Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
مراجعات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

 

 

رسائل إلى ابن بطوطة

عبد الله عبد الوهاب العباسي

115 صفحة من القطع الكبير

في الحلقة الأولى تناولت رسائل شاعرنا إلى ابن بطوطة التي رصد فيها ملامح من مشهده الشعوري التاريخي لمدينة النور والحياة الصاخبة نقلة إلى بلاد الأفيال عبر الجبال المغطاة بالثلوج وصولاً إلى بلاد ياجوج وماجوج (الصين) عودة إلى وطنه.. ثم إلى وجدانه في قصة حب غير مكتملة.. هنا حط رحاله.. وأمال جمله أمام مشهد الصحراء التي يحبها وتحبه:

مالَ بعيري إذ نحن على ظهر الصحراء

يسألني: هل تحمل زادا؟!

هل ريح صبا نجد ضربت من أجل قدومكَ ميعادا؟

هل أمطرت الدنيا أفراحا.. أعيادا؟

بعيره المائل ازداد ميلاً كمن يحاول التقاط عشب صحراوي اشتاق إليه.. أما هو فتبسم.. تلثم.. لكز دابته وعلى فمه عبارته:

خذني فالصحراء مفازتنا

خذني لديار الحب المعتاده

خذني حِمْلاً إن ثقل عليك

فما ثقل على محبوبته رغم عناده

الديار محبوبة.. إنها أغلى محبوبة لدى أهلها.. يريد أن يطأها بأقدام حانية.. يرى معالمها.. ويشهد عالمها كما لو أنه لم يرها من قبل:

هذي صحراء الأحقاف.. وبيتك بين النهرين

وناي الريح بها يعزف الحانا وقاده

محكوم ان تضرب فيها..

محكوم ان نعبر وادي الجن

وليل ذئاب ساهرة تنتظر رفاده

أليست صحراء..؟ إلا أنها في عيني أهلها مسكنهم، وسكنهم.. هكذا عشقه الذي رُوِّع على غير انتظار.. بعيره مات.!

مات بعيري.. فتغنيت بآلام الفرقة

غنيت له يا ابن بطوطة موسوعات الغربة

بات وحيداً دون راحلة وسط صحراء يصهره حرها.. ويزجره قرها.. ومع هذا عشقه لها يتوقد بين جنبيه لأنها داره ولأنها هبة أقداره. ومتحف تاريخه وآثاره: أبدل راحلته بأخرى جاب الصحراء.. وارتسمت في وجهه صورة ابن بطوطة من جديد:

صاحبتي يا ابن بطوطة أغنية من شام اليمن منابتها

وبيمن الشام الموعد منشودا..

أن ترسم يا ابن بطوطة قمراً في ليل الصحراء

أن تنقلب الدنيا في عينيك جمالاً يأخذك بعيداً

وترى موسوعتك بها آخر لحن غناه العشاق..

عشق شاعرنا العباسي يتجاوز عشق الحسناوات.. عشق تراب.. وتراب.. عشق أهل ووطن.. عشق حياة..

يا ابن بطوطة أسألك الله متى داهمك الشوق؟

وكيف أخذت مسارك للعودة مشتاقا؟

موعدك المضروب بطنجة الغراء هل ناداك؟

وهل الغيث مع الدرب وفاقاً؟

ويستطرد ابن بطوطتنا في رسالته:

يا ابن بطوطة ها نحن وقد حثَثْنا السير

فبرق فوق رؤوس السروات

ويرسم في الصحراء طباقا

سالت وديان حنيفة. وبني عبد مناف

والمنتظرين صداقا.. عرس أقلق كل سكون الليل

فسافرنا غربا.. وغدونا شرقاً إشفاقا

فماذا يفعل من لا يجد به أهلا؟

ومع إحساسه بشيء من وحدته ووحشته إلا أن أمام عشقه لطويته ومطيته كان الأقوى:

سيدتي سلم نفي بأقصى الأرض

لجاء إليك اليوم يقدم أشواقه..

هاجس السفر إليه لا يهدأ.. كوريا كانت مقصده وقصيده..

من نيسابور.. حتى سيئول

وبلادك يا كنفشيوس تسائلنا عنك كثيرا

غلبته الحكمة أم ضل؟

كيف يضل الجبل يا صديقي من قال (لا تلعنوا الظلام، ولكن أوقدوا الشموع.. كان شمعة فلسفة لا يجرأ الظلام على قهرها) سرد لنا بعض ملامح عن هذا الفيلسوف الصيني الكبير:

أقول لكم ذهب الغابة يجمع حطبا

ولقد أدرك في الغابة عجبا

قابله الثعلب والذئب الاثنان معا

وكذا سحبا تتبع سحبا..

كونفشيوس بكى.. من يأتي بالعصفور إذا؟

اختلفا من يأتي به.. وبحكمة الفيلسوف تركنا للعصفور أن يأتي وحده في حرية. وأمان لا خوف فيه.. الفيلسوف تساءل عن ذلك العربي الذي يتحدث بالصدق.. ويقول إلى أين.. ويغني شعراً لثريا إلى نجم في أعماق الليل.. ويحمل الذكرى العطرة من عذب الشرق.. ربما كان فيلسوفاً مثله.. رحالتنا شاهد سور الصين العظيم لصد غزوات الأعداء. إحدى عجائب الدنيا السبع.. الصين واحدة من عجائب الدنيا..

ومن الصين إلى بلد الإغريق.. اليونان كانت له وقفة:

يا ابن بطوطة لو أني طير يصدح في روضته

وتردد من خلفي طيور الروضة لحنا موقورا

اجعلها ترقص.. ونيزك يا زوربا

فتذوب في بحر الإغريق سفيرا..

فأخائيل أنت هنا.. وحصانك طروادي

والسرج صناعة مراكش

ساعتها استلقي موزون النفس

الأماني الكبيرة لا تقيم عرساً لمن يحملونها إذا كانت أكبر من قدراتهم.. نعم يصنعونها شعراً ولكنهم لا يقدرون على صنعها واقعاً..

كاد يصبني الدوار في رأسي وأنا أتابع رحلته على الورق.. فجأة يأخذنا من محطة قريبة إلى أخرى بعيدة.. وبالعكس. هذه المرة إلى جنوبنا:

يا وابل وادي الجوف ترفق

فابن بطوطة عاد إلى وادي أرحب

مسكين من يرد الماء بلا دلو كي يشرب

وكان مثال الرحلة للمغرب.

لكنك حين نصبت الأشرعة الزاهية الألوان

وناديت عليهم من أفيائك.

أيقنت بأنك وحدك قد تذهب..

وغدوت بحر الظلمات

خسارة تاريخ ! أومكسب

حتى هو أصيب بالصراع في ملاحقته لمعلمه الرحالة ابن بطوطة.. أنهكته النقلة من مكان إلى آخر.. شاخ.. ووخط الشيب شعيرات رأسه:

يا ابن بطوطة، وخَطَ الرأس الشيب

وضاعت في أوهام سنيني. فأسلمت قيادي لظنوني

مسكين من ضاع بدرب الأمام

وبات أنين لياليه كأنيني

فارس رحلتنا تمثل في دواخله كل ضروب الشكوى يعترف بهزيمته في دنيا لا طعم فيها للنصر.. الناس تائهون.. وأحياناً تافهون:

يا ابن بطوطة حين وقفت أسائلهم

من منكم طرق دروب الكلمات

ومدَّ لها حبلاً فأتته تردد (غنوني)

لم يجدوا رداً غير الصمت فعدت افضفض مكنوني

الحبشة.. إثيوبيا اليوم اشتاقته.. واشتاقه تاريخ النعمان بن المنذر.. غسان. ووفود أمية. وبني العباس. واللخميون. وسجيس. وطي. وزهير ابن أبي سلمى. والأعشى هؤلاء جاؤوا على متن التاريخ شغلوه. واشتغل بهم.. إنهم البعض الذين مر بهم ابن بطوطة. بحر القلزم..

يا طيرا لا تملك أجنحة..

ايان. وأعوامك في الأعوام تروس

خذني.. يا بحار جنوب القلزم

خذني غرباً. صاحبتي فينوس..

اسألها أن تأخذني في أهداب الأحلام

يا أرض سلمى طال بعادك..

وتتداخل الصور قديمها وجديدها حتى لا يكاد يعرف الواحد منا من أين يبدأ وإلى أين ينتهي..

وكأني مستلق جبل الهملايا.. القاهر بحر الصين

الرافض أن أبقى.. فيقال بأني في روما محبوس

أشرعت شراعي.. أبحرت كما شئت

ويبدو أنه اختار بلد الأرز لبنان الجبل. والسهل. لبنان الثلج والبحر.. لبنان الصيف. والربيع. والشتاء والخريف مجتمعة في مكان واحد:

أربع كلمات فوقك يا ظهر البيدر

ونشيد الإنشاد يقال على جلعاد

امرأة من بيروت قدت من عاج

يا ابن بطوطة اسألك الله أتعرف بيروت؟

النافذة الغريقة للشام

الرابضة على ضفة بحر الأنغام

ومن لبنان إلى توأمها سوريا..

من منكم جاء إلى الشام

هذا بردى يخترق صفوف الأزهار

ويحملها للجار إذا احتاج الجار

مقاطع مجزأة من رسائل رحلة لابن بطوطة. أعادته إلى نزلة ذات ليلة قمرية فاح فيها الأريج تراءت له فيها صورة ابن بطوطة:

رأيتك تحمل مصباحاً أخضر، وكتابا أصفر

أيقنت أنا أنك ضعت بليل العطر

فأمسكت بمصباحك.. اسألك،

أكانت ليلاك تغني للقمر الرابض بدروب السحر؟

أم أنك تحلم بلقاء تأباه؟!

قلت لنا: كم تلد الكلمات كلاما

لكن ليس بليل القمر سواه

فحملنا عنك المصباح. وسرنا..

إلى أين هذه المرة؟

نحو وادي النسيان سافر. لكن مازالت توقظه الأداة.. أن يخاطب مثله الأعمى أن يأخذه معه.. هل اصطحبه معه؟

يبدو أنه ظل وحيداً يسكنه اليأس.. بعد طول مناشدة وتوسل: لقد أقدم على ما ليس في الحسبان:

لكني أحرق سفني في عرض البحر

أجوب دروب الصمت نديما باب سنمار هوى

وبأسوار التاريخ رأيت حريقا مزعوما

أين مدينتك.. لعل بها مأوى للعشاق نلوذ إليها؟

يا ابن بطوطة استسمحك إذا كانت للكلمات عيون

تنطق ألحانا.. وتشن هجوما.. فأنا قد جبت الغابات

وحطيت بوديان الصمت

وكانت للكلمات بدنيانا أوجاعا وكلوما

قمر أبلج. وزهيرات تهوانا..

سيدة من سبأ تلهب ذكرى بلقيس

وبأسوار المقدس مرعانا

يا مركبتي الغافية في الشطآن

أشد رحالي أن شئت. فولهان عشت

وتاريخي قد أصبح ولهانا

لا يرويني (السين) ولا (المسيسسيبي)

لا أجد بردى أو دجلة تحنانا

يا ليت العشق نسيمه يلقانا..

في رسالة شاعرنا الموهوب ما قبل الأخيرة مع ابن بطوطة تحدث عن التيه الذي لا تورق فيه أمطار الصيف:

والصيف يرخ ويرخ.. ودمعاتك تبكيك وتبكيه

لكأنك ما ضعت بليل النجمات.. وجدك يطعنك..

تصرخ في وحدتك.. وغربتك أضاعت منك الأيام

وتحلم أن تؤويك. وتؤويه..

لو قيل بأنك محزون لتحسرت

لو سكنت أوجاعك ساعتها لأنشدت لنا لحنا..

ولقلت لنا شعرا.. والأمطار تحييه..

وأخيراً.. مع رسالته الأخيرة..

نامت كلمات العشق.. فمن يوقظها؟ وأحاديث تترى في القلب

يوما نحمله للصبح. ويوما يحملنا. والآلام كواسر

هأنذا أشرعه في تيه البحر.. ألا ليت ليته البحر مناثر

تهدينا حين الريح المسعورة تعوي.. وتمنينا إذا نحن نحاذر

استسمح شاعرنا المجلي.. وأستاذه الراحل أن أضيف شيئاً مستجداً لم ننصفه.. باريس أيضاً عاصمة السربون والثقافة. وبلاد الأفيال دولة صناعية كبرى.. وبلاد الياجوج وماجوج (الصين) دولة عملاقة عظمى يحسب لها ألف حساب وحساب. أما صحراؤنا الوفية فمن مخزونها تدفق الذهب الأسود البترول.. الذي بفضله قامت الجامعات. والمجمعات التي يجيء لها الربيع من كل مكان وعلى مدار العام.. وبفضله أيضاً قامت صروح المؤسسات الكبيرة والمدن الجديدة.. ومعالم حضارة مادية مشهودة.. ناهيك أنها موطن الحرمين.. وقبلة المسلمين..

شكراً لشاعرنا الذي أبدع وأخذنا معه في رحلة ممتعة قوامها خيال خصب.. يعانق التاريخ.. ويخاف على التاريخ أن يتحول إلى مجرد ذكريات؟

الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 فاكس: 2053338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة