Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
فضاءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

التفسير الثقافي لتجربة محمد يونس
فؤاد السعيد *

 

 

منذ حصول الدكتور محمد يونس على جائزة نوبل للسلام مؤخراً حار خبراء الاقتصاد في تفسير النجاح المذهل الذي حققته تجربة بنك جرامين أو بنك القرى في بنجلاديش والمعروف عربياً باسم بنك الفقراء، إذ بدت لهم وكأنها تتحدي وتستعصي على كل تفسير اقتصادي ممكن وهو مما أثار العديد من التساؤلات؛ فبنجلاديش هي نموذج لواحد من أفقر المجتمعات في العالم وأكثرها كثافة سكانية، إضافة إلى تعرضها للكوارث الطبيعية المدمرة بشكل متكرر، فكيف قدمت واحدة من أبرز التجارب العالمية لمواجهة مشكلة الفقر اعتماداً على القروض متناهية الصغر التي تبدأ بما يوازي 10 دولارات ولا تتجاوز 120 دولاراً، بل إن التجربة طبقت وأسهمت في حل مشكلة الفقر في العديد من دول العالم مثل الهند وتركيا وكوسوفو وكذلك في دول متقدمة مثل إنجلترا والولايات المتحدة (خاصة ولاية اركنساس)!!

كيف يمكن أن تفسير ارتفاع نسبة سداد القروض إلى 98.85%، وذلك على الرغم من عدم اشتراط البنك على عملائه المعدمين تقديم أي نوع من الضمان المادي من رصيد مالي أو ممتلكات (وهي ببساطة غير موجودة لديهم أصلاً) أو حتى التوقيع على أي أوراق قانونية تثبت التزاماتهم تجاه البنك!!

والأهم من ذلك أن 48% من المقترضين لم يقوموا بسداد القروض فحسب، بل نجحوا عبر مشروعاتهم الريفية البسيطة في تجاوز مستوى الفقر خلال ثماني سنوات وذلك وفقاً لإسماعيل سراج الدين الذي قيد له متابعة أعمال البنك عن كثب خلال سنوات عمله كنائب لمدير البنك الدولي وكواحد من أبرز الخبراء في التعامل مع ظاهرة الفقر على مستوى العالم. وهي ظاهرة تبدو غريبة فعلاً إذا ما عرفنا أن نسبة سداد قروض الميسورين في البنوك التقليدية التي تحصل على ضماناتها كاملة في بنجلاديش لا تزيد عن 83%!!

والأكثر من ذلك أن فلسفة القروض متناهية الصغر ذاتها تتعرض منذ فترة لانتقادات عديدة تشكك في قدرتها على الاستمرار، وفي عام 2002 أشار تقرير اقتصادي نشرته صحيفة (وول ستريت جورنال) إلى المتاعب والصعوبات التي يواجهها بنك جرامين نتيجة للمنافسة القوية من البنوك الأخرى التي تراجعت فوائدها على القروض.. والحق أن نجاح تجربة محمد يونس بل وفهمها أصلاً لن يكون ممكناً دون سبر دلالاتها الثقافية العميقة كمؤسسة للتنمية الاجتماعية تستهدف أساساً تحسين نوعية الحياة للمعدمين وإخراجهم من دائرة الفقر، وهو ما يتجاوز المفهوم التقليدي المحدود للبنك، ففي مقابل مفهوم الفقر باعتباره (أحد أشكال التجريد من القوة) فإن البنك يعتمد في عمله على مفهوم ثقافي آخر يتمثل في (إكساب القوة للمعدمين) في المجتمع وكسب ولائهم وانتمائهم للبنك ولأنفسهم..

رأس المال الثقافي: الثقة

على الرغم من أن المفكر الأمريكي الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما كان أول من صك مصطلح (رأس المال الثقافي)، فربما كان محمد يونس هو أول من التفت لأهميته ووظفه بنجاح مذهل منذ منتصف سبعينات القرن الماضي. وإذا كان فوكوياما قد طبق المفهوم للمقارنة بين بعض الاقتصاديات الكبيرة، عندما لفت أنظار الاقتصاديين إلى أن أحد أسباب تميز الاقتصاد الياباني هو قوة مبدأ الثقة بين الأفراد والمؤسسات بما يقلص من الإجراءات القانونية اللازمة لإزالة الشكوك المتبادلة، وهو ذات المبدأ الذي نجده في المجتمع الأمريكي، وهو ما أنتج حركية عالية للمجتمع المدني وقدرة كبيرة للأمريكيين على تنظيم أنفسهم في منظمات وجمعيات كان لها دور بارز في النمو الاقتصادي، وهو وضع معاكس لنطاق الثقة المحدود الذي لا يزال يكبل اقتصاداً ضخماً كالاقتصاد الصيني، حيث تقتصر حدود الثقة على العلاقات التقليدية القديمة خاصة علاقات القرابة.

ويبدو أن محمد يونس قد التفت مبكراً لإمكانية توظيف عامل (الثقة) كقيمة ثقافية راسخة في المجتمع البنجلاديشي حتى في أوساط المعدمين ممن يستهدفهم البنك. وتبدأ الثقة من البنك نفسه بمجرد نزول القائمين على إدارته، هم أنفسهم، إلى الفقراء والمشردين والمتسولين دون انتظار لمجيئهم للبنك، وتتأكد مع تقديم القرض دون ضمانات، ولكن البنك يضع شروطاً تقوم أيضاً على الثقة، مثل طلب تزكية بعض أهالي المنطقة ممن سبق لهم الاقتراض والالتزام بالسداد، كما لا يتعامل البنك مع المقترضين كل بصفته الفردية، بل يتعامل معهم ويوافق على طلباتهم للقروض باعتبارهم مجموعة متضامنة أدبياً على كلمة شرف بالتعاون في العمل والدعم المتبادل في الشدائد والمساندة الإنسانية المتبادلة في سداد القروض (دون التزام قانوني).

ويبدو أن هذه الثقة التي يفترضها البنك في المقترضين، إضافة إلى رعايته الاجتماعية للأسر وهو ما يتجاوز دور البنك التقليدي قد قُوبلت بنوع من (رد الجميل) أو لنقل أن الثقة كانت في محلها بدليل ظاهرة الالتزام الطوعي غير القانوني بسداد القروض.

ولكن يبدو أن القائمين على البنك لا يعتقدون بأن كل قيم الثقافة التقليدية للمجتمعات تكون بالضرورة إيجابية على طول الخط، إذ يلفت النظر في تجربة البنك أيضاً التركيز على جانب اجتماعي مهم يتمثل في اعتماد بعض المعايير والشروط التي تنتسب للحداثة في اختيار الأفراد الخمسة لمجموعة العمل لبعضهم البعض دون تسليم بالمعايير التي تقوم عليها العلاقات التقليدية في المجتمع البنجلاديشي، ومن ذلك أن يقوم الاختيار الطوعي الجماعي المتبادل على معايير عقلانية وواقعية مثل التفاهم الإنساني والتقارب في التعليم والعمر...الخ، إذ يشترط البنك عدم وجود أقارب في المجموعة وهو ما يشير إلى تقدير سلبي للدور المعوق الذي يمكن أن تلعبه علاقات القرابة التقليدية في نجاح مثل هذا النشاط الاقتصادي.

ويمكن ملاحظة كثافة استخدام الرموز الثقافية التي تلعب دوراً مهماً في تقريب بعض المبادئ والمفاهيم إلى أذهان البسطاء، ومنها مثلاً تعدد رمزية (اليد) في ثقافة المجتمع؛ فهناك مفهوم (اليد السفلي) التي ترمز لليد الذليلة الممدودة للتسول، ومفهوم (اليد العليا) التي يحبها الله ورسوله، وهي اليد الكريمة التي تحصل على رزقها بالعمل، وهناك (اليد السوداء) التي ترمز ليد الظلم وتعبر عن المبدأ الثاني عشر من المبادئ الستة عشر والذي ينص على الآتي: (لن نسبب أي ظلم لأي شخص ولن نسمح لأحد بأن يفعل ذلك).

كما يلاحظ حرص البنك على توظيف وسائط إعلامية ملائمة ثقافياً في تواصله مع عملائه إذ اختار الاعتماد على الرسوم المعبرة وذلك وفق مبدأ الاعتماد على الإدراك البصري الذي يناسب المعدمين الأميين وعدم الاكتفاء باللوحات الإرشادية المكتوبة ويلاحظ أن الرسوم تتسم بالبدائية والبساطة مما يجعلها أقرب لأذواق الريفيين ودرجات ألوانهم، لدرجة أنها تبدو وكأن أحدهم قد رسمها، فهي بعيدة كل البعد عن قواعد الملصقات المحترفة التي اعتاد المثقفون إنتاجها واستخدامها في البرامج التنموية الموجهة للناس في الكثير من التجارب التنموية.

تفسير الطابع النسوي للبنك

من حيث المبدأ يساوي نظام البنك بين الرجال والنساء في حق طلب القروض المعتادة ولكن المتابعة الدقيقة والتقييمات الميدانية التي يجريها البنك أكدت أن القروض التي تحصل عليها النساء تؤدي دورها الاجتماعي لصالح الأسرة (التغذية - السكن - التعليم - سداد القرض - الاستثمار في المشروع) بشكل أكبر مما هو الحال بالنسبة لقروض الرجال، ولذلك فإن النساء المعدمات أصبحن بشكل تلقائي يمثلن النسبة الأكبر من المقترضين (97%) ونتيجة لذات النتائج الميدانية فإن نظام البنك يقصر ما يعرف بالقرض الكبير أو قرض الأسرة والذي يمكن أن يصل إلى 30.000 تكا على النساء في الأسرة دون الرجال.

ويلفت النظر هنا قبول الرجال لنتائج هذا الواقع وما يترتب عليه من تأكيد لمفهوم تدني جدارة الرجال مقارنة بالنساء، وعدم وجود مقاومة ذكورية لدور البنك أو عرقلة للدور الإيجابي الذي تلعبه النساء لتنمية الأسر، وهو ما يمكن تفسيره ثقافياً بتحذر قبول الرجال لاعتلاء المرأة مركز القيادة في المجتمع كما في السياسة، وهو أمر يميز ثقافة المنطقة الهندية بوجه عام، فقد عرفت بنجلاديش زعامات نسائية مثل حسينة واجد وخالدة ضياء، وعرفت باكستان بنظير بوتو، كما عرفت الهند أنديرا غاندي وسونيا غاندي، وعرفت سيريلانكا باندرانيكا وابنتها كوماراتونجا..الخ. وهو وضع يمثل نوعاً من الخصوصية الثقافية لهذه المنطقة ليس له مثيل في العديد من المناطق الثقافية الأخرى على مستوى العالم. ويمكن استنتاج صعوبة قبول مثل هذا الوضع في مجتمعاتنا العربية عموماً حيث تسود ثقافة ذكورية لا تزال ترفض قيادة المرأة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وهو معوق ثقافي - اجتماعي ينبغي تأمله بعمق عند التفكير في الاستفادة من تجربة بنك الفقراء في مجتمعاتنا..

نحو رأسمالية إنسانية

يلتزم محمد يونس كافة قواعد علم الاقتصاد الرأسمالي المتفق عليها عالمياً في تسيير شئون البنك، كما يؤمن تماماً بأهمية دور الحافز الفردي في النشاط الاقتصادي. ولكنه في هذا الإطار يعتقد أنه حتى الرأسمالية يمكن أن تكون هناك أكثر من قراءة لها، وذلك من خلال مراعاة الخصوصية الثقافية للمجتمعات التي تطبق فيها، ولذلك فإنه ينتقد المفهوم الضيق للرأسمالية الذي خلق مفهوم الإنسان أحادي البعد الذي يكون نموذجه الأعلى هو العمل على تعظيم الأرباح فقط، مع إلغاء كافة النزعات الإنسانية والدينية والاجتماعية حيث تمثل الرغبة في مساعدة الفقراء أحد الدوافع الأساسية المحركة للإنسان والأهم من ذلك كلّه أن نظرة يونس الرحيمة بالفقراء جعلته يرفض الصورة النمطية الشائعة في الاقتصاد الغربي عن الفقراء باعتبارهم معوقين للتنمية وعبئاً على المجتمع وفي مقابل ذلك عمل على تكريس نظرة متعاطفة معهم باعتبارهم ضحية لظروف اجتماعية اقتصادية على رأسها ظاهرة توريث الفقر وانعدام فرص التمكين والحراك الاجتماعي من طبقة لأخرى، وأن الأجدي هو تمكينهم من التحول إلى طاقة إضافية للتنمية، كما انطلق من موقف إنساني محض يختلف عن المنطق السائد المتمثل في الاستجابة فقط لضغوط الفئات الاجتماعية القادرة على الضغط لنيل حقوقها، فالفقراء والمعدمون والأرامل والمتسولون الذين غيّر البنك حياتهم حصلوا على القروض لمجرد كونهم بشراً ولمجرد أن جماعة من المثقفين نظروا لحق الفقراء في الحصول على القروض باعتبار ذلك واحداً من حقوق الإنسان الأساسية كما يقول محمد يونس.

* خبير في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية F_elsaeed@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة