Al Jazirah NewsPaper Saturday  16/12/2006G Issue 12497متابعة السبت 25 ذو القعدة 1427 هـ  16 ديسمبر2006 م   العدد  12497
رأي الجزيرة
الصفحة الرئيسية

الأولى

محليــات

الاقتصادية

الريـاضيـة

مقـالات

فـن

الثقافية

دوليات

متابعة

منوعـات

الرأي

عزيزتـي الجزيرة

الطبية

مدارات شعبية

زمان الجزيرة

الأخيــرة

الجزيرة العربية منبع للثقافة والتراث الإسلامي
د. سعد بن عبدالعزيز الراشد

هذا نص كامل للورقة التي قدَّمها الدكتور سعد الراشد إلى المؤتمر الدولي حول التراث الثقافي في العالم الإسلامي وإسهام الحضارة الإسلامية في الحضارة الإنسانية الذي عُقد في أصفهان، الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال الفترة من (27 إلى 29 نوفمبر 2006م).
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه العزيز {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} وقوله تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}وقوله تعالى {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، والصلاة والسلام على نبينا المصطفى محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ورضي الله عن آل بيته وصحابته الكرام.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وقوله صلى الله عليه وسلم (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا).
أيها العلماء والخبراء الأفاضل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
لقد أحسنت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الأيسسكو) في تنظيم هذا الملتقى هنا في أصفهان بالتعاون مع رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية. إن أصفهان تشكل أهمية خاصة للتاريخ الإسلامي وحضارته. هذه المدينة خرَّجت من العلماء والأئمة في كل فن ما لم يخرج من مدينة من المدن في العصور الإسلامية المبكرة. ولعلني أستذكر بيتاً من الشعر قاله الصاحب بن عباد:
(يا أصفهان سقيت الغيث من كثب
فأنت مجمع أوطاري وأوطاني)
إن أحد أهداف المهمة للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الايسسكو) هو البند الخامس الذي ينص على الآتي: (دعم الثقافة الإسلامية وحماية استقلال الفكر الإسلامي من عوامل الغزو الثقافي والتشويه، والمحافظة على معالم الحضارة الإسلامية وخصائصها المتميزة).
وأحسب أنه في إطار هذا الهدف يأتي انعقاد مؤتمرنا هذا، لنتدارس فيه أربع نقاط رئيسية هي:
1- تقييم الوضع الراهن للتراث الثقافي الإسلامي المادي واللامادي.
2- البحث في سبل استخدام تقنيات المعلومات في المحافظة عليه.
3- إسهامات الحضارة الإسلامية في اغناء التراث الإنساني.
4- إتاحة الفرصة للخبراء والمسؤولين المشاركين لاعتماد مقارنة علمية جديدة للمحافظة على التراث الثقافي والحضاري الإسلامي من أجل وضع إستراتيجية للشراكة بين الدول الإسلامية والمؤسسات الاقليمية والدولية المتخصصة.
والواقع ان مداخلتي تنطلق من تراكم خبرات محدودة ومتواضعة اكتسبتها عبر رحلة من الدراسة والتدريس والإدارة في مجال الآثار والمتاحف والمناشط الثقافية في بلدي المملكة العربية السعودية وعضويتي ومشاركتي في عدد من المراكز البحثية على المستوى الوطني والخارجي.
ولعل من باب التذكير القول بأن جذور الثقافة الإسلامية حملها المسلمون الأوائل من الجزيرة العربية إلى المناطق المتعددة التي دخلها الإسلام في آسيا وإفريقية وأوروبا، وقد أدى اختلاط ثقافة العرب المسلمين المبكرة مع الثقافات الأخرى إلى تشكيل ثقافة إسلامية خلاقة في الأدب والشعر والعلوم والفنون والعمارة والصناعة والزراعة وغيرها. والجزيرة العربية كانت في نظر الكثيرين من الناس من غير أبنائها، على أنها مجرد صحراء قاحلة وأن أهلها تغلب عليهم البداوة. لكن الواقع يخالف ذلك فالجزيرة العربية ظهرت فيها حضارات موغلة في القدم أبرزها الممالك العربية في جنوب الجزيرة وشمالها وشرقها وغربها. ومن أشهر هذه الممالك سبأ ومعين وقتبان وحمير وحضرموت ودادان ولحيان والأنباط وكندة.
وكان العرب أمة تجارية خصها الله سبحانه وتعالى بسورة قرآنية: {لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.
ووفقاً لهذه المعطيات نشأت المدن والحواضر في مختلف أرجاء جزيرة العرب، وتطورت طرق التجارة وأصبح التواصل مع المراكز الحضارية المجاورة قوياً، ولعب تبادل المنفعة مع شعوب وسكان الأقاليم البعيدة والقريبة دوراً مفيداً ومؤثراً في التواصل والتقارب الحضاري. وإذا كان هناك فترة هدوء قصيرة قبيل الإسلام - وهو ما عرف بالعصر الجاهلي - فإنه سرعان ما بزغ فجر الإسلام فتوحدت شعوب وقبائل الجزيرة العربية تحت راية الإسلام فعم الأمن والطمأنينة. وازدهرت مكة المكرمة والمدينة المنورة، وحمل المسلمون تعاليم الإسلام إلى شعوب الأرض، فامتزجت ثقافة أبناء الجزيرة العربية تحت مظلة الدين الإسلامي وتعاليمه السامية مع ثقافات الشعوب الأخرى، وأدى ذلك إلى ازدهار العلوم والمعرفة. وبدأ التجار المسلمون يطوفون الطرق التجارية القديمة وامتد نشاطهم إلى أقاصي البلاد البعيدة.
وقدم الرحالة المسلمون والجغرافيون أدق وصف لتلك الطرق التي ربطت الممالك الإسلامية بعضها ببعض، ووصفوا ما عليها من عمائر ومرافق ومدن ومحطات. وانتشرت دور العلم والأربطة والخوانق والمدارس والمصانع في كافة مدن العالم الإسلامي، وأسهمت الشعوب الإسلامية في إثراء العلوم والمعرفة والحضارة. ولم تكن المساجد دوراً للعبادة فحسب وإنما كانت معاهد ومدارس للثقافة الإسلامية.
وقدر للشعر الفارسي ان ينطلق انطلاقته الرائعة وأصبحت الحياة الثقافية تشتمل على معان سامية من تأثير الفرس في الحكم الإسلامية أو علم الأخلاق. وبانتشار الإسلام أصبحت الحركة الثقافية تسير في طريقها المرسوم حيث لم تعد ثقافة الوافدين من العرب إنما توطنت بين أهل البلاد والذين بعد ان تعلموا اللغة العربية أصبحوا يضيفون الكثير إلى الإنتاج الإسلامي.
وظهر لدينا من ثقافات بلاد ما وراء النهر إنتاجاً غزيراً، وهذا يتضح في كتب الطبقات مثل: طبقات الأطباء والحفاظ والفقهاء والشعراء واللغويين والنحاة والمفسرين، ومن هؤلاء الترمذي والبخاري والفرغاني وغيرهم. وكان لأمثال هؤلاء العلماء فضل كبير في تنوير المجتمعات الإسلامية في توجيه الناس وحل الخلافات والمنازعات بينهم فيما يتعلق بأعمال الزراعة والمساقات وتوزيع المياه بالعدل وأحكام البناء وفي البيع والشراء والتمتع بالمال الحلال الذي شرعه الدين الحنيف. وان من يطلع على أخبار وتواريخ أمهات المدن في المشرق الإسلامي وما بعده سيجد كيف كانت النهضة الإسلامية الكبرى في نيسابور والري وبخارى وسمرقند وفي بلاد السند، وكيف أدت الثقافة العربية الإسلامية دورها في إعادة الاتصال بين شبه القارة الهندية وبين بلاد الشرق الأدنى القديم التي أصبحت أهم وأبرز المراكز الحضارية فيها مثل البصرة والكوفة ودمشق وبغداد وسامراء وغيرها.
ولا غرو ان الهند فيها (الصلاح والحكمة)، فلقد تركت الثقافة الهندية أثرها في الثقافة العربية الإسلامية: في الحساب والرياضيات وعلم النجوم والكواكب والأدب.
وفي الوقت الذي يستهوينا الحديث فيه عن الحضارة الإسلامية في بلاد المشرق فلابد من التذكير بالحضارة العربية الإسلامية في المغرب في خط متواز من بلاد الشام ومصر وإفريقية والمغرب ثم إلى الاندلس. كما يجب التنويه إلى امتداد الثقافة الإسلامية من بلاد النوبة والسودان والحبشة وإلى أواسط وغرب إفريقية وإلى جزر البحر المتوسط والأطلسي والمحيط الهندي والهادي وإلى كل مكان حل المسلمون فيه رحالهم.
وفي ضوء هذه الإشارات علينا أن نتساءل أو نكرر التساؤل.. ما هو تراث المسلمين الثقافي الذي نجتمع من اجله؟ أعتقد أن الإجابة لا يختلف عليها اثنان. انه ذلك الإرث الحضاري العظيم المتمثل في المدن التاريخية بأسوارها وبواباتها وحصونها وقصورها ومساجدها ومرافقها المتعددة، وهو الإرث الباقي لآلاف المواقع الأثرية للمدن والمنشآت المدنية والحربية والزراعية المنتشرة في أرجاء العالم الإسلامي، وفي الأراضي التي أصبحت تحت سيادة دول أخرى كثيرة في أوروبا وآسيا وإفريقية، وفي بلاد عظمى في الصين وروسيا والهند. ويتمثل تراث المسلمين الثقافي كذلك في طرق التجارة والحج التي ربطت الممالك والولايات الإسلامية بعضها ببعض على مر العصور الإسلامية. فهذه الطرق لازالت مساراتها معلومة ومرافقها بين قائم ومشاهد حتى يومنا هذا، وبين المعالم المندثرة التي أصبحت ركاما غطتها الرمال والتي كانت في يوم من الأيام مدنا وقرى ظاهرة ودورا ومنازل وخانات وآبارا وعيونا وسدودا وبركا وأعلاما ومشاعل ومواقيد كانت تهتدي بها القوافل. وهناك ما تركه المسافرون خلال رحلاتهم على هذه الطرق، من كتابات ونقوش دونوها على واجهات الجبال وما سجل من معلومات ثرية على آلاف الأحجار الشاهدية التي تحمل أسماءهم وتواريخ وفياتهم. ولدينا الصناعات المتنوعة التي أبدع فيها المسلمون من أوان فخارية وخزفية وزجاجية ومعدنية وخشبية ومسكوكات وحلي وأدوات زينة ونسيج. ولدينا تراث المخطوطات الذي تفتخر أشهر دور الكتب والمتاحف باقتنائه، ففي هذا التراث المخطوط نبع للمعرفة في مختلف العلوم والفنون: في الطب والكيمياء والفيزياء والفلك والزراعة والأدب والشعر والقرآن وعلومه والحديث والتاريخ الإسلامي.
ولدى المسلمين تراث غير مادي نابع من بيئة كل قطر حسب عاداته وتقاليده المتوارثة من أهازيج شعبية مقرونة بالفنون الحركية وبألبستها الشعبية التي تعكس حياة المجتمعات الإسلامية في كل اقليم وقطر.
ولا ننسى أولئك الأوائل من المهاجرين من عالمنا العربي والإسلامي الذين حطت أقدامهم في بلاد بعيدة من أجل لقمة العيش الكريمة، وهرباً من ويلات الحروب والفتن والكوارث التي حلت ببلاد المسلمين وذلك قبل مائة عام وأكثر ذهبوا إلى أمريكا اللاتينية وأستراليا والدول الاسكندنافية ومنهم من استقر في أوروبا وأمريكا الشمالية وكندا وفي جنوب إفريقية. فهؤلاء حملوا معهم الدين والتراث فلهم علينا حق التذكر والتواصل.
إن التراث الثقافي الإسلامي هو مصدر للتاريخ العربي والإسلامي ورافد مهم للتاريخ الإنساني.
لقد تنبهت الدول المتقدمة في فترة الركود والفوضى التي مرت بالعالم الإسلامي قبل أكثر من قرنين من الزمان، إلى أهمية هذا التراث فما كان شاخصاً على الأرض تم توثيقه وتصويره، وما كان مطموراً في باطن الأرض تم البحث عنه من خلال الحفائر الأثرية المنظمة والعشوائية - وبالسطو أحياناً - ونقله خارج الأقطار الإسلامية حيث يستقر حتى اليوم في المتاحف العالمية، ويتبع ذلك مما خف حمله وغلى ثمنه من روائع التحف الفنية التي خرجت بأساليب شتى من موطنها الأصلي.
وواقع الحال يقول إن الدول الكبرى والمتقدمة علمياً وتقنياً والتي تمتلك كماً هائلاً من التراث الإسلامي، قد تعاملت مع هذا التراث بشغف وبمهنية عالية في أسلوب الصيانة والتوثيق والحفظ والعرض. لكن يظل للعلماء المسلمين المتخصصين دور كبير في تصحيح ما قد يكون قد اعترى منهجية التزمين والتحليل الواقعي الذي يتوافق مع النسيج الحضاري والوحدة الحضارية للإسلام والمسلمين، لا إلى تفتيتها وبعثرة عناصرها الفنية. ولابد أيضاً التسليم بأن المتاحف العالمية المشهورة جعلت من التراث الثقافي الإسلامي مورداً للعلم والمعرفة بالإضافة إلى جعله موردا اقتصاديا لتلك الدول ضمن خطط واعية تخدم السياحة الثقافية.
ولعلي أعود إلى العنوان الذي اخترته لهذه المداخلة في هذا المؤتمر وهو:
(الجزيرة العربية منبع للثقافة والتراث الإسلامي)، وقصدت من ذلك للتدليل أنه لا أحد يجهل أهمية الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومكانتهما، فمكة قبلة المسلمين وإليها يتوجهون في صلواتهم، وإليها يفدون للعمرة والحج والتعبد، وإلى المدينة المنورة يقبلون لزيارة المسجد النبوي الشريف والسلام على الرسول الكريم. ومن رحاب البيت العتيق ومن قلب طيبة الطيبة شع نور الإسلام، وكانت المسيرة الحضارية والثقافية إلى أرجاء الأرض. هنا من جزيرة العرب من أرض المملكة العربية السعودية واليمن وعمان والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين والكويت نشاهد ونلمس قفزة تنموية كبيرة - يحتل التراث الثقافي الإسلامي أهمية خاصة. هذه الدول تؤمن بالقواسم المشتركة التي تجمع ما بينهما وهي اللغة والدين والوحدة الحضارية. ولعل تجربتنا في مجلس التعاون أثمرت في توحيد الجهود لحماية التراث الثقافي وفق خطط كل دولة من جهة، والتعاون الخليجي المشترك في أعمال المسوحات والحفائر الأثرية المشتركة والندوات العلمية وورش العمل وإقامة المعارض المشتركة والتعاون البيني وخلق آفاق أوسع وأرحب لصيانة التراث الثقافي الإسلامي وجمع المشتت منه وحفظه لتستفيد منه الأجيال حاضراً ومستقبلاً. إضافة إلى ذلك هناك جهود حثيثة لحماية التراث المعماري والمدن والقرى التراثية والعمل على إعادة الحياة فيها. وهناك حركة نشطة في إنشاء المتاحف الجديدة وتطوير المتاحف القائمة وتوظيفها علمياً وتربوياً وسياحياً. (ولعل ما تشاهدونه من صور للمواقع والمعالم الحضارية والمواد الأثرية والتراثية والفعاليات المتنوعة دليل واضح على التجربة التي تضطلع بها المملكة العربية السعودية واليمن وبقية دول مجلس التعاون). وهذه الأعمال الجارية تتكامل مع الجهود العربية والإسلامية الرامية للمحافظة على التراث الثقافي وتوظيفه علمياً وتربوياً وجعله أحد الموارد الاقتصادية في كل بلد. وهناك جهود تذكر فتشكر تضطلع بها منظمة المؤتمر الإسلامي من خلال أنشطة مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باسطنبول (أرسيكا - IRSICA)، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الايسيسكو -
ISECO)، والمنظمة العربية للتراث والعلوم
والثقافة (الأليسكو - ALECSO) فهذه المنظمات لها دور في الجهود العربية والإسلامية المشتركة في تنظيم المؤتمرات والندوات وإعداد الدراسات والبحوث المرتبطة بالثقافة العربية والإسلامية. وبصفتي عضواً في مجلس إدارة مركز (ارسيكا -
IRSICA) ومن واقع الممارسة والمتابعة لابد من
الإشادة بالأعمال التي قام بها المركز على مدى ربع قرن من تأسيسه ليس في مجال الأبحاث وتنظيم المعارض الثقافية فحسب بل في الاضطلاع بأعمال توثيقية لعدد من المعالم الإسلامية في بلاد البلقان وغيرها وترميم عدد من المعالم الحضارية التي تعرضت للتدمير والتخريب جراء الحروب. كما أن المركز نظم أول مؤتمر دولي عن الآثار الإسلامية الذي احتضنه المركز في اسطنبول خلال الفترة من 8 - 10 ابريل 2005م. لقد حظي مركز أرسيكا منذ تأسيسه بزيارات عديدة من كبار القادة والمسؤولين في العالم العربي والإسلامي وقد أعطت هذه الزيارات للمركز دفعة معنوية كبيرة في كل أعماله وخاصة من دولة المقر الجمهورية التركية. ولعلي هنا أذكر ذلك اليوم المشهود في تاريخ المركز عندما قام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بزيارة خاصة للمركز في 10 أغسطس 2006م يصطحبه دولة رئيس وزراء تركيا السيد رجب طيب أردوغان، واطلع الملك عبدالله والوفد الرسمي الكبير المرافق له، على جهود المركز، وتمنى لجهازه الإداري والعلمي المزيد من التوفيق، وأكد الملك عبدالله على أهمية المركز ودوره الريادي للنهوض بما أوكل إليه من مهام خدمة للتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية. إن مثل هذه الزيارات التي يقوم بها قادة الأمة الإسلامية للمراكز البحثية المتفرعة عن منظمة المؤتمر الإسلامي تبعث على السعادة وتشجع على المزيد من العطاء، وهذا ما نتوقعه من مركز أرسيكا.
وفي هذا الإطار لا بد من التنويه عن دور المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (الأليكسو)، وبالتعاون مع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية بالاحتفال السنوي بمدينة عربية عاصمة للثقافة العربية، وما يصاحب هذا الحدث من تظاهرات ثقافية متنوعة منها المحاضرات والندوات والمعارض الفنية والثقافية وما يصدر من دراسات وبحوث. والمؤمل في مثل هذه التظاهرات الثقافية السنوية أن تتسع القاعدة المعرفية لدى المجتمع في تلك المدن وتبقى ذاكرة الأمة واعية بماضيها وتراثها الثقافي.
وإذا كانت مثل هذه المناسبات تنتهي بانتهاء الحدث فإن ما يرسخ في ذاكرة المجتمع هو المنشآت الثقافية التي تقيمها الدول لتبقى رصيداً ومعيناً للعلم والمعرفة وتساعد في تحريك البحث والدراسة.
وفي هذا السياق، وفي ضوء قرار وزراء الثقافة في العالم الإسلامي المنعقد في الدوحة في شوال 1424هـ (ديسمبر 2003م) باعتماد برنامج سنوي يحتفل فيه بثلاث مدن من أقطار العالم الإسلامي، كل منها عاصمة للثقافة وقد تضمن القرار أن تكون مكة المكرمة بداية انطلاق فعاليات هذا البرنامج.
وقد جاء احتفال مكة المكرمة متزامناً مع انعقاد الدورة الاستثنائية الثالثة لمؤتمر القمة الإسلامي في مكة، عاصمة الإسلام وثقافته من الأبد إلى الأزل، وذلك في الفترة من 7-8 ديسمبر 2005م، وفي هذه المناسبة التاريخية وبحضور ملوك وقادة وزعماء وممثلي الدول الإسلامية - وفي مقدمتهم فخامة الرئيس محمد أحمدي نجاد - تحدث خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في كلمته الافتتاحية قائلاً:
(من هذا المكان من أرض النبوة انطلقت دعوة الإسلام معلنة وحدانية الخالق ومنهية عبودية الإنسان للإنسان، رافعة مبادئ المساواة والحق والعدل، فتمكنت هذه الدعوة من الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها بتأثير القيم الصالحة والقدوة الحسنة وليس بحد السيف كما يدعي من يتجاهل الحقيقة أو لم يدركها. ولنتذكر كيف كانت حضارتنا الإسلامية منارة الإشعاع فأخذت منها الحضارات الأخرى روح التسامح والعدل وفتحت الطريق للبشرية بما أنجزته من فقه وفكر وعلم وأدب كانت فيصل التنوير في عهود الظلمات).
وحتى يبقى حدث احتفالية مكة كعاصمة للثقافة الإسلامية راسخاً في الذاكرة ومشاهداً للعيان فقد أعلن الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلي، أمام الملوك والقادة والزعماء وممثلي الدول، عن تبرع حكومة المملكة العربية السعودية بإنشاء مقر جديد لمنظمة المؤتمر الإسلامي يقام في ضاحية خزام التاريخية بمدينة جدة. وقد طبع الملوك والقادة والزعماء وممثلي الدول أكفهم على لوحة تذكارية خاصة لتشكل المجسم النهائي الذي سيبقى رمزاً خالداً أمام واجهة المبنى عند افتتاحه.
إن المملكة العربية السعودية بعملها هذا تؤكد دورها القيادي للنهوض بالثقافة العربية الإسلامية وعلى هذا النهج صدرت الموافقة السامية باعتماد برنامج تطويري ثقافي ومعماري كبير للمنطقة التي سيقام فيها مبنى منظمة المؤتمر الإسلامي الجديد بحي خزام - وتحويل القصر التاريخي لجلالة الملك عبدالعزيز (رحمه الله) إلى مركز للتاريخ والحضارة الإسلامية، كما تمت الموافقة على ترشيح منطقة جدة التاريخية لتكون من المواقع المرشحة للتسجيل على قائمة التراث العالمي لدى منظمة اليونسكو كما تم افتتاح متحف مكة المكرمة للآثار والتراث بحي الزاهر بمكة، الذي يحتل أحد القصور التاريخية الذي بناه الملك عبدالعزيز. وقبل ذلك بفترة خصصت المملكة العربية السعودية متحفاً مستقلاً بجوار مصنع الكسوة الشريفة يعرض فيه نفائس من تراث الحرمين الشريفين ليطلع عليها عموم المسلمين من مواطنين ومقيمين ومعتمرين وحجاج وزائرين.
كما أن النهضة المتحفية التي تشهدها المملكة العربية السعودية وما يواكبها من بحوث ودراسات، ومحافظة على آثارها التاريخية والمعمارية، ستجعل منها -إن شاء الله- بلداً رائداً في السياحة الثقافية، كما أن تراث بقية أقطار الجزيرة العربية سيوفر آفاقاً كبيرة لمسيرة البحث والمعرفة الثقافية الحضارية على مر العصور بالإضافة إلى بناء ركائز اقتصادية واعدة في كل قطر قائمة على التراث الثقافي.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية الاهتمام بالحرف والصناعات اليدوية لكونها استمرار لتراث المسلمين الثقافي بمفهومه الشامل. ولعل مما يطمئن أن الدول الإسلامية لديها توجه قوي للنهوض بهذا القطاع. فقد شهدت مدينة الرياض انعقاد المؤتمر الدولي للسياحة والحرف اليدوية الذي نظمته الهيئة العليا للسياحة في المملكة العربية السعودية بالتعاون مع مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (أرسيكا) خلال الفترة من 16-23 شوال 1427هـ (7-14 نوفمبر 2006م) وقد اشتملت الفعاليات المصاحبة للمؤتمر على الآتي:
1- المعرض الدولي الأول للسياحة والحرف اليدوية في الدول الإسلامية.
2- معرض لروائع القطع والمنتجات الحرفية في الدول الإسلامية.
3- معرض عن الإصدارات والصور الخاصة بالحرف التقليدية في العالم الإسلامي.
4- جائزة دولية للمبدعين في الحرف التقليدية في العالم الإسلامي.
وقد جاءت الكلمات الافتتاحية في حفل الافتتاح لكل من: صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز الأمين العام للهيئة العليا للسياحة بالمملكة العربية السعودية، ومعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي (O.I.C) البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلي، ومعالي المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ISESCO) الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، ومدير عام مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (IRCICA) الدكتور خالد أرن - جاءت كلماتهم متوافقة تؤكد على أهمية الحرف والصناعات اليدوية ليس لكونها امتداد للتراث الثقافي الإسلامي فحسب ولكن لأهميتها الاقتصادية لتأمين لقمة العيش الكريمة لملايين الناس من الرجال والنساء.
كما أود التنويه إلى أنه برعاية كريمة من سمو أمير منطقة مكة المكرمة تم افتتاح معرض عالمي بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي بجدة يحمل اسم (مساجد تشد إليها الرحال)، شارك فيه عدد من الفنانين من بلدان العالم العربي والإسلامي لتبيان أهمية المقدسات الثلاثة عند المسلمين: المسجد الحرام والكعبة المطهرة، والمسجد النبوي الشريف، وبيت المقدس.
والواقع أن رعاية الفنون والصناعات والحرف اليدوية هي عين الصواب لأن في ذلك استدامة لنشاط يعود بالرزق والاستقرار للشعوب التي تعمل للكسب الحلال.
يقول الله تعالى في محكم التنزيل:
{وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}(سورة يسن آية: 33 - 35).
وقوله تعالى: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى}. (سورة طه 53-54.)
وقوله تعالى:
{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(سورة النحل آية 67).
وقوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ }(سورة النحل آية: 80).
وتشتمل الأحاديث النبوية على كثير من التوجيهات والنصائح تدعو للكسب الشريف فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (ما أكل أحد طعاماً قط، خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) (صحيح البخاري: باب 16، حديث 1966).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لئن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير من أن يسأل أحداً، فيعطيه، أو يمنعه) (صحيح البخاري، باب 16، حديث 1968).
أيها الإخوة والأخوات المشاركين في هذا المؤتمر:
إن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسسكو) التي أوشك على تأسيسها 25 عاماً، قادرة بإذن الله، وبمؤازرة منكم، على إخراج خطة طويلة المدى ذات آلية لخدمة التراث الثقافي في العالم الإسلامي، والمحافظة عليه وتوظيفه للعلم والمعرفة والاقتصاد. وبنظرة خاطفة على قائمة اتفاقيات التعاون التي وقعتها (الإيسسكو) مع الحكومات ومؤسسات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة والمنظمات الدولية، والإقليمية والأهلية والمؤسسات الأكاديمية والثقافية والجمعيات والمراكز الإسلامية في الخارج والمؤسسات الوطنية ومؤسسات الإعلام والنشر والتوزيع (في الفترة من 1984م - 2005م) نجدها مجتمعة (148) اتفاقية منها (22) اتفاقية ومذكرة تفاهم مع مؤسسات أكاديمية وثقافية.
وبالرغم من هذه الجهود الكبيرة والرائدة فإن المؤسسات والهيئات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية المعنية بالآثار والتراث الثقافي (المادي وغير المادي) والمختصين في هذا الجانب، يأملون أن تكون منظمة (الإيسسكو) قادرة على إعطاء دفعة قوية لتنفيذ خططها المستقبلية وفق أهدافها المرسومة ومنها الهدف الخامس الذي أشرنا إليه في بداية هذه المداخلة. كما أن المنظمة (الإيسسكو) تتوقع من العلماء والخبراء المشاركين في هذا المؤتمر تقديم آرائهم وتوصياتهم القابلة للتطبيق على شكل برامج تنفذ على أرض الواقع للنهوض بالتراث الثقافي الإسلامي.
وأجدها فرصة مواتية للتذكير بأن الدول الإسلامية لها عضوية دائمة في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) وفي كثير من فروعها ولجانها الدائمة، ومع ذلك فإذا تأملنا أسماء الدول التي لها مواقع تراثية وطبيعية مسجلة على قائمة التراث العالمي نجد أن دول العالم الإسلامي هي الأقل حظاً في التسجيل مقارنة ببقية دول العالم فهناك (17) دولة إسلامية ليس لها مواقع مسجلة على قائمة التراث العالمي حتى الآن.. ومما يدعونا للأسف والحزن أننا نشاهد ونسمع كل يوم كيف أن التراث الثقافي الإسلامي يمتهن ويدنس ويتعرض للتخريب والتدمير في فلسطين، وكيف أن الشعب الفلسطيني وحكومته محرومون من ممارسة حقوقهم في التعامل مع تراثهم الثقافي وفق القوانين والأنظمة والمواثيق والأعراف الدولية، كما هو حاصل اليوم في القدس الشريف والضفة الغربية وقطاع غزة ناهيكم عن التراث الفلسطيني الممتهن تحت النفوذ الإسرائيلي كما أن التراث الثقافي في العراق قد تعرض، ويتعرض كل يوم للسطو، والتدمير، والتخريب، والتشويه والامتهان. وهناك أعمال مماثلة في عدد من بلاد العالم الإسلامي، حيث يتعرض تراثها الثقافي للإهمال والضياع بسبب ما تشهده تلك الدول من نزاعات وحروب وكوارث.
وقبل أن أنهي مداخلتي أقول: إن على الباحثين والعلماء المختصين في التراث الثقافي الإسلامي، وأصحاب القرار، مسؤولية كبيرة للتعريف بتراث الأمة الإسلامية الثقافي - كل في موقعه - عبر وسائل الإعلام المسموع والمقروء والمرئي. وعلينا جميعاً مسؤولية دينية وعلمية وأدبية ووطنية، تجاه ما يقدم من أعمال سينمائية وتلفازية تمس تاريخ المسلمين وحضارتهم. بدءاً بأنبياء الله الصالحين، ومروراً بعظماء المسلمين من خلفاء وقادة وعلماء.. فهؤلاء لهم علينا حق الاحترام والتقدير؛ فهم الذين رفعوا راية الإسلام وأقاموا صروحاً دينية وعلمية، وأنشؤوا المدن، وعمروا الأرض بالخير والتقوى لإسعاد البشرية.
إن الأعمال السينمائية والتلفازية يجب أن تكون وسيلة بناء للمعرفة والتربية وليست وسيلة هدم وتشويه للقيم الروحية وتاريخ المسلمين وحضارتهم.
كما يجب ألا تطغى بعض مظاهر التسامح التي أشيعت في التراث العربي والإسلامي المكتوب، على ما يشاهده المتلقي المسلم من معلومات تتنافى مع تعاليم الإسلام؛ الأمر الذي يجعل شباب المسلمين، في حيرة من أمرهم تجاه تاريخ الأوائل من المسلمين وأعمالهم المجيدة.
نأمل -إن شاء الله- من المنظمة (الإيسسكو) مع غيرها من المنظمات والمراكز البحثية أن تكون بمثابة صمام الأمان والناصح الغيور، حفاظاً على رموز تاريخ الإسلام والمسلمين وتبقى صفحاتهم بيضاء ناصعة.
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يكتب لنا في مؤتمرنا هذا التوفيق والسداد والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.








salrashid@yahoo.com



نادي السيارات

موقع الرياضية

موقع الأقتصادية

كتاب و أقلام

كاريكاتير

مركز النتائج

المعقب الإلكتروني

| الصفحة الرئيسية|| رجوع||||حفظ|| طباعة|

توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية إلىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية إلى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved