Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
فضاءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

يوم نعى تركي علي الربيعو نفسه
فاضل الربيعي

 

 

عندما جلست إلى سريره وكان لا يزال يخضع للفحوص الأولى في المستشفى، سمعته يقول لي بصوت حزين: فاضل. هل سمعت النساء وهن يندبن موتى القبيلة في البادية السورية؟ اعتدل في جلسته وأنشد مقلداً صوت المرأة النادبة:

مرّ بالجزيرة اليوم كبش قصابة

كبشٍ كبيرٍ يعجب القصابة

في تلك اللحظات العصيبة شعرت أنه كان يندب نفسه فقلت محتجاً:

-خفف الوطء ولا تخذلني. أريدك أن تخرج معافى

لكنه خذلني ولم يخفف الوطء.

لم يصغ قط لتوسلاتي ودموعي أن يكف عن لعب دور النادبة. ولكم راودني الإحساس بعد ذلك بأيام قليلة أن توأمي الذي رحت أبحث عنه في المدن والبوادي حتى عثرت عليه، يوشك على الرحيل إلى الأبدية. ثم خذلني ثانية حين سمعته بعد ذلك وطوال فترة مرضه وهو يستعيد صوت النادبة البدوية نفسها، ويترنم بأشعار الموتى كأنه ينعى نفسه. في تلك اللحظات فقط رحت أسترد قصة عثوري على توأمي تركي علي الربيعو.

في خريف 1992وكنت لا أزال أعيش في لارنكا (قبرص) قرأت دراسته الرائدة (نحو تأسيس إناسة لدراسة المجتمع البدوي: قبيلة طيء نموذجاً). وكانت تلك بالنسبة لي، واحدة من أكثر المفاجآت الثقافية بعثاً على الشعور بالبهجة. هو ذا باحث ومفكر عربي طليعي يبادر بجرأة وبروح العلم، والقدرة على تلمس ما هو جوهري إلى إثارة واحدة من القضايا المسكوت عنها في الثقافة العربية المعاصرة. في ذلك الخريف قال لي الصديق الناقد الأدبي السوري ( المقيم حالياً في لندن) حسام الدين محمد وهو يقدم لي نسخة من فصلية الاجتهاد: (ستقرأ شيئاً مختلفاً). وبالفعل قرأت ما سوف أعتبره اللحظة الأولى والحقيقية لتاريخ صداقتي الشخصية؛ ولأقل إخوتي مع الشخص الذي سوف يظل بنظري صاحب منهج جديد مؤسس لدراسة للمثيولوجيا العربية/ الإسلامية. وكانت تلك هي المرة الأولى أيضاً التي تقع فيها عيني على اسم تركي علي الربيعو. بعد نحو سنتين غادرت قبرص عائداً إلى دمشق. وصادف أنني تلقيت دعوة لزيارة الحسكة لإلقاء بحث بعنوان (الروائي والمؤرخ) في ندوة مكرّسة للرواية العربية. في ذلك الصباح فوجئت به وجهاً لوجه في صالة المركز الثقافي في الحسكة (شرق سورية). تقدم نحوي فعانقته كما لو أنني أعرفه منذ زمن طويل.

قلت: دعني أعبر لك عن إعجابي يا بن العم.

فقال صديقنا أحمد الحسين مدير المركز الثقافي في الحسكة:

هو ذا تركي علي الربيعو. ألم تسألني عنه؟

كل ما يمكن قوله في هذه الخاتمة المفاجئة والحزينة أن تركي علي الربيعو، الكاتب والمفكر والإنسان ظل يتمتع بفطنة نادرة حتى في اللحظات الأخيرة قبيل رحيله. لقد كان يصغي إلى الأطباء مدركاً أنه يقترب من هاوية الموت السحيقة، وان كل ما يقال له إنما هو المحاولة الأخيرة لشراء الوقت من أجله ومن أجلنا. اليوم وأنا أنعي إلى نفسي الصديق والأخ والحبيب، لا أملك سوى القول أن عزائي وعزاء أسرته أنه ترك لنا أثراً يصعب نسيانه، كتبه ومقالاته ودراساته وذكرياتنا عنه. إنها من الطراز الذي قلما يجد القارئ نظيراً له في حقل الدراسات والبحوث المثيولوجية العربية. لقد رحل تركي ولكنه ترك لنا نحن الأصدقاء والمحبين والمعجبين، ربما ما هو أكثر بكثير من مجرد ذكريات أو كتب. ترك لنا قصة نموذجية ملهمة عن قدرة الكاتب وطموحه إلى الاجتهاد والابتكار دون توقف. وتلك هي الميزة التي تفرّد بها تركي عن سائر أقرانه. إن أعمال تركي الفكرية في المثيولوجيا والسياسة وحقل الدراسات الثقافية تشكل علامة فارقة في الثقافة السورية والعربية. إليكم ما كتبته عنه في كتابنا المشترك الذي يصدر هذه الأيام عن دار الفكر السورية (المثيولوجيا والسياسة في الوطن العربي) وهو العمل الأخير الذي شاءت الأقدار أن نكتبه معا:

إن تركي بشيء من التوصيف المجازي (الرمزي) يتمتع بمهارات لاعب كرة قدم شاب يندفع في قلب الميدان بلياقة بدنية ممتازة باحثاً عن فرصته بنفسه ومن دون معونة زملائه في الملعب. وفي اللحظة التي تصبح فيها الكرة بين قدميه سيقوم بسلسلة مناورات تكتيكية ناجحة، تثير الإعجاب والقلق في آنٍ معاً. وحين يحبس الجمهور أنفاسه وهو يتابع هذه المناورات مفتوناً ولكن قلقاً ومتسائلاً عمّا إذا بوسع اللاعب الماهر أن يبلغ الهدف في خاتمة المطاف ومن دون أن تضيع الكرة من بين قدميه، سوف تنتاب المشاهد مشاعر غامضة. هل كان عليه حقاً، أن يقوم بكل هذه المناورات لأجل بلوغ الهدف؟

وأظن أن تركي بلغ الهدف ونال إعجاب الجميع ومحبتهم.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة