Culture Magazine Monday  27/08/2007 G Issue 213
فضاءات
الأثنين 14 ,شعبان 1428   العدد  213
 

خرتيت الفكر وغرير الواقع

 

 

لا أدري كم ستطول ما يطلق عليه المرحلة الانتقالية في العراق التي يطلق عليها البعض المرحلة الاستثنائية. هذه المراحل يطلق عليها مثل هذه التسميات عندما تستولي طغمة عسكرية على مقاليد الحكم بعد الإطاحة بالنظام الحاكم، لكن ما حصل في العراق وبعد تسلم قوات التحالف السلطة في العراق فإنها لم تتسلم المؤسسات العسكرية والمدنية بل انها ألغت شكل الدولة كاملا، فلم تعد ثمة وزارة غير وزارة النفط ولم يعد ثمة جيش ولا قناة للتلفزة ولا محطة للإذاعة وتم حرق كل المستندات وتركت الأسلحة في المعسكرات عرضة للنهب، وتم حرق كل الأفلام السينمائية الروائية والوثائقية. ولا أحد يستطيع تحديد المسؤولية والمسؤول عن هذا التدمير الإنساني والحضاري ولكن ما هو مؤكد أن المحتل يتحمل المسؤولية قانونيا.

لست هنا بصدد الحديث السياسي بقدر ما يتعلق الأمر بمحنة المثقف العراقي ومحنة الثقافة العراقية.

لم تعد الرؤية الواعية للواقع مسموح بها للتعبير عبر أدوات التعبير في المسرح والسينما وكل ما يقال ليس سوى محض افتراء، فهناك قوى ظلامية تهدد وتنفذ الموت لكل من يريد أن يرى الحياة بعيون صافية، ولهذا على سبيل المثال فإن جريمة وعقاب ديستويفسكي في تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني ذهب فنانو الدراما العراقيون إلى كردستان العراق لتصوير المسلسل وعرضه من خلال قناة كردية وهي الجهة المنتجة للمسلسل.

هذا حل من الحلول يبتكره الفنانون العراقيون، لأنهم لو أرداوا تمثيل مثل هذا المسلسل لما وجدوا ربما قناة توافق على إنتاجه لأن ثمة تيار ثقافي ماضوي تدعو إليه الحالة السياسية والثقافية الجديدة في العراق وسيعتبرون وفق هذا النهج كل عمل من قبيل جريمة وعقاب ديستويفسكي ثقافة تسير بعكس حركة الواقع!

كيف سيقدم الممثلون العراقيون أنفسهم.. وفي أي عمل مسرحي أو تلفزيوني.. وكيف يسافرون إلى حيث تقام مهرجانات المسرح والسينما.. وكيف وأين ينشر كتاب الرواية رواياتهم، ومن يا ترى يقبل طباعتها ومن يقبل توزيعها ومن يقبل قراءتها.. هل ستصبح قراءة الرواية مثل المنشور السري الذي كتبه فيرغور (اسم مستعار لكاتب فرنسي لم يعرفه أحد) في رواية (صمت البحر) ابان الاحتلال النازي لفرنسا، وبدأ الناس يعيدون طباعة الرواية ويقرؤونها سرا مثل المنشور السياسي، أم إن الحالة في العراق أصبحت وستصبح أسوأ من الحقبة النازية في أوربا؟

إن تيارا فكريا لا يدعو للمسرة ولا للفرح يسود عالم العراق الاجتماعي والثقافي.. تيارا لا يستطيع الفرد الهروب منه سوى بالهجرة أو الانكماش أو التحول وهو ما سمي في أوربا بالخرتتة. فلقد كتب الكاتب الفرنسي يوجين يونسكو مسرحية (الخرتيت) التي تتحدث عن وحيد القرن الذي قيل أنه دهم المدينة وصار يركض في الشوارع وقد يدهم البيوت ليلا أو نهارا ويقتل الناس بقرنه الوحيد وصار موضوع حديث الناس، ومع الوقت بدأ الناس يفقدون إنسانيتهم ويتحولون إلى خراتيت من كثر ما تحدثوا عن الظاهرة وسادت المدينة والمجتمع. وسرى تيار الخرتتة بين الناس ومع الوقت سقط الوعي وتحول كل سكان المدينة إلى خراتيت سوى بطل المسرحية الذي يمثل الوعي، حيث بدأ يعلن للناس ويحاول أن يثقفهم أن لا وجود لخرتيت في مدينتهم مستشهدا أن مدينتهم ليس فيها غابة ولا توجد فيها حديقة حيوان ولا يوجد فيها سيرك، فمن أين جاءكم الخرتيت، وكان تصريحه بمثابة الكفر بعد أن اقتنعوا جميعهم بالخرتيت لدرجة أنهم تحولوا عن جنسهم وأصبحوا خراتيت وصاروا ينطحون منزله بقرنهم الوحيد وهو يصرخ لن أتحول.

الخرتيت والخرتتة عند يوجين يونسكو تمثل الفكرة الغريبة التي ليس لها وجود على أرض الواقع، وهي ليست سوى وهم تحول إلى واقع وحقيقة وبدأت الخرتتة تلعب تأثيرها في المجتمع الإنساني.. هي تيار فكري كان يرمز به للنازية التي سادت مجتمعات أوربا.

هذا التيار بدأ يدخل العراق بعد سقوط نظام الدكتاتور العراقي متمثلا بأفكار مستوردة عملت على تدمير الثقافة العراقية الأصيلة الممتدة إلى آلاف السنين التي أنتجت أجمل الشعر وأجمل اللوحات والروايات والحكايات والأساطير والملاحم وكتب العلم والبحث، منذ اختراع الكتابة الأولى (المسمارية) التي وجدت على آلاف الرقم الطينية وفيها ملحمة كلكامش المدهشة، مرورا بقوانين حمورابي وحكايات ألف ليلة وليلة التي لا يزال الفن والأدب يدرس فيها ويرحل في مخيلتها وعملت منها الأعمال الفنية وحكايات للأطفال. كما أن الشعر الذي أعلن عن حداثته قد جاء من العراق، لتتحول كل تلك الثقافات إلى ثقافة الخرافات والكذب والافتعال والقصص التي ما حدثت في التأريخ لتتحول إلى حقائق بفعل الخرتتة، وإذا كان الفكر النازي قد عاش في ظروف إعلام بدائي وبسيط وخاصة الإعلام المرئي فإن وجود القنوات الفضائية اليوم وقدراتها التقنية الواسعة ستجعل من الخرتتة تيارا سهل التأثير وسريع التأثير داخل المجتمع العراقي ما وضع الكتاب والأدباء والفنانون في محنة حقيقية حيث أبواب التعبير مغلقة أمامهم سوى بشروط الخرتتة.

ما هو غريب أن الجيش البريطاني في مدينة البصرة قد أعلن عن وجود حيوان يسمى الغرير وهو بحجم الثعلب قد دخلت مجموعة منه إلى مدينة البصرة وهو حيوان خطير وقوي وقادر على تمزيق جسم الإنسان وخطير على الأطفال وقد نشرت صوره، وأشيع بأنه قد دهم بعض المنازل وأكل بعض الأطفال ويكثر في المناطق الزراعية وهو يهاجم الناس عند الظلام ويضرب الإنسان بمخالبه القوية جدا ضربة أو ضربتين ويرديه قتيلا وينهشه وهو كما يوصف يركض سريعا ويقفز بقوة وقيل إن اسمه الأصلي (راكون) وهو مستورد وليس له وجود ولا أصل ولا فصل في مدينة البصرة ميناء العراق الأمن.

انشغل الناس بحيوان الغرير مثل خرتيت يوجين يونسكو وبدأت الحراسات ليلا، حيث يتناوب أبناء الحارات على حراسة بيوتهم بالبنادق ليس خوفا من العناصر الإرهابية بل خوفا من هذا الحيوان الغريب. فصار تجوال المسلحين ليلا وعند انقطاع التيار الكهربائي مشروعا ومطلوبا لأنهم يحمون الناس من بطش الغرير الغدار! فبدأ تهريب السلاح ونقله ليلا عبر الحارات والمناطق معتقدة الناس بأن هذا السلاح لمواجهة حيوان الغرير الفاتك.

مدينة البصرة مثل المدينة الفرنسية التي أشيع فيها عن وجود حيوان الخرتيت، فمدينة البصرة ليس فيها غابات وليس فيها جبال ولا فيها حديقة حيوان ولا يوجد سيرك. تحدها من الجنوب دولة الكويت ومن الشرق إيران. وحدودها الشمالية والغربية هي مدن العراق ميسان وذي قار (العمارة والناصرية) فمن أين جاء حيوان الغرير هذا.. وهل سيظهر كاتب مسرحي عراقي يكتب لنا مسرحية الخرتيت ثانية باسم الغرير، أم أن الوعي في هذه المدينة التي عرفت بالفن والثقافة سوف ترفض هذا التيار الممثل بهذا الحيوان الذي لا مصدر يأتي منه إلى المدينة فيستعيد الكتاب عافيتهم في مدينتهم المثقفة والمنفتحة على العالم من خلال مينائها الجميل ويرحل الغرير من حيث أتى بل ويموت قبل أن يميت الناس واقعيا أو مجازا.

تساءل بعض الناس وسألوا مصادر الخبر وهو الجيش البريطاني فخبروهم أن هذا الحيوان ربما تحسس أشلاء الأموات التي ترمى في بساتين النخيل حيث يتمتع بحاسة شم قوية وأتى إلى العراق من حدوده الشرقية (إيران) وبدأ بقتل الناس المزارعين في بساتين النخيل!

أنها مسرحية مثيرة للكتابة والمشاهدة داخل مسرحية غير مثيرة للكتابة والمشاهدة وسيناريو غير مثير للكتابة والمشاهدة، كتبه سينارست من كتاب المسرح والسينما ضمن المسرحيات المحكمة البناء ويتم تنفيذه على أرض الواقع، وها نحن نرى المسرحيتين تتكرران في عالم الإنسانية فإذا كانت الأولى (الخرتيت) قد حصلت في أوربا على شكل مأساة فإن الثانية (الغرير) تحصل في العراق على شكل مهزلة.

بين الخرتيت والغرير نصف قرن من الزمان تقريبا.. الخرتيت رمز تعبيري عن النازية فماذا يمثل الغرير في الحياة الاجتماعية والثقافية المعاصرة في العراق؟!.. نحن بحاجة إلى مسرحية تحمل هذا الاسم (الغرير) أو (الراكون) كما سماه الجيش البريطاني.. مسرحية تكتب ويصعب تمثيلها في الوقت الراهن، فمسرحية الخرتيت تنتمي إلى مسرح اللامعقول وما يحدث في العراق ينتمي إلى الواقع اللامعقول الذي لا يجيز كتابة وتمثيل المسرحية لأنه يدخل في الحرام.

المسرح هو الحياة والحياة هي المسرح والفرق بسيط بينهما، ففي المسرح ندفع الثمن ونشاهد المسرحية، أما في الحياة فإننا نشاهد المسرحية وبعد ذلك ندفع الثمن!

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

هولندا


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة