Culture Magazine Monday  27/08/2007 G Issue 213
فضاءات
الأثنين 14 ,شعبان 1428   العدد  213
 

الليبرالية العربية والمسألة القومية«3»
لماذا أخفق مشروع محمد علي وابنه إبراهيم؟

 

 

قد تساق أسباب الإخفاق إلى عوامل داخلية عديدة، منها أصولهما غير العربية، الذي من شأنه أن يشكك في أصالة دعوتهما إلى نهضة عربية وقومية؛ ومن ثم التشكيك بدوافعهما، بوصفها دوافع شخصية، ليكسبا لأنفسهم امبراطورية، وأنهما كانا مختلفين في تقديرهما لقوة العرب وفي مقدار اعتمادهما على تعاونهم ومؤازرتهم، حيث كان إبراهيم أكثر إيجابية وثقة بإمكانية الجمع بين (تحقيق النهضة العربية وتأسيس الامبراطورية).

ويضاف إلى ذلك السخط الذي انتشر بين الناس، بسبب تنفيذ إبراهيم لأوامر أبيه في فرض ضرائب جديدة، وجعل التجنيد إجبارياً؛ فنشبت الثورات في أنحاء البلاد، وإذا كان إبراهيم قد نجح في إعادة النظام حيناً، غير أنه أضاع حب الشعب له.

وبالمحصلة فإن هذا المشروع كان سابقاً لزمنه، ولمستوى تطور الوعي الاجتماعي المنضد وفق علاقات اجتماعية عمودية فسيفسائية، حيث هيمنة (الولاء الطائفي بدلاً من التضامن الحضاري الجامع... وحيث إن الوطنية لم تكن بمعناها القومي معروفة آنئذ) رغم ترحيب الطوائف بحملة إبراهيم كل لسببه؛ فقد رحب المسلمون بها لأنهم كانوا يعتقدون أن تأسييس امبراطورية عربية واسترجاع الخلافة إلى أيدي العرب سيقوي من سيادتهم، ورحب النصارى لأنهم رأوا نظام محمد علي في مصر يقوم على التسامح والمساواة، وهذا ما حدث فعلاً عندما ألغى إبراهيم القوانين الاستثنائية وجميع ما كان يسري على النصارى وحدهم؛ (1) ليصبحوا متساوين أمام القانون مع المسلمين، كأول مظهر من مظاهر الحداثة المدنية السياسية التي أسس لها إبراهيم ليس كتدبير إجرائي إداري، بل هو تدبير ينسجم ويتآلف مع الوعي النهضوي التنويري الليبرالي التحديثي الذي راح يؤطر مفهومه القومي.

إن هذه العوامل الداخلية قد تضيء المشهد التاريخي بوصفها مقومات سياسية اجتماعية تشير إلى افتقار الوعي الاجتماعي إلى التضامن القومي والحضاري المؤسس على وعي الفرد بالمواطنة، لكن هذه العوامل إذا كانت تضيء فهي لا تفسر ولا تعلل انهيار التجربة؛ وذلك لأن التجربة بالأصل لم تكن ثمرة هذه المشروعية الاجتماعية والثقافية والحضارية، ولم تكن نتاجاً لها، أو استمراراً ومعادلاً لتكوينها ونضجها؛ فحكم محمد علي لم يرتكز على هذه الشرعية الشعبية ليكون صوتها وممثلها، بل هو حكم قائم بالأصل على القوة والغلبة والفتح الامبراطوري الذي هدد قسطنطينية ذاتها لولا دور العامل الخارجي وتدخل أوروبا، وهو العامل الحاسم في لجم طموحات محمد علي ومن ثم تحجيمه داخل مصر وإخفاق مشروعه القومي التوحيدي، فلم يكن محمد علي إذن سوى ذلك الحاكم المستبد لكنه المستنير، والذي سيتحول في المخيال السياسي والاجتماعي لاحقاً إلى تطلع النخبة لنموذج (العادل المستبد) الذي طالما حلم به الأدب السياسي المصري؛ وبذلك يمكن القول: إن محمد علي كان الأداة غير الواعية للتاريخ الذي اقترفته يداه؛ فالمشروع الاقتصادي التحديثي الصناعي الوطني كان يستدعي معادله في المشروع القومي السياسي الحديث تعريفاً؛ فقد أدى الدور التاريخي ذاته للمشروع التحديثي البورجوازي الصناعي الأوروبي من حيث التقويض والإنشاء، تقويض البنى التقليدية العتيقة والمغلقة للمجتمعات الإقطاعية الامبراطورية، التي ما كان لها أن تصمد أمام القوى البورجوازية المدنية الحديثة الناشطة والفتية، تماماً كما عجز الجيش الامبراطوري العثماني عن أن يصمد أمام فتوة وحداثة وتنظيم الجيش المصري الحديث الذي راحت السلطنة العتيقة تلجأ إليه لرمرمة وضعها الآيل للانهيار أمام الثورات التي راحت تجتاح كيانها، قبل أن يصل هذا الجيش إلى مستوى تهديد مركز الخلافة ذاتها (القسطنطينية) حيث ستبادر الدول الأوروبية لحماية السلطنة وإنقاذها بالضد مما يقوله الخطاب العربي القوموي - الإسلاموي التقليدي و(العثماني المحدثن) اليوم، في أن القومية العربية كانت مؤامرة الغرب ضد الدولة العثمانية حامية حمى الإسلام.

إن أوروبا لم تحم مركز السلطنة التي كانت قد اخترقتها اقتصادياً فحسب، بل إنها لعبت الدور الحاسم في إسقاط مشروع بورجوازي تحديثي قومي ذي مضمون وطني طامح لتحقيق تنمية مستقلة ومتمحورة حول ذاتها رغم نواقصها المتمثلة بضعف الجنين البورجوازي نفسه والفهم التقليدي للأيديولوجيا؛ (2) فقد زودت بريطانيا العناصر الساخطة على حكم إبراهيم باشا في سوريا بالسلاح والمال، وأرسلت إلى لبنان أحد عملائها (ريتشارد وود) للاتصال بالعناصر الساخطة على حكم الأمير بشير نفسه في تشرين الأول (أكتوبر) 1840 حيث تم نقله على سفينة بريطانية إلى مالطا، وضربت المدافع البريطانية والنمساوية والعثمانية بيروت وعكا مجبرة إبراهيم باشا على الانسحاب، وأرغمت بوارج أوروبا الحربية الواقعة أمام ساحل الإسكندرية، محمد علي على الإذعان لشروط المعاهدة التي أبرمت في لندن 1840 بين القوى الأوروبية فيما عدا فرنسا، والتي حددت حكم محمد علي بحدود مصر، وعلى تنفيذ معاهدة (بالتليمان) التي عقدتها بريطانيا مع الباب العالي في 1838 والتي رسمت إطار السياسة التجارية لكل البلاد الخاضعة للامبراطورية العثمانية حتى قيام الحرب العالمية الأولى... حيث تنص اتفاقية 1838 على إلغاء كل أنواع الاحتكار الذي كان يمنع التجار البريطانيين من إقامة علاقات مباشرة بينهم وبين التجار المحليين، بينما كان نظام الحماية الذي فرضه محمد علي على مصر وسورية والسودان يشكل عائقاً أمام التوسع في صادرات المنسوجات البريطانية فلابد من إزالته. (3)

إذن لم يكن تدخل الغرب إلا لضرب مشروع اقتصادي تنموي كان يؤسس لتحديث المجتمع وفتح آفاق واسعة أمام ممكنات الدمج القومي، ليس على المستوى الداخلي المصري فحسب، بل على المستوى القومي العربي؛ ولهذا راح الخطاب الأوروبي يشكك بفعالية التجربة وجعل التشكيك تبريراً لتحطيمها، فقيل: إن الصناعات التي أقامها كانت باهظة التكاليف أو إن المنتجات التي كانت تنتجها مصانعه كانت أعلى نفقة بكثير من أسعار المنسوجات البريطانية التي كان يمكن استيرادها، وإنه مع حلول 1840 (زمن التدخل الأوروبي) كانت خسائره قد وصلت إلى حد سيجبره عاجلاً أم آجلاً على التخلي عن محاولة تحويل مصر إلى بلد صناعي، وقال عنه بالمرستون، وزير الخارجية البريطاني، في 1823 إنه (ليس أكثر من همجي جاهل، نجح عن طريق المكر والذكاء الفطري في الثورة والتمرد... إنني أنظر إلى ما يزعمه من تمدينه لمصر على أنه كذب وخداع محض، وأعتقد أنه ليس أقل استبداداً وإرهاباً من أي حاكم آخر استعبد شعبه من قبل). (4)

ذلك هو الخطاب الأوروبي المتمركز حول ذاته، حسب سمير أمين ومدرسة التبعية، حيث تمويه المصالح بدخان أيديولوجيا احتكار التقنية والمدنية والديموقراطية؛ إذ ترمى كل محاولة قومية تحريرية لتحديث الاقتصاد والسياسة المستقلة عن مركزيته، بالهمجية والاستبداد والإرهاب، والنظام العربي منذ محمد علي - وربما طوال تاريخه الآسيوي - حتى اليوم أمين على صورته الاستبدادية الهمجية التي تعطي الخارج كل الفرص لاختراقه وإعادته إلى بيت الطاعة للنظام الدولي الذي طالما ظهر النظام العربي أنه خارج عليه، وعلى المبادئ العامة التي تحكم منطق السياسة الداخلية والدولية، وما أشبه خطاب بالمرستون المنطوق منذ قرن ونصف بالخطاب الإعلامي الغربي لقوات التحالف حين ضرب العراق في حرب الخليج الثانية أو احتلال العراق في 9 نيسان 2003م.

هذا الخطاب المعلن عن عجز تجربة التصنيع المصرية المستقلة، وعن السخط الداخلي على محمد علي وابنه إبراهيم، وعن استبداد الرجل وهمجيته، يتكشف عن الحقيقة المضمرة الكامنة وراء الخطاب المعلن، عندما يكتب بالمرستون إلى أخيه في نابولي قائلاً: (إن المقصد الحقيقي لمحمد علي هو أن ينشئ مملكة عربية تضم كل البلاد التي تتكلم العربية، وقد يكون الأمر في ذاته لا ضرر منه، ولكنه يرمي إلى تقطيع أوصال تركية وهو ما لا نرضى عنه أبداً، وفضلاً عن ذلك، فإن سيطرة الأتراك على الطريق إلى الهند ليست في نظرنا أسوأ من خضوع هذا الطريق لحاكم عربي قومي (أو بصيغة ترجمة أخرى)، فإن أي ملك عربي، مهما بلغت قوته، لن يكون أقدر من تركيا على المحافظة على ما نحتله من طريق إلى الهند). (5) فالمشكلة إذن ليست في إقامة (مملكة عربية) بل قد يكون لا ضرر منها، حسب بالمرستون، بل المشكلة في تغيير النظام والبيئة الإقليمية المتوافقة مع مصلحة القوى الدولية الكبرى، والتي عملت على مدى واسع من الزمان لإقامة هذه المصفوفة الإقليمية، فيأتيها طاغية مستبد - بحمق وقصر نظر - ل(يقطع أوصال) هذه المصفوفة دون الأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى القائم، فيقع في فخ الخروج عن الشرعية الدولية كما فعل محمد علي الذي فضلت بريطانيا سيطرة دولة الرجل العثماني المريض على الطريق إلى الهند على سيطرة القوة الصاعدة الشابة لكنها الطائشة الممثلة بالدولة المصرية الشابة.

هذا ما كان بالأمس، أما اليوم فإن قوة العراق الاقتصادية والعسكرية والبشرية تتعرض للتدمير قرباناً لسفاهة وحمق بعض الشباب القوميين الثوريين (البعثيين)، الذين لم يتح لهم طيشهم أن يفهموا ما معنى (تقطيع أوصال) النظام الإقليمي في الخليج إذا ما احتلوا الكويت؛ فها هي المنطقة تعيش حتى اليوم عقابيل هذه الحماقة (القومية) السوداء لثلة من المستبدين الصغار الذين ظنوا أن بإمكانهم أن يفعلوا ما يحلو لهم في العالم مثلما يفعلون في بلادهم طغياناً واستبداداً واحتقاراً لشعوبهم.

لقد كان بإمكان أوروبا أن تفرض شروطها على السلطنة العثمانية الإقطاعية ذات الاقتصاد القروي البسيط، حيث فقدان الأمن لممكنات تطور رأسمالية في دولة يأكل مرزباناتها وباشواتها الجشعين أية قيمة زائدة مكتسبة، حيث أرغمت السلطنة على عقد معاهدة (باتيلمان) 1838 الذي يفتح أبوابها أمام اجتياح الرأسمال الغربي، واستتبع ذلك صدور الخط الشريف الكلخاني 1839 وعززه الخط الهمايوني السلطاني تحت ضغط الشعارات الأوروبية لاحقاً، فراحت السلطنة ت(تأورب) تحت ضغط انحطاطها؛ فالنزوع إلى الإصلاح هذا لم يكن إلا استجابة للنخب الإقطاعية الارستقراطية الحاكمة لصون مواقعها في صراعها مع أوروبا، من خلال إلغاء الحماية والاحتكار وفتح أبواب البلاد أمام السلعة الأوروبية، التي من شأنها أن تنتج وكلاء ووسطاء محليين؛ فلم تكن آفاق السلطنة من خلال الاتفاقيات والفرمانات والخطوط سوى شكل من أشكال التأورب الذليل كما هي حالة الأمركة الذليلة للنظام العربي اليوم الذي لا يزال يواصل المرض الامبراطوري للسلطنة العثمانية بعنجهية شعارية وفخامة نضالية عالية الأناقة الطاووسية، فهو يرفض النموذج الأمريكي السياسي الديموقراطي والثقافي التعددي المدني والحداثي، ويقبل السياسات المعبرة عن المصالح القومية الأمريكية التي لا تتيح إلا تكوين رأسماليات تابعة، كومبرادوية كثمن لابد منه لهذه الأنظمة التي ترفض أن تتغير بما يتلاءم مع توجهات الروح العالمي الجديد، وعلى هذا فهي أنظمة تتأمرك تحت ضغط انحطاطها، وليس تحت ضغط وعيها الوطني بحاجة بلادها للخروج من واقعها الذليل عبر الحرية والمشاركة والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان.

1-راجع جورج أنطونيوس - يقظة العرب - سبق ذكره - ص 88-82

2-سمير أمين - أزمة المجتمع العربي - سبق ذكره - ص 25

3- المشرق العربي والغرب - د. جلال أحمد أمين - سبق ذكره - راجع ص 24-26

4- عن المصدر ذاته - ص 23

5- عن المصدر ذاته ص 26 ويمكن مقارنة ترجمة نص رسالة بالمرستون، مع ترجمة جورج أنطونيوس في كتابه (يقظة العرب) المشار إليه سابقاً - ص 93

majdeid@hotmail.com - حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة