Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
فضاءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 
عن الثقافة والمثقفين: أوجه وأدوار 1-2
ثائر ديب

 

 

للثقافة وجهها الرديء فضلاً عن وجهها الساطع المستنير. قد يبدو ذلك مستهجناً للوهلة الأولى، لكنّه واحدة من أبرز الظواهر التي تميّز زمننا بما يشهده من فورة وتعاظم في دور الثقافة وأهميتها. وهي ظاهرة يقتضي تبيّنها أن نتذكر أن الثقافة لا تقتصر في تعريفها على أروع ما أنتجته البشرية بل تتعدى ذلك إلى كونها تشير أيضاً إلى طرائق الحياة التي تحياها الجماعات المختلفة، وما تقيمه من علاقات متباينة مع تواريخها وتراثاتها وحاضرها ومستقبلها...، الأمر الذي يسمح بالكلام على ثقافات الأمم المختلفة والمراحل المختلفة وكذلك على ثقافات مميزة ضمن المجتمع الواحد ذاته.

وإذ تشير الثقافة إلى نمط حياتيّ محدّد فإنها تغدو مقترنة بالهوية أشدّ الاقتران، تلك الهوية التي لا تقتصر على ما يجمع ويوحّد (في حال وضعها في سياق مستنير) بل تطول أيضاً ما يفرّق ويقيم الاختلاف العنيف (في حال وضعها خارج السياق السابق). وبذلك تغدو الهوية والثقافة (أو الثقافة بوصفها هوية) مصطلحاً مشحوناً بقيمة سلبية مؤذية يمكن أن تُنشب الحروب وتطلق مخالب البشر وأنيابهم على حلاقيم بعضهم بعضاً. وإلا كيف يمكن لنا أن نفهم ذلك الانتشار الواسع الآن للرؤية التي تردّ جميع الظواهر إلى تقاليد ثقافية معينة ربما ترجع في النهاية إلى دين بعينه يُرى على أنه القوة المحركة الأولى والأساسية التي تفسر كلاً من التاريخ والاجتماع بدل أن تتفسر بهما؟ كيف لنا أن نفهم ذلك البروز الهائل الذي تبرزه الأصوليات المختلفة، وتلك النّزعة الانعزالية التي تقسم العالم إلى ثقافات مختلفة ومتناحرة (دينية أساساً)لا تلتقي إلا في ساحات المعارك؟ وكيف لنا أن نفهم أيضاً تلك النزعة التي تبدو عالمية أو كونية للوهلة الأولى في حين أنها لا تقصد بهذين المفهومين سوى توحيد الثقافة العالمية وتنميطها عن طريق فرض نموذج ثقافي واحد يُرى على أنه جدير بالحلول محلّ كل ما عداه؟ ألسنا أمام انتقال من إقامة العنصرية على أساس بيولوجي أو طبيعي إلى إقامتها على أساس ثقافي، كما في القول إنّ الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان هي قيم خاصة ومميزة تعبّر عن تركيبة خاصة بالثقافة الأميركية أو الأوربية دون أن تكون قيماً كلية تنطبق على البشر جميعاً؟ أليس من اللافت أن تلتقي على مثل هذه الرؤية جميع الأصوليات غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، وجميع الطغاة ومثقفيهم على نحو لا تكاد تعرف فيه من الذي يتكلم إذا ما أُخفي الاسم؟

لعلّ ما يجري أمام أعيننا أن يكون ضرباً من اتّخاذ العنصريّة شكلاً جديداً يجد في الثقافة أساساً يستند إليه بعد أن تهاوى الأساس القديم المتمثّل بالبيولوجيا ثم بالجغرافية والمناخ مما كان يُستخدم في تفسير التفاوت بين البشر وتبرير ترتيبهم في مراتب متباينة نوعاً وقيمة. والحال، أنّ هذا الشكل الجديد يتكفّل بالحفاظ على جوهر العنصرية الذي يقوم على إنكار وحدة الجنس البشري، ذلك الإنكار الذي يزعم وجود فوارق أساسية بين البشر وإن تكن هذه المرّة فوارق تُقام على اختلاف الأديان والعادات والقيم الأخلاقية والتعليم والقدرة على التكيف الحضاري. فيكفي لكي تقوم العنصرية الثقافية أن يُقال إنّ هنالك طبائع محددة وثابتة لا تُورّث بيولوجياً بل تُنقل عن طريق التعليم أو تنطوي عليها الأديان فتُفرق بين البشر وتفسّر تفوّق بعضهم على بعضهم الآخر، وبذلك يتم الحفاظ على جوهر ثابت لا يخضع لتطور الظروف التاريخية والاجتماعية وتتمحور حوله الثقافات التي تغدو هي الأخرى جواهر مطلقة متعدية للتاريخ ومتعالية عليه، لا يعتريها ما هو إنساني من تطور أو تغير أو تواصل أو تأثّر.

ومن بين المزايا التي تتسم بها العنصرية الثقافية الجديدة، ثمة أمران لافتان على نحو خاص. أولهما أنها ليست مقتصرة على أوروبا والعرق الأبيض الأوروبي (كما كانت العنصرية البيولوجية أو الطبيعية) بل شاعت لدى بقية المجتمعات أيضاً بدعوى الخصوصية والعودة إلى الأصول.

أما الأمر الثاني فيتمثّل بالمفارقة التي مفادها أنّ تعاظم وانتشار هذا الشكل من العنصرية الثقافية، بإعلائه من شأن ما هو خصوصي أو قومي أو محلي أو أصولي، يأتي مترافقاً مع العولمة ونظامها العالمي الجديد. والسؤالان اللذان يطرحان نفسيهما هنا هما: ما الذي يدفع شعوباً تُمارس عليها العنصرية لأن تمارس هي أيضاً مثل ذلك؟ وكيف نُفسّر تلك المفارقة المتمثلة بأن تزايد عولمة العالم مقرون بازدياد الهويات فيه، بل مقرون - وهو الأهم - بازدياد تصلّب هذه الهويات وتعصّبها؟

لعلّ الإجابة عن هذين السؤالين تكمن في الظاهرة الواحدة ذاتها، ظاهرة العولمة السائدة التي تولّد هذه الضروب على وجه التحديد من ردود الفعل. فمن جهة أولى، لم يعد بحاجة إلى برهان أننا نعيش في نظام عالمي واحد لم يسبق أن عاشت البشرية في مثله من حيث الترابط واتساع المدى. وهذا النظام العالمي ليس نتاج مؤامرة، أميركية أو سواها، بل نتاج تطور تاريخي موضوعي هو الذي يُفسّر إمكانية قيام المؤامرات إذا ما وُجدت. ويعبّر هذا النظام عن عالميته عن طريق عدد من التدفقات لها تصريفها الثقافي سواء كان تصريفاً ثقافياً مباشراً أم غير مباشر. فنحن إزاء تدفق للتكنولوجيا والأموال والمعلومات والإيديولوجيات والصور والأفكار لا سابق له في التاريخ، فضلاً عن كوننا إزاء تدفق غير مسبوق للبشر يتجلى في نموّ الهجرة الدولية نموّاً دالاً على هيئة سيّاح ومهاجرين ولاجئين ومنفيين وعمال وافدين، بما يعنيه كلّ ذلك من وجود ثقافات عديدة بعيداً عن مواطنها الأصلية ومن نزوع إلى بلورة العالم بوصفه مكاناً واحداً وإلى بلورة العولمة بوصفها نشوءاً لشرط إنساني عالمي بالفعل. وهذا ما يقتضي نوعاً من إعادة بناء نظرية في الثقافة على مستوى عالمي وبحث الأبعاد العالمية للإنتاج الثقافي، ذلك أن النزوع الجاري إلى فكّ الارتباط بين الثقافة ومنطقة بعينها يجعل من غير الممكن التعامل بنجاح مع الظاهرة الثقافية دون إطار عالمي واسع متعدّ للمناطق والدول والخصوصيات الضيقة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة