Culture Magazine Monday  27/08/2007 G Issue 213
فضاءات
الأثنين 14 ,شعبان 1428   العدد  213
 

حرِّية التعبير ..
الثّابت منها والمتحوّل!
عبد الرحمن بن محمد السدحان

 

 

- لازمني باستمرار خلال مسيرتي الكتابية سؤالٌ يتراكم حوله خلافٌ طويلُ الأمد، متعدِّد الأبعاد حول حرِّية الكاتب وهامشه المتاح وغير المتاح في التعبير.

أ - فهناك مَنْ يعتقد وجود خطوط حمراء وشبه حمراء تحدُّ من حرية الكاتب في التعبير، وهذا صحيح في أكثر من مكان وزمان.

ب - وهناك مَنْ يرى أنّ الأمرَ نسبيُّ القياس، بمعنى أنّ حرية التعبير تخضع لثوابت ومتغيّرات الحكم الشخصي لهذا المرء أو ذاك، سواء كان كاتباً أو قارئاً أو رئيس تحرير أو مسئولاً عن الرقابة الرسمية أو المجتمع ككل بجماعاته وأفراده.

* *

* لكن تبقى هناك حقيقة ثابتة أزعم أنْ لا خلافَ حولها، هي أنّه لا توجد حرية مطلقة للتعبير سوى ما يختزنه خيالُ بعض الشعراء ومَنْ يتبعهم من الغاوين، والحرِّيةُ المطلقة ليست في تقديري المتواضع مطلباً لمن يدَّعي أنّه حرٌّ مكلّف وعاقل! لا بدّ أن تخضعَ لقَدْرٍ من (التقنين) ترسم حدودَه الدولةُ والمجتمعُ والقيمُ والأعرافُ.

* *

* ومن ثم فإنّ أيَّ مفهوم آخر لحرية التعبير يناقضُ هذا التصوُّرَ، هو في تقديري المتواضع أيضاً، دعوة مفتوحة لمصادرتها وسَحْب البساط من تحت أقدام المتفيّئِين بظلِّها وإخراجها من فردوس اليقين إلى متاهة الشك، لتتحوّل في نهاية المطاف إلى شقاق بين أغراض وغايات يتعذَّر التوفيق بينها، وقد لا يُحسَمُ الخلافُ بسببها إلاّ بالقوة المجرَّدة، وتكون الحريةُ نفسُها أوّلَ (الشهداء)!

* *

* من جهة أخرى، اعتقدتُ وما برحتُ أُصرُّ على الاعتقاد أنّ هامش الحرية في المشهد الثقافي في بلادنا موجود بقَدْرٍ يلائم المناخ المتاح للتعبير، ولم أشعر في يوم من الأيام أنّ هناك جداراً من حديد يمنعني من طرح فكرة ما ممّا يفيد الناس لا ويضرُّهم!

* *

* وبتعبير آخر، حرية التعبير عندي مثل السلطة في عرفنا نحن الإداريين، تُؤخَذ في الغالب ولا تُعطَى، ورئيس التحرير يستطيع على نحو أو آخر أن يكيِّف هذا الأمر (برجماتياً) فيهمِّش مساحة التعبير بالقدر الذي يجنِّبه شرارة الاصطدام مع مصْدر الضوابط، وقد (يبالغُ) رئيس التحرير حيناً في ممارسة سلطة التهميش هذه إلى حدِّ مصادرة حرية التعبير في مطبوعته، وقد يوسِّع هذا الهامش بذكاء المهنة، ومهارة القيادة، فينعكس هذا التوجُّه إيجاباً على المطبوعة التي يتولَّى أمرها، لتطرحَ ما ينفعُ الناسَ ولا يضرُّها!

* *

* والأمثلةُ الميدانية لما أقول كثيرة .. و(مهنة) الكتابة في التحليل الأخير عمليةٌ إبداعيةٌ قبل أن تكون مهنةً محفوفةً بالمحاذير والمتاعب! ويراودني هاجسٌ يحملني على القول بأنّ الرقابة على الكاتب ليس مَصْدرُها دائماً السلطة الرسمية، إنّما تُمارَسُ من لدن رئيس التحرير أو شخص أو أشخاص متنفّذين داخل (غرفة القيادة) في هذه المطبوعة أو تلك، وقد تكون أحياناً من الكاتب نفسه حين يغلُو في توجُّس الحذر فيما يكتب، فيحرم نفسه فرصة الإبداع، ويحرم قرّاءه فرحة الاستمتاع!

* *

* وبهذه المناسبة، فقد وصفني أحدُ النقَّاد يوماً بأنني أجامل (نفسي) والسلطة والناس، فيما أكتب، ولم أجدْ بُدّاً من إنصاف قلمي بالردِّ حين قلتُ بأنني لم أكن عبر سيرتي مع الحرف الجميل مجاملاً، فأهمِّش الحقَّ لمصلحة الباطل، وأرجِّح الشك على حساب اليقين، أو أُظهِرُ الظنّ على الحقيقة، ولكنني حين أجد يوماً أنّ الحديث عن أمرٍ ما قد ينأى بي عن جادّة الحقِّ والحقيقة، أو يحيِّد قدرتي للسيطرة عليه، عندئذٍ سأغمد قلمي في جرابه، مؤْثراً الصَّمت على الكلام!

* *

* أمّا إنْ كان المقصود ب(المجاملة) أنني لا أُشعل النيران خلفي وأنا أركض في مسارات الحرف، كي أسترق سمع الناس أو بصرهم، نعمةً لي أو نقمةً عليّ لهوى في نفسي أو في نفوس الناس، فأشهَدُ أنني من ذلك بريءٌ براءةَ الذئب من دم يوسف، وللناقد أن يسمِّيَ ذلك ما شاء، لماذا؟ لأنّ (سطوة العقل) هي قوّة الرّدع في وجدان الكاتب، تسيِّر (فعل) الكتابة، وليست (بالونات) اللغة التي تنفجر في وجه صاحبها، ثم تذهب معه أدراج النسيان!

* *

* وبعد .. فقد علّمَتْني مسيرةُ الحرف أنّ الكاتب الذي يحترمُ قلمَه وقرّاءه هو الذي يتصدّى لقضايا الهمّ العام بمنهجيّة حضارية في التفكير، وأسلوبٍ أدبيّ جميل في الطرح وصُولاً إلى ما يريد! وأرجو ألاّ يؤوَّل هذا القول بأنني أدعو الكتّاب إلى مهادنة الخطأ سكُوتاً عنه أو تهميشاً له أو تبريراً، بل أقول لهم ولنفسي: لا تهَادنُوا الخطأ .. ولكن ابتعدوا عن مَفَازات التهويل والتأويل اللذين لا يخدمان الحقَّ ولا الحقيقة في شيء!

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة