الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

قراءة في (قارورة) يوسف المحيميد
حين تكون الذات مقهورة«3»

منيرة الساهي وعلي الدحال
أو الذات - الآخر
منيرة وعلي هما الطرفان الأساسيان في معادلة الرواية، وقد اختار مؤلف الرواية أن يتخفي وراء منيرة أو ينطق باسمها لتكون هي السارد الأساسي في الرواية، واختارت منيرة أن تبدأ الحكاية من نهايتها لتعود في نهاية الرواية إلى النقطة نفسها تقريباً التي بدأت منها، وما بين النقطتين تقوم بعملية استرجاع زمني ممزوج باللحظة الراهنة لحظة الحكي، والرواية من هذا المنظور ذات بناء دائري يبدأ من نقطة ما ليعود إليها في نهاية الأمر فيما يشبه الاستدارة السردية، يقول السرديون عن ذلك: إنه خطاب الحكي، أما القصة فإن الزمن فيها خطا، لا يعود أبدا إلى النقطة التي بدأ منها أو تجاوزها، إنه زمن الواقع الذي يختلف عن زمن السرد، هذا الفارق في الخطاب أتاح لمنيرة أن تعيد تقييم القصة في كل تفاصيلها، فهي تطل على زمن القصة من خلال زمن السرد، ولا تكتفي بذلك، بل تصدر أحكاماً كثيرة، مثلاً حين غاب عنها علي بضعة أيام قالت كان فأري العزيز يقضي حكماً جزائياً أثناء انقطاعه عني، أو ربما يطمئن على نصف درزن من الأرانب الجبلية، نعم كان لديه بيت وأولاد وأم وأب، لكنهم خارج نطاق اللعبة السرية التي أتقن خيوطها معي، كخفيا كونه مجرد جندي مراسل برتبة جندي أول متحولا إلى قائد برتبة رائد، يقوم بدور خطر وسري للغاية في هذه الحرب العشوائية ( ) ما تسرده منيرة في هذه الفقرة من معلومات لا ينتمي إلى زمن القصة، إنها اللحظة الراهنة التي تحكي فيها قصتها، وتمزج فيها رأيها الشخصي فيما حدث، ولذلك تجدها كثيراً في موقف لوم لنفسها على أنها لم تنتبه منه إلى هذا الفعل أو ذاك.
تقول منيرة عن نفسها في هذه الفقرة الطويلة كنت أنثى، مجرد أنثى مهضومة الجناح كما يراني الناس في بلادي، أنثى لا حول لي ولا قوة، كنت أتلقى فقط كالأرض التي تتلقى المطر وضوء الشمس وضرية الفأس، كنت أتلقى كل شيء بخنوع حتى الحب، لم أبحث عمّن أحب، ولا يحق لي ذلك أصلاً، بل فرحت بمن يحبني، وبصراحة شديدة، لم يكن يهمني أن أحب قدر ما يسعدني أن أكون محبوبة ومعشوقة، أليس ذلك دلالة على أنني أتلقى وأستقبل، وأنا مجرد امرأة مستلقية، لقد كنت دائماً متلقية ولست مستقلة، كنت تابعة لأبي في طفولتي ومراهقتي، وسأكون تابعة لزوجي في شبابي، ثم سأتحول تابعة لولدي المراهق الذي سيأتي وينهاني، وسيكون ولي أمري والوصي علي.
إن مجتمع منيرة قائم على علاقات معينة تحترم التراتبية بين طبقاته، والتكافؤ بين أفراد كل طبقة، يريد علي الدحال من الطبقة الفقيرة أن تتزوج منيرة الساهي من الطبقة الوسطى لسبب أو لآخر، لا تسمح علاقات المجتمع بذلك، الحل أن ينتحل علي صفة رجل من الطبقة الوسطى حتى يكون مكافئاً لها، فتقبله وفق الشروط الجديدة، لكنه لا يستطيع الاستمرار في هذا الوضع الجديد أبداً، وحين تجيء اللحظة، وقد جاءت في موقف درامي عنيف في ليلة الزفاف، وقبل الدخول عليها، فإن كل فرد في هذا المجتمع يجب أن يحترم طبقته ويعود من حيث أتى، وقد آثر السارد أن تكون لحظة الكشف قبل دخول علي على منيرة، لأن فعل الدخول مؤشر على إمكانية الانتقال بين الطبقات، وهذا ما لا يسمح به مجتمع منيرة، حتى منيرة نفسها كانت ترفض ذلك حين سألها علي مرة سؤالاً افتراضياً حول هذا الموضوع ( ) منيرة - إذن - أمينة لتقاليد مجتمعها، وعلى الرغم من أن خديعتها العاطفية ظاهرة، فإن خديعتها الاجتماعية هي الأكثر ظهوراً، لقد جثا على ركبتيه أمامها في المحكمة، وطلب منها أن تسامحه، وأن تهرب معه من هذا العالم ( ) لكنها رفضت بشدة، لذلك يتعجب القارئ من هذا الكمال الذي تنشده منيرة ( )، إنها تشعر بالنقص، وتبحث عن الكمال، وإذا كان النقص لديها ارتبط بالاعوجاج والخضوع للرجل، فإن الكمال هو التمرد والتحرر من سلطة الرجل، لكن منيرة لا ترى ذلك، وأقصى تضحية يمكن أن تقدمها مقابل ألا تتزوج من علي أن تبقى طوال حياتها بلا زوج ولا ولد، ما الذي يميزها إذن عن أمها، أو عن أي امرأة أخرى في مجتمعها؟ لكن منيرة لا تفعل ذلك إلا ارتباطاً بالرجل، وكأنها تعيد إنتاج خطاب الخضوع للرجل في صورة جديدة، حتى عندما طلبت منها صديقتها أن تنام معها كي توقظ جسدها الذي يحتاج إلى من يوقظه، رفضت ذلك ( ) لأن هذا لا يحدث إلا مع رجل.
الجانب الذي تظهره منيرة من ذاتها لا يثير تعاطفاً كبيراً، بل يخرج المرء بعد أن يستمع إليها حتى النهاية بانطباع راسخ أنها تستحق ما حدث لها، لقد كانت منيرة ترغب في أن تُعامل من علي ومن الآخرين معاملة أفضل مما حدث لها، ترغب في أن يعترف بها الآخرون كائناً كاملاً مساوياً للرجل، له تطلعاته وأحلامه ورغبته في اكتساب الاحترام من الآخرين، لكن هذا لم يحدث، بل مُورس عليها قهراً باعتبار أنها أنثى، أي لا شيء، لكن الذي جعلها تستحق ما حدث لها أن رد فعلها كان سلبياً، بل لم يتبين القارئ طوال صفحات الرواية أي رد فعل منها على النقيض من النساء اللاتي عرضت لهن في دار رعاية الفتيات، لقد وصل الأمر بإحداهن إلى القتل دفاعاً عن كينونتها بوصفها إنساناً له أشواقه في الحياة.
الذات والخطاب السردي
لا يولي السرديون عناية كبيرة بالذات وفق التصورات التي طرحها الجزء النظري من هذا البحث، الذات في عرفهم هي التي تظهر في الخطاب اللغوي بوصفها فاعلاً أو اسم فاعل أو ضمير، بل لقد تجاوز بعضهم فعد الشخصية في الرواية لا قيمة لها، وحاول بعض التجريبيين أن يصنعوا رواية بلا سارد ( )، برغم ذلك قدم السرديون جملة من المصطلحات المتصلة بالذات لها فائدتها في إضاءة جوانب من الذات التي تتجلى في الخطاب، لعل أهم هذه المصطلحات ما فرق فيه جيرار جينيت بين (أنا الساردة) و(أنا المسرودة) ( )، في حالة القارورة تبدو منيرة الساهي أنا ساردة، وهي في الوقت نفسه أنا مسرودة، فما الفرق بين الموقفين؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب الانتباه أولاً إلى الإشكالية الأساسية التي اختيرت من أجلها هذه الرواية، وهي إشكالية أن المؤلف الواقعي لهذه الرواية رجل، والأنا الساردة في الرواية امرأة، عرض البحث لجانب من هذه العلاقة في موضع سابق، والآن يعرض لها من جانب آخر.
يرى السرديون أن سارد الرواية ليس هو المؤلف، بل هو شخصية متخيلة يتقمصها المؤلف ( )، وهو لا يتقمصها كلية، بل يتقمص دور السرد الذي تقوم به هذه الشخصية، بمعنى أن دور السرد هنا هو دور من الأدوار في حياة هذه الشخصية مثل أن تفعل، أن تسوق، أن تطبع، وهنا أن تسرد ( )، لكن المؤلف ليس مسؤولاً عمّا يحكيه السارد ( )، فما الفرق بين أن تكون منيرة ساردة أو مسرودة؟ الفرق هنا أن منيرة تعيد إنتاج نفسها مرة أخرى، بمعنى أن منيرة التي تحكي ليست هي تماماً منيرة التي تحكي عنها، وهو المأزق الذي تواجهه السيرة الذاتية في مدى صدقية التعبير فيها، وكونها مرآة حقيقية لحياة كاتبها، في حالة القارورة فإن منيرة أخذت شريحة مهمة من حياتها، وأرادت أن تعرضها على آخرين، وهو الذي بدا واضحاً في التفاوت الكبير بين زمن القصة وزمن السرد، لقد رأينا منيرة تطل على قصتها من بعيد، بل تعيد تقييم أجزاء فيها، وهي من خلال ذلك تحاول أن تقدم صورة عن نفسها تستطيع أن تكسب تعاطف الآخرين معها، لكن منيرة الأخرى لا أحد يعرفها، بل لا سبيل إلى أن يعرفها أحد لأنها في نهاية الأمر كائن من ورق، لا تاريخ له، ولا حياة له غير الحياة التي نراها أمامنا.
لكن، لمن تتحدث منيرة؟ من المسرود له في نص القارورة؟ هذا السؤال لا يبحث عن القارئ خارج النص، فذلك مجال بحث آخر، هذا السؤال معني بمتلقي السرد داخل النص نفسه، حين تقول منيرة مثلاً في ربيعي الرابع كنت أعاني من القلق وشح النوم، وكانت أمي تصاب بالتعب والإعياء وهي تهدهدني كي أنام ( ) فلمن توجه هذا الخطاب؟ هذا السؤال اهتم به السرديون كثيراً، وبحثوا عن العلامات النصية التي تحدد طبيعة هذا المتلقي داخل النص ( )، في نص القارورة لا توجد علامة نحوية أو صرفية واضحة تحدد طبيعة المسرود له، وكأن النص بكليته يتجه إلى أن يكون خطاباً عاماً، يعيد طرح السؤال عن ماهية المسرود له، لا تستطيع منيرة أن تتحدث بهذا إلى أحد من أقاربها، ولا تستطيع كذلك أن تتحدث به إلى رجل أيا كانت صلتها به، ولا يوجد في النص ما يدل على أنها تتحدث إلى صديقة لها، وهو أقرب ما يمكن تخيله هنا، ثم إن مسألة الخطاب العام مسألة مستبعدة، فلا توجد امرأة تمتلك الجرأة على ذلك، فهل احتمت منيرة وراء اسم المؤلف لتطرح من خلاله ما تريد؟ أم اختفي المؤلف وراءها ليكشف ما لا تستطيع المرأة الكاتبة أن تكشفه؟ غير ذلك لا تقدم السرديات أدوات تحليل مهمة يمكن أن تضيء جوانب في الذات لا تستطيعها المناهج الأخرى، بل إن السرديات في هذا الجانب أكثر المناهج إهمالاً للذات.


د. أحمد صبرة

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved