الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

شعرية المألوف وعوالم الذاكرة القصيّة
قراءة في تجربة محمد حبيبي الشعرية «1»
تكتسب رؤية محمد حبيبي الشعرية نسقيتها في الخطاب الشعري العربي المعاصر من خلال تميزها بمقدار كبير من الخصوصية والتفرد، فهي تحمي مناطق نفوذها الإبداعية بسياج من البساطة والعفوية التي تبتعد بها كثيراً عن مناطق الإبداع الفخمة التي تخفي داخلها خواء، وتكرارا يقوّض وجودها المستقبلي، ويمحوها من الذاكرة الإبداعية.
فهو يحتفظ لنفسه بمساحة إبداعية شديدة الخصوصية تتماس مع مناطق البراءة البهيجة في حقول الطفولة، وتتصادم مع قسوة الحاضر المسيطرة، لتتولد تفاصيل المفارقة التشكيلية والدلالية، وتشعل الدهشة في الأشياء والتفاصيل اليومية المألوفة، لتستخلص منها مفردات الشعرية دون الوقوع في شرك الفجاجة، أو المكرور، وتحاور المسكوت عنه لتبرز هزيمة الذات المبدعة المقهورة في تشكيل البنية الظاهرية للنص، وتترك لحظة الانتصار للمتلقي، حين يهتدي إلى تشكيل البنية العميقة في النص.
وعلى خلاف كثير من الدواوين الشعرية المعاصرة تتشبث الذات المبدعة بالحضور الملموس في تشكيل العنوان، مرة واحدة في عنوان الديوان الأول (انكسرتُ وحيداً) من خلال ضمير المتكلم البارز المتصل (تُ)، ومرتين في الديوان الثاني (أُطفئُ فانوسَ قلبي) من خلال ضمير المتكلم المستتر في الفعل (أُطفئُ)، وياء المتكلم في (قلبي).
وتستمد الذات المبدعة شرعية الحضور من قدرتها وجرأتها على البوح بهزائم الماضي (الانكسار والوحدة)، واعترافها الجسور بخيبة واقعها، وجفافه، وخلوه من المشاعر والأحاسيس( إطفاء فانوس القلب).
تهيمن الوظيفة الشعورية التعبيرية على تشكيل القصائد في الديوانين، من خلال تكثيف ضمائر المتكلم البارزة (المنفصلة والمتصلة)، والمستترة، وهي تشير مباشرة إلى حضور الذات المبدعة في التشكيل اللغوي والدلالي.
تتكئ الرؤية الإبداعية في ديواني: (حبيبي) في مناطقها البهيجة، على الطفولة، وفضاءاتها الحميمة، وأماكنها التي تثبت فاعليتها في الذاكرة، وتستحضرها الذات المبدعة دائماً دالا مضيئاً (قمراً) يضيء مناطق الحاضر المعتمة:
(ربما حين أغرقُ وسْطَ الظلامِ
أرى قمراً
ظلّهُ يتخلّلُ خوصَ (القعادةِ)
(حَوْلي) الصغيرُ، سريرُ الطفولةِ،
صحْوي على الصوتِ في، دُبْيَةِ، الخضِّ
مربوطةً بالسريرْ
صوتُ مُكْنُسِ أمّي بليلاً بقطْرِ الندى...)
«أطفئ فانوس قلبي ص28/نادي جازان الأدبي2004م»
ويحتفظ الماضي دائماً بتألقه وخصوصيته، وتألقه على مناطق الحاضر المماثلة مع تعددها وتبرّجها، ويتجه التشكيل اللغوي إلى تثبيت الوعي بانتصار الماضي في ذهن المتلقي عن طريق المقارنة بين مفردات الواقع البراقة الزاهية الكثيرة، وبين لحظة واحدة مدهشة من الماضي، ظلت منقوشة باقية في وعي الذات المبدعة:
(فرْحتُهُ بالمكتبِ ذي الأدراجِ المنزلقهْ
بسريرِ الأطفالِ بمرتبة الإسفنجْ
الدولاب الزاهي بالألوانْ ...
هل كانتْ مثلي
يوم انتزعَ أبي خشباتِ صناديقِ الشايْ
ليسمِّرَ دولابي الأولْ؟)
«طفئ فانوس قلبي ص20»
يتجه التشكيل اللغوي إلى جعل الحاضر في مفرداته الكثيرة البراقة (المكتب ذي الأدراج، سرير الأطفال، مرتبة الإسفنج، الدولاب الزاهي بالألوان...) يواجه الماضي في مفردة واحدة رائدة(دولابي الأول)، ويعمق تشكيل الاستفهام (هل كانت مثلي؟) دلالة النفي في ذهن المتلقي، ليفوز الماضي بلحظة الانتصار النهائية، ويُكتب له الحضور الأخير المؤثر في التشكيل اللغوي، وفي الفاعلية الدلالية.
ويتأكد انتصار الماضي دائماً في وعي الذات المبدعة، كلما اصطدم بالحاضر، ليس في مجال المقارنة القائمة على المفارقة التشكيلية والدلالية فقط، بل من خلال الاستعداد للتضحية بكل مباهج الحاضر، ومفرداته السارة (الحديقة، الزهور، الفناء الوسيع، الشرفات، الثريات، الرخام...) في مقابل الإبقاء على شاهد وحيد من الماضي، صحِبَتْهُ الذات المبدعة في لحظات التجلي والإبداع والفرح (لمبة القاز):
(خذوا كلَّ شيءٍ زهورَ الحديقةِ،
هذا الفناءَ الوسيعَ
خذوا الشرفاتِ، الثريّاتِ..... .... .. .
خذوا كلَّ شيءْ،
فقطْ
اتركوها، كشاهدةٍ،
لمبةَ القازْ)
«أطفئ فانوس قلبي ص 27»
يتسلط فعل التضحية (خذوا) على كل شيء يتصل بالحاضر مهما كان غالياً ونفيساً، ويتجه التشكيل اللغوي إلى تثبيت الماضي، وإبقاء شاهده (لمبة القاز) من خلال فعل التشبث والإبقاء (اتركوها) ليعلن الماضي انتصاره تشكيلياً ودلالياً.
تمثل ذكريات الماضي لحظات الفرح الباقية التي تتغلب بها الذات المبدعة على جهامة الواقع وقسوته، وتستدفئ بأحاسيس البراءة ومشاعر الطفولة المرحة التي تمنحها وهج التألق والحيوية الدائمة، وعندما يخلو الماضي من البراءة ومرح الطفولة، لا تترك أطلاله، إلا الحزن والبكاء: (كان في بيت جدي تينةْ أقبِّل أغصانها مرةً وأجرِّحها خفيةً
ليسيل الحليب البهيُّ على جذعها فأبكي على التينِ
أبكي على بيت جدي
على الطفل
في داخلي
ي
خ
ت
ف
ي)
(انكسرت وحيداً ص 31 /دار الجديد بيروت، لبنان 1996هـ)
يعمد التشكيل اللغوي إلى تفعيل المشهد من خلال الانتقال السريع من الفعل الماضي الحكائي(كان) إلى الأفعال المضارعة (أُقَبِّلُ، أجرّحُ، يسيل) لبث الحيوية في النص، لأنها تفيد التجدد والاستمرار، وتوحي بالتشبث بذكريات الماضي الجميلة، والرغبة في استصحابها دائما.
ثم يثبّت التشكيل اللغوي منطقة الحزن في النص من خلال الأفعال المضارعة أيضاً (فأبكي، أبكي، يختفي) ليقترن الحزن والبكاء، باختفاء أحاسيس الطفولة، ووأد لحظة الاستعادة الطفولية في الذات المبدعة، حينما تنهار أطلال الماضي، وتختفي معالم الفرح في ذكرياته (التين، بيت جدي، اختفاء الطفولة).
تشكل المفارقة التشكيلية والدلالية وسيلة فعالة من وسائل الرؤية الشعرية المعاصرة، وتتجه بؤرتها الدلالية من النص إلى المتلقي مباشرة، حيث تتكثف فاعليتها في وعيه، وذهنه من خلال تفاعله مع دوال التشكيل اللغوي.


د. أسامة البحيري

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved