Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
فضاءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

كلمات للعابر
كلامي على هواي
محمد علي شمس الدين

 

 

أسوق كلامي على هواي.

أنا القارئ.

لست بنقاد، ولكن قارئ، فالنقد عدّة نقدية ثقيلة،

ومنهج وقياسات، وأنا لست هناك.

أنا قارئ.

قارئ حرّ، وعلى مزاجي أيضاً.

ومثلما المبدع، شاعرا كان أو روائيا أو مسرحياً أو رساماً، هو حرّ في تكوين نصّه، ولا يكوّن هذا النص إلا استجابة لحريته الداخلية، لندائه الداخلي، وكان يكتب من ذاته لذاته، فأنا أيضا حر في أن اقرأ ما أقرأ كما أريد، وأن أخضعه لرأيي، وذائقتي ومهجتي ومزاجي، لي حرية أن أضم القصيدة إلى صدري، أو أمزقها وأنبذها، ولي حريّة أن أجعلها جزءا من ذاتي وتكويني النفسي واللغوي ومن طقوسي الإبداعية، مثلما لي حرية نفيها أو إدانتها أو هدمها.

وحين احتدم في خمسينات القرن الفائت نقاش كبير بين طه حسين ورئيف خوري، في ندوة أقيمت يومذاك في بيروت، حول مسألة: لمن يكتب الكاتب، للخاصة أم للعامة، حسم طه حسين النقاش بقول: الكاتب يكتب لذاته والقارئ يقرأ لذاته، ثم أضاف: الكاتب يكتب لمن يقرأ.

القراءة على ما أرى، نصف الإبداع، بل مشاركة فيه وتوليد جديد له،خاصة إذا كان العمل الإبداعي بلوريا وحامل وجوه واحتمالات، حين قرأ رولان بارت، راسين، وكتب كتابه عنه Sur racine، ولده من جديد، النقد لهذه الجهة إبداع على إبداع،نص على نص،مشروع على مشروع، بل هو ليس نقداً بل كتابة توليدية جديدة مؤسسة على جذع نص آخر، فقد انتهى الزمن الوصفي للنقد وحتى الزمن المعياري (الأيديولوجي) مثلاً أو زمن التعاليم: يجب وينبغي...إلخ وأصبح النص الإبداعي متضمناً للقارئ الإبداعي، وهما معاً شبيهان بطائر يطير بجناحين،ذلك ما يسمى في أدبيات النقد بالقارئ الضمني، الموجود في سريرة الكاتب، في لا وعيه على الأرجح، وجّه شارل بودلير كلامه إلى القارئ قائلاً: (ايها القارئ المنافق، يا شبيهي يا أخي).

Hypocrite lecteur, mon semblable, mon frère

فالقراءة أيضاً حيلة ابداعية كالقصيدة أو القصة أو الرواية،ثمة خدمة جميلة في الفن، تواطؤ ضمني ما بين طرفي الحيلة، يقول نجيب محفوظ:

(إن أكثر التفاصيل (في الرواية) صناعة ومكر لإيهام القارئ بأن ما يقرأ هو حقيقة لا خيال، إذ إنه لا يثبت الموقف أو الشخص، كحقيقة، مثل التفاصيل المتصلة به، وكلما دقت التفاصيل وتنوعت كان القارئ اسرع إلى تصديقها).

إن نجيب محفوظ هنا، يكشف عن تقنية المكر الإبداعي،المتوهم أو الوهم المتلبس بلبوس الحقيقة والذي يعرفه الطرفان معرفة جيدة، الكاتب والمتلقي، ويتستران عليه، يعرف نيتشه الفن بأنه (الوهم الممسك بالحقيقة)، وكان أبوعثمان الجاحظ، منذ حوالي ألف عام خلت، قد وضع معادلة الكتابة بين قطبين: الناطق والسامع، كما أن البيان بتعريفه مقرون بالتبيين، وهما أي البيان والتبيين (فهم وإفهام).

ذلك لأن الوصول إلى (معنى المعنى) (بعبارة عبدالقاهر الجرجاني بحاجة لمن يجيد الغوص في بحر الابداع،وهل ثمة من غوص بلا غواص؟ لكأنني هنا أدافع عن حق القارئ بالقراءة تماما كما يدافع الكاتب عن حقه في الكتابة.

والنص بطبيعته متنوع،هو نص كثير،يمكن أن يكون قصيدة، أو رواية، قصة أو مسرحية فهو لهذه الناحية نص إبداعي، إنما في امكان النص أن يكون ايضاً نصاً ابداعيا، فثمة أعمال نقدية كثيرة هي بمثابة قراءات إبداعية لقصائد وروايات وقصص ونظريات ايضاً، فهي لهذه الناحية نصوص نقد للإبداع فهل بالإمكان كتابة نص على نص أو نقد على نقد على نقد؟ وهكذا إلى ما لا نهاية، والحال أنني أرى الإبداع بهذا المنظور، دائرة من دوائر التناص، أو التداخل النصي Textualite- intertextualite.

إن في ذلك ما يسميه رولان بارت (متعة النص) يضاف (جدوى النص) وربما فائدته. النص أولا.

فائدة النص فائدة معرفية، فأي نص إبداعي لا يزيدنا معرفة، هو نص أجوف أو عقيم، بل اجتراري، لكن أية معرفة تضيفها إلينا القصيدة أو الرواية أو القصة مثلاً، المعرفة هنا هي المعرفة غير المحددة، بمعناها الواسع وبمعناها الوظيفي معاً، بالمعنى الواسع تطول المعرفة كل فن ومطلب، أما بالمعنى الوظيفي فالمعرفة تنمى وتدّرب آلة المعرفة في الإنسان: عقله.

لجهة جدوى النص لا يفهم الجدوى الأخلاقي أو النفعية بل الجدوى الوجودية، فقد انتهى الزمن الذي كان فيه للإبداع دور تعليمي أو حتى جمالي بالمعنى القديم، الزمن الأرسطي للشعر مات على أيدي بودلير ورمبو ونيشته، قال رمبو: وضعت الجمال على ركبتاي فوجدته جميلا فهمشته، جدوى النص اذن حيويته الوجودية وهي مسألة معقدة وتحتاج لبحث على حدة الجثة لبودلير مثلا، أزهار الشر، تمجيد الموس لألياس أبو شبكة، مديح الشيطان لتوفيق الحكيم، أما متعة النص فهي الأسلم والأصح (الشعر وصال بالمعنى الجنسي يقول (القصيدة لا يفترعها سوى الذكر القوي)، وهكذا فالحديث طويل وممتع ولكن الصفحة قصيرة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة