Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
فضاءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

الإعلان على جدران المدينة
قاسم حول *

 

 

الملصق فن جميل وله مبدعون وحسابات دقيقة في التصميم والألوان. ويقال إن الملصق الناجح هو الذي يصل للمتلقي وهو مار في سيارته، بمعنى ألا تكتب على الملصق معلومات كثيرة إضافة إلى قوته في جلب انتباه المارة في الشارع وفي سياراتهم أيضا.

وهذه الإعلانات مثلها مثل اللوحة تفقد جانبا كبيرا من قيمتها بدون إطار؛ لذا فإن هناك مصممين لإطارات لوحات الرسم، فالإطار هو جزء من قيمة الصورة وهو يؤطر قيمتها وليس شكلها فحسب.

في الغرب تعاملوا مع الإعلان بطريقة حضارية وجمالية فأوجدوا للملصقات إطارات لها ارتفاعها في الساحات والأرصفة، ولا يجوز تجاوزها بمعنى ألا يدخل مزاج المعلن على الملصق ولا يفرض ذوقه بل ومصلحته على المتلقي وعلى الذوق العام.

الشوارع العربية لا تحترم الملصق والإعلان. وأنا صرت أحدد موقفي من الدولة التي أزورها عبر مجموعة من المفردات ومنها الملصق والإعلان، فإذا دخلت المطار ووجدت في أول شارع على رصيف ملصقات فوق بعضها فإني أعرف أن الفوضى تسود البلاد. انظر إلى ملصق لراقصة على جدار إعلان وفوقها صورة لمرشح انتخابي أو إعلان عن الرئيس الحاكم وعليه كلمة أمل البلاد وقد مزق جانب من الملصق وظهر جانب من جسد الراقصة، وعلى جانب آخر من صورة الرئيس صابون لإزالة الأوساخ من الطبخ ثم إلى جانب هذا الملصق عدد من الإعلانات عن الوفيات وإقامة مجلس العزاء على امرأة توفيت وإلى جانبها شعار بالبوية مرسوم بالبخاخ على مسافة عدة أمتار (فليسقط الاستعمار العالمي أو الموت لأمريكا).. فإني أصاب بالقرف وأحكم على البلد بالحياة الصعبة وأعرف مسبقا بأن سفرتي ستكون فاشلة ومنغصة.

فرحت بمدينة عمان أنها تخلو من هذه الفوضى الإعلانية وأن المدينة تحترم زوارها ومواطنيها ولا تخدش ذوقهم، فشوارعها خالية من هذه الإعلانات الملصقة فوق بعضها.

إن وجود الإطارات المنظمة للملصقات هو تعبير عن احترام القيم الجمالية. وهذه القيم الجمالية لها مجالات واسعة في حياتنا الاجتماعية والإنسانية. أحد المطارات العربية تشعر القادم بالصداع منذ الوهلة الأولى، فبين صورة الرئيس وصورة أخرى للرئيس صورة للرئيس وبين كل مقولة للرئيس ومقولة أخرى للرئيس مقولة للرئيس.. وبالروح بالدم نفديك يا..

إن فن الملصق هو فن جميل وقد ترك لنا التأريخ القريب ألبومات ساحرة الجمال لملصقات عالمية يتمتع بها المتلقي كلوحات ساحرة الجمال. وترسيخ قيم الجمال عبر الملصقات واللوحات والمتاحف ومداخل المؤسسات هو موقف يحدد مستوى المسؤولية وعلاقة المسؤول بالمواطن. إن المؤسسات الأوروبية بدأت تعرض في مداخلها كل فترة لوحات لرسام معين تدفع له حقوق العرض لأنه يمتع المراجعين بالقيم الجمالية. ويصبح الفنان والحالة هذه غير مرتهن لموعد المعرض والغاليري بل إن لوحاته صارت تستأجر وتظل تتنقل بين مؤسسة وأخرى ويتلقى مردودا ماليا من خلال هذه العروض. فما بال البلدان والقيادات لا يراعون جمال المدينة وجمال الذوق وجمال الحياة.

إن امتهان ذوق المواطن وحس المواطن عن طريق فوضى الملصقات في الشوارع يوضح بشكل لا يقبل الشك أن الدولة تحتقر مواطنيها، وهذا يشكل تراكما في الكراهية يؤدي إلى ما وصل إليه العراق الذي احتقر مواطنيه على مدى أكثر من ثلاثين عاما، حيث كانت ملصقات مباركة الحرب والموت تملأ شوارع المدن العراقية وهي جزء من ثقافة الموت وليس ثقافة الحياة، جزء من ثقافة تدمير النفس البشرية وليست جزءا من ثقافة بناء الحياة والارتقاء جماليا بمستوى المتلقي.

إن بناء الإنسان الفرد والمجتمع جماليا يشكل حصانة عدم السقوط في الإرهاب والموت والظلام. ولو كان المتلقي العراقي على سبيل المثال قد بني بناء جماليا متحضرا لما قبل أساسا بالدكتاتور حاكما يرسم مصيره ويحدد مساره معتقدا قدرته على تحول المجتمع إلى قطيع من الأغنام يقودهم للحرب وسط الأغاني الحماسية الفارغة والملصقات ما حدا بالمجتمع العراقي إلى الهجرة الجغرافية والغربة الداخلية. كل ذلك بسبب تدني القيم الجمالية في المجتمع ولدى الفرد.

وها هي النتائج الكارثية التي لم يحصدها المجتمع فحسب بل حصدتها أيضا العائلة الحاكمة لأنها أساسا متدنية الجمال وهابطة في قيمها الجمالية فسعت إلى تعميم الجهل.

عند سقوط النظام العراقي عملت على شراء الملصقات التي تركها الحاكم ومؤسساته الإعلامية واستطعت نقلها إلى حيث أقيم في أوروبا. كان الهدف هو دراسة هذه الملصقات من الناحية التكوينية ومن الناحية اللونية ومن ناحية شكل القائد في مواجهة المتلقي، وتوصلت إلى بدائية وامتهان للحس الإنساني والقسرية في تعميم القوة.

نحن نحتاج إلى سنوات طويلة على ما أظن حتى نستطيع أن ننظم حياتنا في مجالات شتى تتعلق بتأسيس الذاكرة وتتعلق أيضا بالقيم الجمالية التي ترتقي بالمتلقي وترتقي بالضرورة في موقفه من الحياة حيث سيصبح له كيان وكلمة وموقف متحضر مما يدور في بلاده والمنطقة والعالم.. بأن يدرس الملصق في هدفه وأيضا في شكله وألوانه ويؤطر ويصبح مفردة من مفردات جمال المدينة العربية والإسلامية.

* سينمائي عراقي مقيم في هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة