الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

طه حسين: رائد العقلانية و الليبرالية العربية «7»
الشرق والغرب / الشعر الغنائي والشعر الدرامي
د. عبدالرزاق عيد*

هذا هو الدرس الذي استنتجه طه حسين من التجربة اليونانية، وهو الدرس الذي يفسر للعميد واقع الغرب والحضارة الأوروبية الحداثية إذ يكثف خصائصها بأنها (حرية داخلية وقوامها النظام الديموقراطي وحرية خارجية قوامها الاستقلال الصحيح ووسائل ذلك هي التي مكنت للأوطان الأوروبية أن تكون حرة في داخلها ومستقلة في خارجها).(1)
الدرس الثاني الذي استخلصه العميد في صلته بالحضارة اليونانية، هو ذلك التمييز للأجناس الأدبية تأسيسا على النظم المعرفية التي ميزت بين الآداب الغربية والشرقية: العربية منها والإسلامية، فالشعر الغنائي يمثل مرحلة بداوة اليونان إذ يمثلها ساذجة جاهلة قليلة الحظ من النظم السياسية والاجتماعية الراقية تماما كبداوة الشعر الغنائي العربي، لكن الشعر الغنائي اليوناني شكل اللحمة الثقافية لوحدة الأمة اليونانية، وتطور هذا الشعر الغنائي إلى شعر ملحمي كان تعبيرا عن إرادة الأمة الموحدة في التطلع إلى القيم والمثل العليا للفروسية والشجاعة واندماج الفرد بالجماعة والذوبان في أناها الجماعية، وهاتان المرحلتان في تاريخ الشعر تتوازيان وتناظران معرفيا الوعي الديني والكهانة، أما سياسيا فهما يوازيان: الملكية المطلقة والاستبداد.
الانتقال إلى الشعر الدرامي التمثيلي كان بمثابة انتقال من الغيبي إلى المشخص عبر التمثيل الذي يعكس في ذاته شكلا ديموقراطيا، فالدراما في بنيتها الداخلية، هي بنية حوارية وفي شكل عرضها جماهيرية، أي أن هذا الانتقال إلى الدراما عبر عن ولادة الحرية الفردية متحدية الانصياع إلى القضاء وأعراف وحدة الجماعة، ويلمس العميد مظاهر ذلك في مسرحية سوفوكليس (أوديب ملكا).... حيث أخذت شخصية الفرد تظهر وسلطان الفرد يتغلب على سلطان الجماعة.
وتأكيدا على هذه الدلالات والمعاني يقوم العميد بترجمة مسرحية (الفرس) لايسخيليوس، التي أثارت في زمن عرضها لغطا، فحوكم الكاتب لإتاحته الفرصة لشخصية ملك الفرس أن يتلفظ بعبارات مشينة ومهينة لليونان، فكان نتاج ذلك الخلوص إلى أهم مبدأ في الدراما، وهو مبدأ (استقلال الشخصية) الدرامية وإعطائها كل الحقوق في التعبير عن نفسها وآرائها ومواقفها من خلال موقعها في العمل الدرامي، هذا هو فحوى الحكم الصادر عن قضاة أثينا، فكان تعبيرا عن مدى نضج الحياة الديموقراطية اليونانية، حيث التعدد والتغاير والاعتراف باستقلال شخصية الآخر، هذا المبدأ الجمالي / المعرفي - السوسيو- سياسي كان لا يزال يعاني العنت في زمن طه حسين الذي لم يتعرف على نموذج فني سوى الشعر العربي الغنائي المعبر عن الأنا الذاتية وخصوصية استجاباتها العاطفية والغريزية نحو العالم الذي هو أشبه بالمرحلة الشعرية البدوية اليونانية، حيث صوت الشاعر يعبر عن صوت جماعية ووحدة الأمة المناظر دلاليا للصوت الكهاني الغيبي فكريا، والنظام المطلق الاستبدادي سياسيا.
هذا المبدأ الذي أراد أن يشيعه العميد في الحياة الثقافية العربية التي لم تتعرف على الدراما بعد سوى بعض المحاولات الميلودرامية التي كانت تتعثر بها التجربة الريادية المصرية للسينما العربية، نقول: إن هذا المبدأ الجمالي الذي أراد العميد إشاعته في الحياة الثقافية والفكرية العربية، إنما كان تعبيرا عن تكاملية المشروع الفكري النهضوي في عقله، إذ كان يتوازى مع المنهجية الديكارتية حيث الشك والسؤال واستقلال شخصية الباحث عن الأهواء الدينية والقومية، وبالتوازي مع الحرية الاجتماعية والديموقراطية السياسية بوصفها المقدمات الضرورية للاستقلال الوطني والسيادة القومية.
فالعميد الباحث في الأدب مشغول بهم نهضوي يتجاوز ضيق أفق المثقف الاختصاصي (المتمجد) بمجد السلطة حسب الكواكبي، بل هو المثقف (الماجد) الذي يريد أن يكون الأدب ساحة لخوض معركة تنويرية شاملة على مستوى الفكر والسياسية والمجتمع.
فإذا كان نهوض اليونان يمثل الانتقال من المرحلة الشعرية الغنائية إلى المرحلة الدرامية، باعتبار هذا الانتقال هو انتقال من النظرة السحرية إلى النظرة العقلانية للعالم، أي: (من الميث إلى اللوغوس)، حيث ترتسم في كتابه (قادة الفكر) معادلة بمنتهى الشفافية الدلالية، إذ المرحلة الشعرية لديهم هي (كهانة - نبوة - دين - ملكية مطلقة - استبداد) بينما المرحلة العقلية فهي تساوي الفلسفة - الحرية - النظم السياسية المتنوعة والمتبدلة: (ملكية - جمهورية - ارستقراطية - ديموقراطية).
وعلى هذا فإن العميد لم يكن ينتج أفكارا مستوردة من الغرب كما يتقول عليه الأصوليون (إسلاميا وقوميا وماركسيا)، بل ذهب إلى المصادر المرجعية الأولى التي شكلت مرتكز النهضة الغربية، ليعيد إنتاج هذه السياقات -التي قادت لتفوق الغرب- في الفضاء الثقافي المصري والعربي، ليباده بها مجتمعه المصري ومن ثم العربي فالإسلامي والشرقي، لم يكن الرجل يبحث عن مصالحات وتوفيقات وتلفيقات بين الشرق والغرب لتحقيق الزواج السعيد فيما بينهما، بل كان العميد، مدفوعا بمبدأ أن معنى الحياة البشرية يكمن في صناعة الحضارة البشرية على طريق وحدة العقل الإنساني، وعلى هذا فإن مشروعه يتبدى عن سعي إلى (تصحيح) مسار الشرق والغرب معا، وأنه من أجل ذلك يطرح علينا (الثقافة الإنسانية) كمنهج وطريق، حسب ما خلص له الروائي المصري المتميز بهاء طاهر بدراسته النابهة والمتميزة في كتابنا المشترك عن طه حسين (العقلانية - الديموقراطية - الحداثة)، تحت عنوان (صورة الغرب في أدب طه حسين)(2)
ووعورة مسار العميد في عملية (التصحيح) هذه ربما كانت سبب هروبه بصورة أو أخرى إلى (سجن أبي العلاء) أي: وحيدا ضد العالم كما يخلص بهاء طاهر الذي يتلمس مأزق العميد في أزمة دوستويفسكي التي أسماها بالتناقض بين الأخوة الإنسانية الحقة وبين الحرية الفردية الحقة، حيث يقترح دوستويفسكي حلا (فنيا) أو (روائيا) لهذه الأزمة، إذ تقول الفردية للمجتمع إن الاتحاد وحده يصنع قوتنا (ولهذا) فإنني أتنازل لك عن جميع حقوقي وأضع نفسي تحت تصرفك... سوف أفني نفسي فيك وأذوب رابطة الجأش شريطة أن تزدهر أنت وتبقى (فيرد المجتمع على الفردية إنك تعطينا الكثير... وما تعطينا إياه لا يحق لنا أن نرفضه... ولكن ما حيلتنا إذا كنا من جهتنا نعذب أنفسنا في سبيل سعادتك؟ خذي منا كل شيء أيضا. وبكل ما نملك من قوة سوف نحاول دائما أن تملكي الحد الأقصى من الحرية الشخصية ومن الاستقلال (3)
إن العقل النهضوي الذي مثله طه حسين كان يطمح للسيطرة على كلية المواضيع التي يطرحها واقع متأخر كالمجتمع المصري ولذا فقد وظف عقله الموسوعي في خوض معاركه ضد التأخر على كل الجبهات وبمختلف الوسائل والأساليب تاريخ الأدب العربي - التعريف بالأدب اليوناني - البحث السوسيولوجي ودراسات الفكر الاجتماعي والسياسي، بل وحتى كتابة الرواية.
وفي هذا السياق يلتفت الروائي المصري بهاء لفتة مهمة إلى رواية (أديب) بوصفها رواية فريدة تدعو إلى الافتتان، مما يدعو إلى الأسف أن هذه الرواية لم تلق في تاريخنا الأدبي ما تستحق من الاهتمام والذيوع، رغم وجود بعض الدراسات الأكاديمية التي أشادت بالعبقرية الروائية النادرة لهذه الرواية في الأدب العربي.
يأتي ذكر هذه الرواية في سياق الحديث عن علاقة الشرق بالغرب لكنها تتجاوز تلك الثنائية النمطية في الرواية العربية عن الشرقي المحافظ الذي يصطدم بالقيم الغربية (المادية) فإما أن يتعالى على هذا الغرب (المادي) الخالي من الروح (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم، أو بمحاولة التوفيق بين مادية (الغرب) و(روحية الشرق) كما في (قنديل أم هاشم) يحي حقي أو باندحاره وضياعه.
فأزمة (أديب) تتجاوز إشكالية (الهوية) وهي تعيش تجربة حيرتها بين الشرق والغرب، لتشمل الوجود الإنساني، وتتصل بتحقيق التوازن بين تناقضات لا يوجد لها حل يسير، كما ألمحنا إلى الأزمة التي عبر عنها دوستويفسكي.
وعلى هذا فمأزق (أديب) يتمثل بعدم الاستنامة إلى دفء قفص الشرق المنبعث من تماثل الطيور وتلاصقها، حيث المآل الاستبداد والطغيان ومقولة (الكل في واحد) ولا الاندفاع وراء جموح الحريات الفردية التي لن تعود إلا إلى بيداء الوحدة حيث يعيش فيها الناس فرادى منعزلين، ومن هنا تظل حميدة (زوجته) - أيا كان الأمر- أحنى عليه من الغير.(4)
***
(1)مستقبل الثقافة - ص 55
(2)بهاء طاهر - صورة الغرب في أدب طه حسين - طه حسين (العقلانية - الديموقراطية - الحداثة) كتاب فصلي صادر عن عيبال - بدون تاريخ ص 204 (3)المصدر السابق.
(4)المصدر السابق.


(يتبع)....

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved