الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 26th December,2005 العدد : 135

الأثنين 24 ,ذو القعدة 1426

أغنية عن عصر ما بعد الاستشراق(1- 2)
فاضل الربيعي*
بعد احتلال بغداد في التاسع من نيسان - أبريل 2003 بأيامٍ قليلة فقط، وقفت مطربة المقام العراقي فريدة، لتغني في دار الأوبرا الهولندية وبمصاحبة الاوركسترا الملكية أول أغنية مقام باللغة الهولندية. لشد ما بدا هذا الزواج الغنائي الشاذ والغرائبي في تلك الأمسية، حيث امتزج الصوت الكورالي الشرقي القادم من (بلاد ألف ليلة وليلة) الأسطورية بنفخات البوق الجنائزية الصادرة من آلة الفلو الغربية، وكأنه مصمم لا لإعلان ولادة تجربة ثقافية تصالحية بين الشرق والغرب، وإنما بدرجة أكبر من ذلك لإعلان ولادة نوع غير مسبوق من الصور النمطية التخيلية في عصر ما بعد الاستشراق، حيث صورة المرأة الشرقية وهي تصدح بأغنية غربية، ولكن من دون أن يبدو الأمر وكأنه يتضمن أي قدرٍ من الرطانة.
بيد أن المفارقة بدت ساطعة، مع ذلك، فالأغنية عن بلد ترنح للتو تحت القصف الوحشي، وفي بلدٍ آخر اُعتبر أحدث شريك في الغزو؟ فهل ثمة من صلة عضوية حقيقية بين الغزو العسكري الأمريكي للعراق وبين هذه التجربة الموسيقية التي جرت في إطاره؟ وهل وضع احتلال أفغانستان والعراق معا، النهاية المحتومة لعصر الاستشراق القديم وولادة عصر ما بعد الاستشراق هذا؟ مثل هذه الأسئلة المُلحة تبدو مُلحة أكثر فأكثر، حين يجري إمعان الفكر مليا في خطاب التحرير، الذي كان صخبه يتعالى مع دوي القنابل في الليالي الباردة السابقة على سقوط العاصمة العراقية، بينما كانت فريدة تستعد خلف كواليس المسرح لإطلاق أغنيتها عن البدو الغرباء في شوارع الغرب النظيفة؟ بالنسبة للمطربة العراقية المهاجرة التي تعيش لاجئة في هولندا منذ بضع سنوات، وربما بالنسبة للهولنديين أنفسهم الذين أصغوا - تلك الليلة - إلى ذلك المزيج الغريب من الأصوات وكأنهم كانوا يصغون إلى صوتٍ بعينه يأتي منسابا من الماضي البعيد، فيمكنهم من أن يستردوا ثانية ذكرياتهم الجميلة عن الشرق، فإن التجربة برمتها تبدو بريئة تماما وخالية فوق ذلك من أية شبهات محتملة.
كانت فريدة في ذلك المساء الحزين الذي أعقب سقوط بغداد تصدح بصوتها الجهوري أمام حشد من الأوروبيين والعرب واللاجئين العراقيين، من دون كثير إدراك بالمغزى الحقيقي لأبعاد هذه التجربة الموسيقية وظلالها. وكان لافتا أكثر بكثير ربما مما يمكن للمرء أن يتصوره، أن كلمات الأغنية التي كتبت بشكل غير معتاد بلغة هولندية ركيكة، تتحدث عن تجربة وصول اللاجئين العراقيين إلى الغرب.
تقول الأغنية:
بملابسنا الرثة والمتسخة
وصلنا متأخرين إلى المدن النظيفة
إلى المدن الأنيقة
فهل أشرقت الشمسُ حين كنا في الغابة؟
وهذه الأيدي البيضاء
التي تقودنا من معاصمنا
هل فكرتْ في العتمة؟
هل كنا مرتبكين أمام الثلج
بأصواتنا الغريبة
وذكرياتنا الصحراوية؟
يا إلهي لقد وصلنا
ولكننا ما نزال تائهين
يمكن القول بكل ما يلزم من الموضوعية والحياد: إن وظيفة هذا النوع من القصائد قد يتجاوز إطار الشعر، إلى ما هو أبعد من العالم الرومانسي للمُغناة الشعرية عن عذاب اللاجئين الطالعين من الغابة. إنها، إلى حد ما، وظيفة شبيهة بإعلان موسيقي مهيب عن موت فكرة، وولادة فكرة أخرى، وموت صور منمقة وزائفة، وولادة أخرى أكثر تنميقا (وتزييفا).
فهل انتهى عصر الاستشراق إذن وولد عصر ما بعد الاستشراق، وبحيث تصبح المرأة الشرقية، السمينة والشبقة كما صورتها كتابات ومؤلفات الرحالة عن مصر والجزائر والمغرب والعراق وفلسطين وسورية، موضوعا (ثقافيا)، وذلك حين تغني- المرأة الشرقي ذاتها - أغنيتها ذاتها، ولكن هذه المرة بلغة الآخر وموسيقاه؟ وهل أصبح علينا التغنيً بسحر الغرب المعاصر، بدلا من سحر الشرق العظيم؟ لقد بزغ الاستشراق (الكلاسيكي السابق) مع نوع مماثل من هذه الكلمات والصور، حيث تعج الأسواق والشوارع في الشرق المسلم، برجال من البدو التائهين الذين يرتدون ملابس خشنة ورثة وبنساء محجبات زائغات البصر، مثيرات للفضول بشكل لا يُصدق، بينما يبزغ عصر الاستشراق الجديد مع نوع مألوف شبيه من الصور والكلمات المنمقة، حيث البدو أنفسهم وهذه المرة أيضا بذكرياتهم الصحراوية وأصواتهم الغريبة، ولكن وهم يتجولون مسحورين في شوارع الغرب النظيفة بدلا من طرقات الشرق.
لقد جاء البدوي بنفسه - بما هو موضوع الاستشراق القديم - ليتجول في شوارع الغرب صاخبا رث الثياب غريب الأصوات والذكريات، عارضا نفسه من جديد وعلى الغرب نفسه، الذي طالما رأى فيه مصدرا للسحر، لكي يصبح موضوعا (أثيرا) من مواضيع ما بعد الاستشراق.
إن المناسبة التي تنطلق معها هذه التجربة الثقافية المثيرة وبمحاذاتها، هي التي تفرض على المرء، وليس أي باعث آخر حتى وإنْ بدا من غير إرادته ورغبته، التأمل في البُعد الحقيقي للتلازم بين عودة الاستعمار إلى الشرق، بكل ما يصاحبه من إنتاج صاخب للصور القديمة والنمطية عن عالم العرب والمسلمين، وبين بزوغ عصر استشراق جديد يعود فيه الغرب إلى مواضيعه المُحببة التي بدا أنه قطع معها، أو اكتشف على استحياء مقدار الزيف والرياء فيها.
وبالنسبة لكاتب كلمات الأغنية، حتى ولو افترض المرء أنه قد يكون شاعرا (عراقيا) لاجئا أو شاعرا (هولنديا مغمورا)، فإن مشاعر التعاطف مع اللاجئين العراقيين قد تبدو هي الأخرى، وعلى رغم كل العنفوان الذي يمكن أن يطبع نصًا(شعريًا) من هذا النوع، أقل أهمية وإلحاحا من مسألة إبراز وتصعيد لحظة الانبهار بالغرب وحضارته ومدنه الجميلة والساحرة، بل والاستسلام له والانقياد الأعمى لتصوراته ورؤاه عن الآخر والعالم والتاريخ.
لقد أصبح الغرب نفسه هو موضوع ما بعد الاستشراق. إنه موضوع السحر، وحضارته ونظمه الديمقراطية وسحر وجمال شوارعه ومدنه، ستغدو هي الموضوع المركزي المتماسك والصلب إلى حد بعيد، الذي سيحل محل الموضوع المركزي القديم، أي محل أسطورة الشرق العظيم. لقد تلاشى سحر الشرق أو ذاب أو أخلى مكانه لسحر الغرب الخفي. وهذا ما تنبئ به على أكمل وجه أغنية المقام العراقية التي غنتها فريدة على أنغام فرقة الاوركسترا باللغة الهولندية - لا العربية -.
إن المعاناة والإحساس بالغربة بفعل الانتقال من مكان إلى آخر، يمكن لها أن تتلاشى أيضا أمام طغيان الشعور بالفوارق الهائلة بين الوطن القديم في (الغابة) وبين الوطن الجديد. ومع ذلك، ثمة شيء آخر لامسته وكشفته كلمات الأغنية بقوة ساطعة: إنها الروح الاستعمارية القديمة التي كانت حينئذٍ تستيقظ، على نحو مفاجئ في أوساط الطبقة السياسية اليمينية في أوروبا وإلى حد ما في أوساط بعض قوى اليسار التقليدي المؤيدة لغزو أفغانستان والعراق، مع كل نفخة بوق في دار الأوبرا ومع كل ضربة طبل في ساحة الحرب على حد سواء.
ففي أوروبا كما في الولايات المتحدة، وفي اليابان كما في بعض بلدان أوروبا الشرقية وربما في كوريا الجنوبية أيضا، كان هناك من ينفخ في بوق داود داعيا (إلى المضي قدما) لاقتحام الغابة، من أجل اقتلاع لصوصها وأشرارها وبرابرتها المتوحشين. وكانت كل كلمة في الأغنية تبدو، آنئذٍ، ومن دون تصميم وإدراك عميقين من كاتبها، وكأنها تنفخ في النار المشتعلة. ليس مصادفة أن الأغنية جاءت في هذه اللحظة الاستثنائية في التاريخ الجديد للإمبرياليات الجماعية: غزو الغابة. كان غزو العراق، أو الغابة التي يختبئ فيها زعيم شرير اسمه صدام حسين كما صوره الغرب طوال أكثر من عقدين من الزمن، قد انطلق للتو بمشاركة فرقة عسكرية هولندية صغيرة سارعت إلى التمركز ويا للمصادفة، في إحدى محافظات الجنوب وهي إقليم جغرافي تضاهي مساحته تماما مساحة هولندا.
كان الهولنديون بأياديهم البيضاء (التي قادت اللاجئين العراقيين من معاصمهم في الشوارع النظيفة من قبل كما لو كانوا قبيلة من العميان، يتمركزون عند حافة الصحراء قرب الفرات في السماوة (مساحتها الإجمالية 40 ألف كم) عندما كانت فريدة تصدح بأغنيتها عن الثياب الرثة والذكريات الصحراوية.
(يتبع)...


* كاتب عراقي

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved