Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
فضاءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

الرؤية الاجتماعية في روايات عبد العزيز مشري
د.سلطان سعد القحطاني

 

 

مقدمة

عَرف أهل الجنوب الهجرة في طلب العيش منذ القدم؛ فتجاوزوا البحار إلى إفريقيا، وجنوب شرق آسيا، ومن خلال التجوال في أطراف الجزيرة العربية، من الشمال بلاد الشام، ومن الشرق الخليج العربي، ومن الغرب مدن ساحل البحر الأحمر، إلى فلسطين ومصر، وغيرها من البلاد ذات الخصب الاقتصادي. وكانت لهم مواقف مشرفة في نشر الرسالة المحمدية، واكتسبوا سمعة طيبة في معاملاتهم التجارية، وصدقهم وأمانتهم في البيع والشراء؛ ولذلك اعتنق الإسلام كثير من الناس في تلك البقاع نتيجة التعامل المرتبط بالدين الإسلامي السمح، ومثلوا عروبتهم وإسلامهم خير تمثيل، وصاروا سفراء لبلادهم العربية، ودعاة غير مأمورين ولا منتدبين من جهة رسمية، وتعدوا ذلك إلى التناسب مع أبناء الشعوب الذين تعاملوا معهم، في الهند وماليزيا وإندونيسيا، وأجزاء من إفريقيا، مع الحفاظ على هويتهم العربية المسلمة.

ويعتقد بعض الباحثين أن سبب هجرة الجنوبيين تعود إلى أن هذه المنطقة منطقة طرد؛ أي منطقة شحيحة، ليست فيها موارد كافية، لكن الحقائق التاريخية لا تؤيد هذا القول السطحي؛ فمواردها الزراعية الكثيرة كانت تكفي سكانها في السابق، عندما كانوا يعتمدون عليها، كمصادر رزق يومية، ومياهها متوفرة، ومناطقها متعددة بين السهول والمرتفعات، وبحارها غنية بالموارد السمكية، ولكن المشكلة - في نظري - تعود إلى طموحات أبناء الجنوب، اللا محدودة؛ فلو كانت منطقة طرد لما عادوا إليها وصرفوا الكثير من الأموال في تعميرها؛ فالمهاجر يهاجر من أجلها، ليعمرها من الخارج، كما أن ثقافة الهجرة عرفت عندهم منذ القدم، وفي الهجرة توفير أكثر، وكسب مضاعف، فانتشروا في بقاع الأرض تحت ثقافة معينة تربطهم بالتقاليد والأعراف، فتنافسوا في كسب العيش وتطوير هذا الكسب إلى مؤسسات تجارية فاعلة.

وبالرغم من هذا كله، نجد أقل ما كتب عن المهاجرين في العالم عن هذه المنطقة، أعني جنوب غرب المرتفعات السرواتية، مقارنة بما كتب عن اليمن، وهو جزء منها من حيث المنظور الجغرافي، والعادات والتقاليد، وطبيعة الأرض، فضلاً عن الرصد الفني السردي، مقابل الأدباء والعلماء والباحثين، ولعل الكاتب الروائي الوحيد الذي جسد هذه العادات في منظور اجتماعي، هو عبد العزيز مشري، الذي رسم لوحات فنية عن قريته (محضرة) التي اختزلت - إلى حد ما - العادات والتقاليد، في المنطقة الجنوبية، مبتدئاً بموسم المطر الصيفي، عندما تأتي غيوم الصيف محملة بالأمطار من المحيط الهندي إلى جنوب الجزيرة العربية، فتصطدم بالمرتفعات لتفضي ما في جوفها على المدرجات، في احتفالية سنوية تقوم على الأهازيج الشعبية المعتادة في مثل هذه المناسبات، كما صور عناد ومكابرة الفلاح الجنوبي واعتزازه بتراثه ومنتج أرضه، مهما كان، فهو المقدم عنده المعتاد عليه، إنها الذرة، ولا يساويها ما هو مستورد من كندا، من البر وغيره، من البلدان الأخرى، فيغني في احتفالية زاهية بالحب والانتماء إلى الأرض التي عاش على ترابها، ومنها يعيش:

حبَّ الكَنَدْ ما نريده ما نِشْتِي إلا ذُرَتْنا

هذه اللوحة الفنية من أهازيج الفلاح الجنوبي، لسان حال جيل يشعر بمنافسة الوارد القادم إلى أرضه ليسلبها منتجها المحلي بسعر رخيص، يجعل الجيل التالي مستهلكاً لهذا المنتج الغريب، وبالتالي لا يستطيع الاعتماد على نفسه في معيشته اليومية.

كما صور الكاتب الحياة الاجتماعية في لوحة من لوحات التراث العربي الأصيل، في مناسبات الزواج، والحرث، والحصاد، والمعاملات التجارية المؤجلة إلى حين الحصاد وسلي السمن، وبيع المحاصيل، والمساعدات في النكبات والواجبات الاجتماعية. ويجد في هذه العادات الاجتماعية تأصيلاً ثقافياً يكابد من أجل البقاء والحفاظ على الموروث من الاندثار؛ فالمدرجات الزراعية لن تستطيع الآلة الحديثة جلب المياه إليها وسقيها، كما لو كانت الأرض مستوية في المناطق الأخرى، وبالتالي ستهجر، والفتاة حملت سفاحاً فلم تجد وسيلة أقرب إلى ستر أهلها من الموت غرقاً في البئر، وبجانب ذلك يرى أن هذا المجتمع مغزو بنوع من التحول الخطير في الحياة العامة، وأن أهله لا بد لهم من الهجرة واكتساب مفاهيم جديدة تختلف عن مفاهيم المهاجر القديم، فبدؤوا بالسفر للعمل في موسم الحج، وبعض فصول السنة، ثم العودة إلى بلادهم في حين من الدهر، كخطوة أولى للهجرة الطويلة. والكاتب عبد العزيز مشري يعالج هذه القضايا برؤية الفنان، وليس برؤية المؤرخ، أو عالم الاجتماع، أو الجغرافي. إنها رؤية فنية من خلال السرد الفني، وهذا البحث يؤطر لهذه الرؤية؛ للوصول إلى مفاهيم جديدة ظهرت من خلال الرؤية الفنية التي رسمها هذا الروائي في سرده عادات المجتمع السروي.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة