يبقى إلا صوت الريح!!


Amal_zahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved