Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
فضاءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

حصار الثلج.. حصار الصحراء
تخليق اللغة.. ولغة الإبداع(2)
عبد الله الماجد

 

 

تُعبر قصة (وجه خلف الضباب) عن تجربة ذاتية، وعادة تتصف التجارب من هذا النوع، بأقفال مغلقة، مفاتيحها في عقل الكاتب، وتفاصيلها قابعة في مستودع أسراره، وفي محاولة النقد فك مغاليق أسرارها، يكتشف أن هذا الخاص قد أصبح عامًا، وما هو ذاتي، أصبح تعبيرًا عن الآخرين. فبالرغم من أن أجواء هذه القصة، هي أجواء الضباب، لكن صاحب النفس، الذي يتنفس في هذه الأجواء إنسان قادم من هجير الصحراء، وتصبح الصحراء هي البديل للواقع المعاش الراهن: (الصحراء هي الكائن الذي لا تتعثر فيه أرجل الجياد، ولا قوافل الريح. الفارس لا يغدر، ولا يطعن في غفلة، الفارس حتى ولو اكتسى بغبار المعركة، فإنه لا يخون سرجه، لا يترجل عن فرسه في اللحظة الحاسمة) (وجه خلف الضباب، ص 16). ولعل في هذا المقطع، الجواب على السؤال الذي يطرحه الكاتب على نفسه، وعلى قارئه : (لماذا وجوه أهل المدائن البحرية مكسورة ومسكونة بسوء الظنون؟ ولماذا وجوه أهل الصحراء ينبعث منها شُعاع الثقة واليقين كشمس حارقة؟) (وجه خلف الضباب، ص 18). ها هي التجربة الذاتية، تصبح تجربة عامة، وها هي الصحراء تحاصر الضباب، وتكسر الشمس عتمة الضباب، فتتوهج الذكريات، وتثور الأسئلة، هذه الذكريات تلمع بشكل واضح في قصته الرئيسة (حصار الثلج):

(أنت ابن الصحراء، والشمس والرمل... ستتلبسك حالة من حالات الذهول الذي لا تستطيع دفعه، وعينك تسرح في هذه الصحراء الممتدة من الزمهرير الثلجي الذي أحرق كل أخضر، من خلال نافذة زجاجية تتمترس خلفها خوفًا من غائلة الزمهرير الكالح.

في بهو الفندق المحاذي للبحيرة تنعشك رائحة الحطب المنبعثة من موقد النار. إن ألذ وأشهى ما في هذا المكان هو هذه النار التي تتشعب ألسنتها، وتلتف أحيانًا داخل الموقد فيحتد دخانها متصاعدًا. هناك تتدفق الحياة في شرايينك، وتخبو وحشة الزمهرير الأبيض، الذي يعتقل نشاطك ويحيلك إلى هذا المخبأ المسمَّى فندقًا.

كانت طقطقات النار في الخشب... والشرر المتطاير في فراغ الموقد تبعث في النفس نشوة خاصة... تمامًا كما صوت تساقُط قطرات المطر فوق صحراء جافة) (حصار الثلج، ص 42،52).

وهنا لابد أن نلاحظ، أن أجمل ما في هذا المكان - على الرغم من فتنة الطبيعة فيه - موقد النار؛ النار تذكره - وهو ابن الصحراء - بصحرائه، بالنار حينما تُوقد بين السهول وعلى التلال، وعلى حافة الخيام في الصحراء. بل إن صوت ضريم النار، وطقطقات النار، تذكره بصوت المط ر في الصحراء الجافة. حيث يكون حصار الثلج، هنا حصار الصحراء يتلبس الكاتب ويلف كيانه. أما السؤال المعلق كلوحة جدارية، في قصته السابقة فهو (لماذا وجوه أهل المدائن البحرية مكسورة ومسكونة بسوء الظن؟ ولماذا وجوه أهل الصحراء ينبعث منها شُعاع الثقة واليقين كشمس حارقة؟) فإنه يجيب عليه في هذه القصة (حصار الثلج) حيث ينقذ تلك السيدة، التي جمعها به ذلك الفندق النائي على ضفاف بحيرة (لوخنس) شمال أسكتلندا، وقد اكتشفت أن بطاقتها الائتمانية لا تعمل، وبالتالي ليس باستطاعتها دفع تكاليف الإقامة، لكنه تسلل ودفع حساب تلك السيدة. وفي لحظة ذهولها من تصرف هذا السيد الذي لا تعرفه، وقبل أن تسأله أي سؤال يتعلق بهذا الموقف قال لها:

(الأمر أسهل مما تتصورين. المال ليس أثمن من الدم المتشابه النابض في عروقنا معًا. راحت تتابع النظر إليه في ذهول، وهو يبتسم لها ابتسامة مشرقة كإطلالة شمس تفيض من الشرق على تلال الثلج والصقيع..).

ومع ما في هذا الموقف الإنساني، من تسامٍ يُمجد الذات الإنسانية، ويلغي الفوارق الخارجية، ويختصر المسافات الجغرافية والأنثروبولوجية بين المجتمعات والبشر، يبقى الإنسان هو الإنسان مجردًا إلا من هذه الصفة، فإن الصحراء بثقافتها مرة أخرى، تحاصر الثلج وتذيبه، لكن هذه الصحراء وأبناءها ليسوا في منأى من نقد الكاتب؛ فبقدر ما مجدها، وأظهر من ألوان فروسيتها، ها هو ينتقد إنسانها، ويقارن بين عقول أهل هذه البلاد، وأبناء الصحراء: (العقل! العقل! طبعًا لم يكن عقلاً متجمدًا كهذه البحيرة أو كهذه الجبال البيضاء.. ومن المؤكد أنه ليس عقلاً سائلاً مثل عقولنا نحن أبناء الصحراء. هل العقل السائل جدًا عقل رديء لا يستطيع أن يصنع أو ينفع؟!) ويجيب عن هذا السؤال المرّ:

(إنه سؤال جدير بالطرح. نحن أبناء الصحراء لم نصنع شيئًا ولم نبدع شيئًا. كل صناعتنا هذا الكلام السائل اللزج، وهذه الجعجعة التي تشبه نعيق ذلك الغراب... أصحاب الثلوج، أو العقول الثلجية، هم أصحاب الابتكارات والإنجازات. كل ما في الكون من مبتكَر جاء في أصله من عندهم. هذه هي الحقيقة بلا مكابرة... أما نحن بني البشر فكالغربان بين بقية الطيور التي لا تؤكَل ولا تُقتنى ولا تصلح لأي شيء. حتى ريشها لا يُنتفع به، وليس لديها إلا النعيق المزعج) (حصار الثلج، ص 28).

وهو جواب مُرّ في واقع الحال، (وربما إن هذه نظرية تحتاج إلى بحث ودراسة). ويعترف بأنه (نوع من أنواع جَلد الذات للهروب من مواجهة الأشياء ومناقشة الأسباب). وبالطبع فليس الإبداع الأدبي، هو المجال الأفضل لإقامة مناقشة أو حوار حول هذه القضايا العقلانية؛ لكن الفن يشي ويُلمح بمضامينها، وإلا لَعُد ذلك تقريرًا ومباشرة خطابية تُفسد ملامح الفن والإبداع. ويظل هاجس الكاتب، معلقًا بالصحراء، وابنتها (الواحة)، ليس لأنه ابن هاتين البيئتين فقط، ولكن لأنه عاش تجاربهما، وأمضى فيهما أجمل أيام حياته. فأنّا ارتحل فإنه يحمل في ذاكرته ذكريات الصحراء، وعبق نخيل الواحة، وإذا ما حاصرته الثلوج والصقيع، فإن الصحراء تقتحم عليه نفسه وهاجسها فتحاصره وتذيب شمسها صقيع جبال الثلج.

في قصته (الاستغاثة) يصل فن الكاتب إلى ذروته الفنية، ويجسد من الحدث المجرد، كائنًا حيًا، فيه أسباب الحياة والموت، جدلية الوجود التي لا تنتهي. لقد قرأت كثيرًا عن (العطش) في الصحراء والواحات، وهذا الموضوع معادل موضوعي يُثري الإبداع بخامة ثرية لتعدد جوانبه الإنسانية، حيث لا حياة في الحياة بدون الماء. في المدن والقرى، وفي الواحات والصحراء، يُصبح هذا الحدث أكثر رعبًا. وعلى كثرة ما استهوى هذا الموضوع الكتاب وأغراهم بالتعبير عنه، فإنني لم أقرأ قصة بمثل هذا التكثيف الإبداعي، حيث تمتزج اللغة بالحدث، وتُغني ذوات الكائنات الحية والجماد، لتعبر عن إحساسها بالعطش، ولتصبح نسيجًا من الحدث الدرامي. الشخصيتان الرئيستان في هذه القصة، تم اختيارهما بدقة متناهية، لما يرمزان إليه. (راشد) صاحب واحة النخيل، و(عائض) صاحب قطيع الأغنام. الواحة بلا ماء تصبح أرضًا (بوار) والصحراء بلا نماء وعشب تصبح (تنورًا) يحرق ما به من أخضر ويابس. عبر هذا الإحساس الدامي، يُنشئ الكاتب أنشودة (الاستغاثة)، لعل الله يستجيب فينزل الغيث والمطر. والقصة مليئة بالتفاصيل والأحداث الدراماتيكية، والكوميديا السوداء، ومع ذلك تنتهي نهاية سعيدة بنزول المطر.

* تنويه:

في الحلقة الأولى ورد تصحيف في كلمة الملح (....) والمقصود «المح» وهو صفار البيض.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة