Al Jazirah NewsPaper Sunday  10/08/2008 G Issue 13100
الأحد 09 شعبان 1429   العدد  13100

التهديد من طرف واحد وغياب التهديد المضاد
اللواء الركن (م) سلامة بن هذال بن سعيدان

 

إن احتكار السلاح النووي من قبل أحد الأطراف المتصارعة، وما يعنيه ذلك من تهديد الأمن من طرف واحد وغياب التهديد المضاد، يجعل الطرف الواقع عليه التهديد، تسيطر عليه عقدة الإحساس بالنقص ويشعر بالدونية والانكسار النفسي أمام خصمه القوي الذي ينظر إليه من أعلى، مستغلاً اختلال ميزان القوى وعدم التكافؤ في الردع .

الأمر الذي يجعل غطرسة القوة ونشوة التفوق تدفعانه إلى فرض الضغوط وإملاء الشروط على الطرف المهدد عن طريق استمرار الضغط بالقوة التقليدية ومواصلة التهديد بالقوة النووية، على النحو الذي يضعف إرادة الأمة المهددة، وينال من الروح الوطنية لدى أبنائها، ويحد من تدفق تيار الانتماء والولاء فيهم، وفي الوقت نفسه فإن هذا التهديد وانعكاساته السلبية على الأمن يقيد حركة التطور، ويعيق مسيرة التنمية في شتى مجالات الحياة.

والتهديدات والمخاوف الناجمة عن احتكار الخصم للسلاح النووي، طالما لم يقابل ذلك تهديد يردعه أو رادع يثنيه من قبل الطرف الآخر، فإن حالات الخوف والمعاناة النفسية التي يمر بها الطرف المهدَّد أمنياً، يترتب عليها استمرارية المجابهة من الوجهة النفسية بجميع تراكماتها وكافة تداعياتها، وما يعتري هذا الواقع من منغصات ويشوبه من مثبطات، بالشكل الذي يؤثر عكسياً على معنويات الأمة المهددة وروحها الوطنية.

والواقع أن القوة حتى يتولد عنها الأمن المطلوب، لابد أن يترتب عليها تهديد الخصم، وهذا التهديد إذا ما اصطدم بتهديد مماثل، أصبح التهديد متبادل والأمن متقابل، والمفعول متضاد، أما إذا كان التهديد من جانب واحد، فإنه يجد البيئة مناسبة، ليأخذ طريقه إلى الجانب الآخر منغصاً أمنه ومسبباً له المخاوف، وعدم الاستقرار نتيجة لانعدام الرادع وغياب أمن التهديد.

وقد قال الشاعر:

ومن لا سلاح له يتقى

وإن هو قاتل لم يغلب

والمقصود بالقوة هنا هي القوة الوطنية التي تدافع عن الأمة، وتحميها من الأعداء محصنة الوطن من تهديد الغزاة المعتدين، ومحافظة على أمنه وثرواته من أطماع الطامعين، أما القوة التي تعزز أمنها بالغزو والتوسع، مضيفة على عدوانها مسميات شرعية، ومغلفة إياه بغلاف ردعي، فهي قوة غاشمة ظالمة، تكتسب أمنها من التهديد الواضح لأمن غيرها والاعتداء الفاضح على جيرانها ظلماً وعدواناً كما هو الحال بالنسبة للكيان الصهيوني.

والقوة في مفهومها الذي يحقق الأمن ويمنع الظلم تمثل مطلباً لكل الأمم، والإنسان بطبعه يمتزج فيه الخير والشر كما يختلط الماء الفرات بالماء الأجاج، وطالما استجاب هذا الإنسان لنداء العقل وغلبت عليه فضيلة العدل وأدرك قيمة العزم على التقدم، والتثبت قبل التندم، فإن هذا الأمر دائماً يفرض عليه الإعداد والاستعداد في السلم لخوض الحرب، وجنوحه إلى السلم لا يثنيه عن ركوب الحرب، باعتبارها أحياناً تكون السبيل إلى نقيضها من خلال رفع العدوان وكسر شوكة المعتدي الدفاع عن الدين والذود عن حياض الوطن، وقد قال أحدهم: الحياة بين أن تحارب وأن تستعد لأن تحارب، وقال الشاعر:

تسلحوا واستعدوا

للدهر سلماً وحرباً

فالليث ظفر وناب

لولاهما كان كلباً

وبطبيعة الحال فإن الاعتبار الحيوي والمطلب الجوهري لمواجهة أي تهديد هو تحديد طبيعة هذا التهديد ومصدره، والتعرف على كنهه ودراسة الوسائل التي سوف ينفذ بها، وعلى الجانب الآخر، يتعين الإلمام بعيوب ومزايا الوسائل المتوفرة التي يمكن استخدامها والأخذ بها، لتحييد مضار هذا التهديد وشل آثاره بكل قوة لمقابلة تهديد أمن الأمة بما يكفل لها الحد الذي لا مساومة عليه من أمن التهديد.

والأمة يصبح أمنها مهدداً، إذا لم يكن لديها قوة عسكرية رادعة، توفر لها الأمن من تهديد الأعداء، وتجعلها في مأمن عن طمع الطامعين وحسد الحاسدين، وتتعرض هذه الأمة للتهديد أكثر تبعاً لما يتمتع به موقعها من أهمية استراتيجية، وبسبب ما تحويه أرضها من ثروات طبيعية، بحيث ينصب عليها حسد الضعفاء، وتكون محل أطماع الأقوياء، كما أن وزنها السياسي وحجمها الاقتصادي ورصيدها العلمي والثقافي وموروثها الديني والحضاري ومكانتها العالمية كل ذلك يضعها في مرمى النبل، حيث تكون بالنظر مستشرفة وبالرمي مستهدفة، ناهيك عن تحالفاتها الإقليمية والدولية وأرصدتها الحضارية والتاريخية وواقعها الداخلي ومحيطها الخارجي، وما تشكله هذه الأمور من عوامل تعزز الأمن من جهة، وتغري على تهديده من جهة أخرى.

ومن هذا المنطلق فإن التهديد الذي يواجه الأمة العربية من محيطها إلى خليجها يعتبر تحدياً على درجة بالغة من الخطورة، بحيث يمس الأمة في كيانها ومصيرها ومستقبلها، وهذا الخطر تتنوع فيه الصور، وتتعدد فيه مصادر العداء ومظاهر العدوان، مستهدفة الأمة في عقيدتها التي هي أغلى ما لديها وفي فكرها الذي يؤطر عقيدتها ويحفظ مسيرتها، ورغم أن مخطط الإيقاع بالأمة من قبل أعدائها له أولويات من حيث أهمية الاستهداف وأسبقية التنفيذ بالنسبة للدول العربية، إلا أن الخطر قد لا يقتصر على جزء من الوطن العربي دون غيره بل يهدف إلى شرذمة الأمة العربية، وإعادة السيطرة على الوطن العربي في شكل جديد وصورة مستحدثة مع فرض الوصاية على الأمة واستنزاف ثرواتها وخيراتها تحت غطاء الحريات مرة، وحقوق الإنسان مرة ثانية، ومحاربة الإرهاب مرة ثالثة، ومفهوم العولمة مرة رابعة.

وبالطبع فإن ما وصلت إليه القضية الفلسطينية من تهميش وتشتيت وضياع، وما يجري في العراق من إذلال واحتلال، بالإضافة إلى ما يظهر في أفق السودان من إهانة واستكانة يمثل صورة حية ونتيجة حتمية لما انحدرت إليه الأمة وأصبحت فيه من حضيض المكانة وحمأة المهانة، كما يؤكد ذلك أنه من الخطأ الاعتقاد بأنه يمكن لأية دولة عربية أن تواجه تهديدها وتحقق أمنها الوطني على أفضل صورة وبأقل تكلفة وهي بمعزل عن جيرانها ومحيطها، خاصة وأن العوامل الجيوبوليتيكية تربط بين مصالح الشعوب المتجاورة، وتجعلها تتقاسم الأخطار والتحديات، وتلك حقيقة يثبتها ما يحدث في العالم اليوم من أحداث وما يشهده التاريخ في الحاضر والماضي.

وبما أن النعم مرهونة بوجود النقم، فإن المزايا التي يتمتع بها الوطن العربي جعلت منه منطقة ساخنة وبؤرة صراع مركزية، يتفرع منها العديد من بؤر الصراع الملتهبة، الأمر الذي ترتب عليه تهديد أمن دولة واعتباره مسرحاً لصراعات إقليمية ودولية، ما كان لها أن تكون لولا ما منّ الله عليه باختياره مهبطاً للرسالات النبوية ومكاناً للمقدسات الدينية، وما حباه الله به من الخيرات والثروات الطبيعية.

وما لا يختلف عليه اثنان أن وجود إسرائيل على أرض فلسطين واحتكارها للسلاح النووي في المنطقة يشكل التهديد المحوري الذي يعاني منه العرب منذ عقود، حيث عمدت إسرائيل في صراعها الطويل مع العرب إلى احتلال أراضيهم، مستندة على الغزو والتوسع تحت مفهوم تأمين الأمن لشعبها مع الإصرار على البقاء كدولة بلاد حدود سياسية معلنة، مما يتيح لها المزيد من التوسع كلما سنحت الفرصة للانقضاض على الهدف وفرض الواقع عن طريق الغزو العسكري والاستعمار الاستيطاني.

واعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة الأمريكية هو أحد مقومات أمنها الوطني وما يعنيه ذلك من تأمين الدعم السياسي والعسكري لها وقت الحاجة وفسح المجال أمامها لتتصرف بحرية دون أن تخاف من أن يصدر ضدها ما يدين أعمالها دولياً، أو يفرض عليها عقوبات اقتصادية، أو يضع حظراً على تزويدها بالسلاح، فضلاً عن ما تشكله القواعد والأساطيل الموجودة في المنطقة من عوامل أمن وطمأنينة تجد فيها دولة إسرائيل كل ما من شأنه توفير أمنها وتهديد أمن غيرها.

وهكذا صار تهديد العرب سياسة راسخة في نظرية الأمن الإسرائيلية وأصبحت قوة الردع أمراً مسلماً به، وقضية حيوية مرتبطة بوجود الدولة الصهيونية، ونظراً لأن المعادلة مع العرب مختلة على المدى البعيد لجأت إسرائيل إلى إثارة الخوف والردع النفسي والمعنوي، عن طريق ممارسة العنف المطلق والمبالغة في تصوير قوتها العسكرية وذراعها الطويلة، متوجة ذلك بالحصول على السلاح النووي دون التصريح بامتلاكه إمعاناً في الردع وتوفير الأمن لإسرائيل من خلال تهديد أمن الدول العربية وكسر مقاومتها عن طريق المحافظة على التفوق الدائم عليها.

وليس من شك أن موقع إسرائيل في قلب الوطن العربي الكبير، رغم ما له من عيوب بالنسبة لها، فإن أهم مزاياه وأخطرها شأنا تكمن في تمزيق أوصال هذا الوطن وفصل مشرقه عن مغربه عند نقطة التقائهما، كما أن هذا الموقع يتوسط جسم الوطن العربي مما يوفر للقوات الإسرائيلية القدرة على العمل من خطوط داخلية تبدأ من القلب إلى الأطراف، وهذه المزايا استطاعت إسرائيل الاستفادة منها بامتلاك السلاح النووي وضمان تهديد الخصم في غياب التهديد المضاد، إذ إن الردع من طرف واحد مكن إسرائيل من التغلب على عيوب الموقع وحرم العرب من التمتع بما لديهم من المزايا لما يعانونه من اختلال ميزان القوى وتهديد الأمن.

والأمة التي يحتكر خصمها سلاح الإملاء ضدها في حين أنها تفتقر إليه وليس بمقدورها التلويح به عند الحاجة، تعتبر أمة مردوعة نفسياً ومحبطة معنوياً، ولن يقوم لها قائمة أمام هذا الخصم إلا بكسر هذا الاحتكار واللحاق به، وإبطال مفعول قوته بردعها، والتصدي لتهديد الأمن بأمن التهديد من خلال الإصرار على ردم الهوة وتخطي العتبة نحو تحقيق شكل من أشكل الردع المطلوب ضد الخصم.

والسلام والحرب يمثلان وجهين لعملة واحدة، والحياة تقوم على السلام ولا تخلو من الحرب والأخذ بأسباب السلام لا يلغي الاستعداد للحرب بل يخدم بعضها بعضاً حيث إن متطلبات السلام ومقومات الحياة المستقرة تستدعي إصلاح الذات وتطوير النفس عن طريق مواكبة مستجدات العصر والتسلح بالعلم والمعرفة والتعايش مع الآخرين والتعاون معهم في سبيل تحقيق السلام، وفي الوقت نفسه مراعاة الحيطة والحذر واتباع المسالك السالكة والطرق المشروعة لمواجهة التحديات والتغلب على التهديدات التي تصادف الأمة طيلة مسيرة أجيالها المتعاقبة، ولن يحصل هذا الأمر إلا من خلال القوة التقليدية الفاعلة والرادع ما فوق التقليدي والارتقاء في سلم الحياة ومدارجها المدنية والعسكرية بما في ذلك التمكن من المسك بزمام علوم الطاقة النووية وتقنيتها في الاستخدامات السلمية والتأسيس والجاهزية للاستخدام العسكري بهدف الردع.

وسواء أكان التهديد النووي مصدره إسرائيل أو غيرها من دول المنطقة فإن الدولة العربية التي يقع عليها التهديد، يتعين أن تتعامل مع الموقف بجدية وحذر لمواجهة التحدي القائم والتصدي للخطر القادم دون الانخداع بالشعارات وتجاهل الحقائق، خاصة وأن هناك نذر لتهديد قديم توحي بتطوره في شكل جديد وهذا التهديد قادم من الجهة الأخرى للخليج العربي، وهو تهديد يتسربل برداء أمن التهديد، وذلك موضوع المقالة التالية.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد