Culture Magazine Monday  29/01/2007 G Issue 184
قراءات
الأثنين 10 ,محرم 1428   العدد  184
 
رواية رفيف الترائب لخالد الأنشاصي
المسكوت عنه في القرية المصرية
فيصل عبد الحسن*

 

 

بعد ديوانين شعريين هما: ولي اختيار الأرض 1998- وموسيقى الجنائز 2005 - وأطروحته النقدية: الاغتراب في شعر الجنوبيين - يهدينا خالد الأنشاصي روايته الأولى: رفيف الترائب 2005.

تتناوب في الرواية أصوات المحكي والمحكي عنه لتقول لنا أشياء كثيرة عن الساكت والمسكوت عنه في حياة القرية المصرية اليوم، راوية عن حياة شبابها وضياعهم في زحام المدن الكبرى، وضياع تلك القرى في الإهمال والعادات القديمة وقسوة الحياة على أبنائها ومعاناتهم بما يشبه حمل صخرة سيزيف حتى أعلى الجبل وتدحرجها ثانية إلى أسفله، كأنه القدر الأبدي الذي حتم على أبناء هذه القرى الحرمان والمعاناة والفقر الشديد، الذي لا يجدون معه حلاً غير الهجرة للبحث عن عمل في دول الخليج النفطية، فتلد هذه الهجرة المزيد من الإشكالات للباقين من أهلهم في قرى الفقر والإهمال، فالزوجة تصير عرضة للمزيد من القهر النفسي، والجسدي، كما نرى في زينب زوجة أنور الذي يعمل في المملكة العربية السعودية، فهي بالرغم من تربيتها القروية المتزمتة وسلوكها اليومي الذي لا غبار عليه تصير عرضة لرياح الكلام فضح المسكوت عنه عن علاقة آثمة بعمها والد زوجها - أو هكذا تصور لنا خيالات العاشق طالب الثانوية ماجد وهويري ما يحدث خلف الأبواب الموصدة في قريتهم الصغيرة، ويغتال جو القرية الموبوء في الرواية كل حلم ممكن، فلا شيء في القرية يسهم في تزجية وقت الشباب، لا مكتبة عامة ولا نوادي للشباب ولا فرصة متاحة لبناء علاقات سوية بين الفتيان والفتيات ويجعلنا الكاتب إزاء غابة من الكبت والحرمان فيختلط صدق التقويل بكذب الحاكي وتبقى صفحات الرواية أيروتيكا خالصة مجبولة بالعذاب والانسحاق وفقدان روح الآدمية السوية، فماجد لا يجد صديقاً في قريته غير يحيى لص الأتوبيسات الذي لا يجد ضيراً من معاشرة جنسية مع أحد الشواذ لقاء المال، وينقل لنا الحاكي في إشارة معبرة أنه رأى أصابع ذلك الشاذ مبتورة بفعل مرض الجذام وهي إشارة ذكية للجذام الروحي الذي بدأ يستشري بالبعض فصار المال معبوده وعليه أن يحل مشاكل فقره حتى لو باع نفسه للشيطان.

رواية (رفيف الترائب) لخالد الأنشاصي تسير بقارئها في ثلاثة دروب، الأول يقودنا للعلاقة الجديدة الهشة في العائلة وهو يختلف تماماً عما ألفناه عن جو القرية المصرية من خلال أدب نجيب محفوظ ويوسف السباعي وعبد الله خيرت ويوسف إدريس ومحمد مستجاب ويوسف القعيد وجمال الغيطاني، وغيرهم فقد كانت قصص وروايات هذا الأدب تشير إلى متانة البناء العائلي في القرية المصرية وإلى متانة الروابط الأسرية وديمومتها واعتبارها من المسلمات المقدسة، التي لا يمكن الطعن بها وكم أسعدتنا في ذلك الأدب علاقة بين خال وابن أخته وعم بابن أخيه وأخ بأخيه وابن بأبيه وأخت بأخيها، وزوج بزوجه وخادم بسيده وسيد بخادمته، والخيط الثاني يجعلنا أمام موضوعة تغير في القيم العاطفية التي تجمع بين الرجل والمرأة فقد اختفت الصورة الرومانسية للعلاقة بين الاثنين ليحل محلها في رواية (رفيف الترائب) علاقة مبنية في أساسها على الجنس ويصير هذا الموضوع هدفاً لأي علاقة وهذا خلاف ما عرفناه عادة في الأدب المصري ابتداء من يحيى حقي في بعض قصصه التي تعنى بقضايا المرأة المصرية في الريف وتوفيق الحكيم لاحظ روايته (يوميات نائب في الأرياف) وإلى حد ما رواية (عصفور من الشرق) التي توضح العلاقة الرومانسية بين قروي مصري يعيش في فرنسا وجارته الفرنسية وثروت أباظة في رواية (في بيتنا رجل) ويوسف إدريس في الكثير من قصصه القصيرة، إذ كانت تبنى العلاقة على أسس عاطفية إنسانية قريبة كثيراً من واقع الحياة المصرية ويجيء الجنس فيها إنسانياً مؤثراً كحصيلة نهائية تفرضها سلسلة الأحداث المتوالية فلا تثير الاستغراب والرفض فهي بالضبط كالموت والميلاد.

أما الخيط الثالث الذي تؤشره الرواية فهو انقلاب حقيقي في فهم قيم الخير والشر لجيل جديد من الشباب ولدوا في زخم الأزمة الاقتصادية الخانقة وضياع الفرص ببناء حياة قويمة، باعثة على الأمل، في جو مريع من الإهمال لما يحدث لهذا الجيل أو الاهتمام بحل مشاكله أو وضعه أمام فرص حقيقية يكتشف فيها إنسانيته، ودوره الضروري في أي بناء مستقبلي للحياة في القرية المصرية فيحيى اللص يصير قديساً يقتسم مع ماجد البطل المحوري في الرواية كل ما يسرقه أو يحصل عليه وحبيبته مديحة التي لا يرى صديقه (ماجد) عيباً في معاشرتها سراً والتي روى عنها يحيى ما يشبه الأساطير عن وفائها له ويصفها بأنها زوجة عذراء تزوجت غنياً عنيناً بفعل الحاجة وهي ستنتظره ببكارتها إلى الأبد مع علم القارىء أن كل ما قاله عنها يحيى أكاذيب وأحلام لا علاقة لها بالواقع، فالواقع أكثر إيلاماً من ذلك وأن زوجها المتزوج من ثلاث زوجات غيرها كامل الرجولة لكنه لا يتوانى عن غض طرفه عن شرفه إذا قبض ثمن ذلك عن إحدى زوجاته.

الخيوط الثلاثة التي أشرنا إليها يتحرك الكاتب خالد الأنشاصي خلالها في رواية من 220 من الصفحات تجعلنا إزاء رواية مختلفة عما ألفناه في الأدب المصري الحديث فهي رواية تتحدث عن انحدار في بنية وتراكيبية القرية المصرية، فالأب كسلطة معروفة في البيت صار هامشياً ولا قيمة فكرية أو رمزية لوجوده في العائلة، والنموذج المتاح في الرواية أب البطل المحوري ماجد الذي تزوج بامرأة لا تحب ماجد ولا تقبل بوجوده في محيط العائلة، فالبطل مطرود بالرغم من انه يعود أثناء العطلة الصيفية إلى بيت العائلة ولكنه لا يلبث أن يعود من جديد إلى الشقة القريبة من مدرسته المكتراة له من قبل والده ليمضي فيها فصله الدراسي والأب النموذج الثاني في الرواية هو أب أنور الذي له علاقة آثمة بزوجة ابنه حيث الابن مطرود هو الآخر إلى خارج بيته إلى المملكة العربية السعودية - كحل لأزمة اقتصادية خانقة تمر بها العائلة الجديدة في محيطها القروي لغرض شراء أرض جديدة أولفتح باب رزق جديد وينتهي الطرد بموت أنور دهساً بأقدام حجاج بيت الله الحرام وينتهي أبوه بجلطة بالمخ وشلل تام وزواج زينب زوجة المتوفى من فتحي صديق ماجد ليرث ما تركته المصيبة لزينب من أطيان وبيوت.. ويموت يحيى ميتة فجائعية في مستشفى القرية الفقير بعد إصابته بمرض لا شفاء منه في إشارة ضمنية لمرض الإيدز وتزداد أزمة البطل المحوري ماجد حين يكتشف أن حبه لإيزيس التي تحاول أن تنصره بعد أن تكتشف انه مسلم وليس كما أوهمها أول الأمر عندما كان يضع حول رقبته سلسلة تحمل صليباً وأنه ما أحب غير جسدها فيستطيع إغراءها وبعد أن يمتلكها تطلب منه الزواج ولكي يتم الزواج عليه أن يتنصر فيخبرها أن الإسلام يجيز له أن يتزوجها ويبقى محتفظاً بدينه لكنها ترفض فهي تخاف أهلها أن تزوجت برجل غريب عن دينها فيذهب إلى الكنيسة معتقداً ان من السهولة أن يغير دينه لكنه يصطدم بالقس الذي يخبره ان ليس من السهل على الكنيسة ان تنصر مسلماً والمحيط كله من المسلمين وأفهمه ان ذلك يحدث فتنة والجميع في غنى عنها فيرجع مخذولاً ويتم خذلانه حين تعتكف إيزيس ويخبره أبوها أنها أصبحت راهبة ولن يستطيع رؤيتها بعد اليوم فقد نذرت نفسها إلى الله.

رواية (رفيف الترائب) محاولة جادة في الكتابة عن المسكوت عنه في القرية المصرية وما يحدث فيها من متغيرات كثيرة في الوقت الحاضر وقد حملت بين ثناياها محاولة لإدانة قيم متعارف عليها كتعدد الزوجات والإهمال الذي يلقاه الشباب من مؤسسات الدولة وعدم فهم الأزمة الروحية التي يمر بها جيل الشباب الحالي وبحثه عن حلول وفق منظوره هو واجتهاداته الخاصة التي معظمها خاطئة أو منطلقة من معايير غريبة على مجتمعاتنا العربية والإسلامية وهي في العادة منقولة عن مجتمعات غربية لها فهمها التاريخي والاجتماعي الخاص بها في فهم علاقة الفرد بالمجتمع أو فهم دور الأسرة في المجتمع والعلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة وعلاقة الفرد بالدولة وعلاقة الدولة بالفرد.

* رواية رفيف الترائب - خالد الأنشاصي - عن مركز الحضارة العربية - القاهرة - ط1 2005 - 220ص قطع متوسط

* كاتب وصحافي عراقي يقيم في المغرب faissalhassan@maktoob.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة