الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

النظرية العربية عند النقاد القدامى من منظور حديث
كيف قرأ النقاد المحدثون ابن طباطبا؟(5)

قرىء ابن طباطبا من زوايا متعددة من النقاد والباحثين المحدثين. وبما أنّ الاختلاف ورد حول آرائه النقدية فهذا دليل على أنّ نظريته قد لاقت اهتماماً وإيجاباً، فالذوق الذي نادى به عالجه الآمدي (ت 370 - 980) وأكبره وأجلّه ويرى أنّه من أدوات ذوي البصر، إضافة إلى المعرفة والدربة والموهبة وأن النقد الذي يخلو من الذوق والمعرفة لا يكون نقداً صحيحاً، ولا نرى أنّ الآمدي ابتعد عن رأي ابن طباطبا، كما أنّه يكن له تقديراً واعترافاً بنظريته النقدية، فقد ألّف كتاباً يرد فيه على ابن طباطبا ويكشف أخطاءه المنهجية، وهذا دليل على اهتمام الآمدي وهو المعروف في عالم النقد التراثي، أما أحد محققي كتاب (عيار الشعر) فيقول: إنّ ابن طباطبا يرى سر اللذة في الشعر ناجم عن عمل أو حدث نفسي، ويقرب هذا الفهم لدور الشعر في النفس من قول أرسطو في دور المأساة في النفس، إذ يرى أنّها تطهر النفس عن طريق تخليصها من الأحاسيس والانفعالات الضارة، وذلك التطهير الذي ارتآه أرسطو بالنسبة للمأساة قريب من سل السخائم الذي ارتآه ابن طباطبا، ولعل ما يميز البناء النقدي عند ابن طباطبا مقياسه النقدي الذي جمع فيه (النظرية والتطبيق) في آن واحد، ولخص هذه النظرية في عدد قليل من الكلمات، حيث يقول: (وعلة كلِّ حسن مقبول الاعتدال، كما أنّ علة كلِّ قبيح منفي الاضطراب ...) والاعتدال عنده يعني التوافق والانسجام في ثلاثة أمور، مر ذكرها، وركز في نقده على اتفاق اللفظ مع المعنى، وهذه قضية نجدها متناثرة هنا وهناك في كتب النقد والأدب، منذ القدم، منذ أن قال الجاحظ: إن المعاني مطروحة في الطريق، فالمعنى في نظر الجاحظ يسهل الحصول عليه، لكن كيف يتفق مع اللفظ، فليست الإشكالية في نظر الجاحظ في ذات المعنى، بل في ذاته وتوظيفه، ومتى يتفق مع اللفظ ليخرج بمعادلة تؤثر في المتلقي فيستجيب لها، فإن كانت موافقة كما ذكر ابن طباطبا في نظريته قبلت وإلا فالعكس صحيح، هذا هو الشطر الأول الذي أقام ابن طباطبا نظريته عليه، أما الشطر الثاني فقد اعتمد فيه على الاستعداد النفسي لقبول العمل الفني لدى المتلقي، وقد رأى البعض أنّ للكلام زماناً ومكاناً يقال فيه، واستعداداً نفسياً لقبوله، فمكان الطرب الذي يأتي إليه الإنسان للاستمتاع ينافي سماع قصيدة رثاء أو هجاء، وكذلك الطرب في مكان الحزن، لذلك فالنص موقف وإثارة، فهل التزم أبن طباطبا بهذا المبدأ؟
** في الجانب الثاني من نظريته لم يهتم بهذا الجانب، بل ركز اهتمامه على العقل، فهو يرى أن نظم الشعر عمل عقلي بالدرجة الأولى، وهذا قول عليه الكثير من الملاحظات، وقد عاب النقاد القدامى مدرسة أبي تمام العقلية، وهناك من النقد ما يذهب إلى حالات الغيبوبة الإبداعية، فالشعر عمل ينبع من الشعور والإحساس العميق، بل هذه الحالة الطبيعية للفن، فإذا أخذنا شعر المناسبات والمنظومات الفقهية والنحوية مثالاً نجدهاً من ضمن الشعر العقلي، تخلو من الأحاسيس الفنية، فالفن لا يقيد بالحدود، على رأي المدرسة المضادة لهذا الاتجاه، لكن الوقوف في الوسط، مع مراعاة عدم تقييد الفن بلوائح محددة، وعدم الخروج على الآداب العامة مطلوب وسنلخص هذه الآراء في النقاط التالية:
1 - بما أنه مستقل في نقده ويحكم الذوق في العمل الفني، فلا أظن أنه يعني بكمال العقل منهج المدرسة العقلية الخالصة، بقدر ما يعني التوازن بين الفن الحر والعقل المتوازن، ولعل قول أبي الطيب عن نفسه وأبي تمام ليس عنا ببعيد (أنا وأبو تمام حكيمان، أما الشاعر فالبحتري) وهذه الحكمة لم تقف عائقا في إبداعات المتنبي وأبي تمام، فقد جمعا بين الإبداع والحكمة، لكن حرية البحتري فاقت حكمة أبي تمام والمتنبي، كما فاق شعر حسان قبل الإسلام شعره بعده، لكنه ظل شاعراً تفوّق على غيره، فهناك من جمع بين الطرفين، وهناك من لم يستطع.
2 - انتقاده للشعراء الذين طغى الخيال في شعرهم على المكون العقلي، بل صار العقل يعجز عن تفسير بعض ما يقال، وهذا رأي نتفق معه عليه.
3- وضع خطة لنظم الشعر، حسب المنهج التطبيقي الذي تحدثنا عنه، وهذا الرأي يدخل في باب تقييد الشاعر ببنود معينة.
4 - نقده الشديد لمن جنح به الخيال، وتقييده بالواقع، وفي هذا الرأي تقليل من قيمة الخيال وهو لب الشعر، ونحن نعرف أنّ بني تغلب لم تملأ البر حتى ضاق بها، ولم تملأ البحر بالسفن! لكنه خيال مبالغة مقبولة عند من يتذوق الشعر، وإن كان ابن كلثوم قد كذب في نظر البعض، بما يعنيه ظاهر النص عند اللغويين (Surface Structure) فإنه قد صدق في باطنه، كما يعبر عن ذلك المصطلح نفسه(Deep Structure) والصدق الذي يعنيه ابن طباطبا وغيره من النقاد صدق نسبي، يحدده سياق الكلام من داخل النص نفسه، وهذه قضية اختلف فيها النقاد، من حيث النظرة العامة للمفردة نفسها، فمنهم من يرى أن (أعذب الشعر أكذبه) ومنهم من يرى أن أعذب الشعر أصدقه، وقد أشرنا إلى المدلول اللغوي من المفردة. ويؤكد النقاد على أن أول من أثار هذه القضية في معانيها ومدلولاتها ابن طباطبا، وقسمها إلى أقسام منها: 1- الصدق الفني: ويعني به صدق الفنان مع نفسه أولاً ثم مع فنه ثانيا، والأمران مرتبطان ببعضهما، فإذا صدق مع نفسه صدق مع فنه، والعكس صحيح.
2 - الصدق التاريخي عند الحديث عن حادثة تاريخية، وفي هذا الرأي موافقة للواقع الذي حفظه التاريخ من خلال الشعر، فقد خلّدت أشعار أبي تمام ذكر المعتصم أكثر من تخليد الروايات التاريخية، ومثلها قصائد أبي الطيب المتنبي في سيف الدولة، وصدق كعب بن زهير عندما سأله عمر بن الخطاب عما أعطاهم الحارث، فقال ذهب ما أعطانا وبقي ما أعطيناه.
3 - الصدق الخلقي: كتجنُّب الكذب في نسبة شيء للممدوح ليس فيه، مثل نسبة الكرم إلى بخيل، لذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه - كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه، وقد مال إلى القدماء بأنّهم أصدق من المحدثين، وبرر لذلك ببساطة الحياة الجاهلية، وتعقيد الحياة الحديثة (في زمانه) وفي هذا ميل إلى القديم، مع أنه امتاز عن غيره بالواقعية والإنصاف، كما سنذكره بعد قليل.
4 - صدق التشبيه وله فيه رأي يعتمد على ركن أو أكثر من وجوه التشبيه، مثل (كأن - ككذا ...) ويؤكد بعض النقاد على أن أول من حسم هذه القضية ابن طباطبا في كتابه المذكور .. ونود أن نخلص من كلِّ ما تقدم إلى النقاط التالية في نظرية ابن طباطبا:
1- اعتمد ابن طباطبا في نظريته على الذوق أولاً ثم التطبيق ثانياً.
2 - وضع قواعد عامة للشعر تختلف عما وضعه وناقشه اللغويون من معاصريه، مثل: ثعلب (ت 291) في كتابه (قواعد الشعر) الذي اعتمد فيه على المسائل النحوية والبلاغية، ولم يهتم بالناحية النقدية الفنية، وركز في كتابه على أشعار القدماء وأهمل المحدثين، ولم ينصفهم كما أنصفهم ابن طباطبا، وهو الشاعر المحدث، وقد أختلِفُ مع النقاد الذين عزوا اهتمام ابن طباطبا بالشعراء والمحدثين لأنه منهم، فابن المعتز من الشعراء المحدثين، لكنه لم يعزو البديع لهم، بل عزاه إلى القدماء، فالسبب سبب نقدي منطقي وليس تحيزاً، فكتاب (البديع) لعبدالله بن المعتز (ت 296 - 908) الذي اهتم فيه بالرد على من يقول إن البديع من اختراع المحدثين، مثل بشار وأبي نواس والبحتري، وغيرهم، أنصف الطرفين وناقش القضية من منظور تراثي.
3 - اهتم ابن طباطبا بالتطبيق أكثر من التنظير، وخالف في ذلك من عاصره من النقاد، وركز اهتمامه على الواقع أكثر من الخيال.


د. سلطان سعد القحطاني

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved