Al Jazirah NewsPaper Tuesday  07/10/2008 G Issue 13158
الثلاثاء 08 شوال 1429   العدد  13158

هي الدنيا إذا اكتملت
د.حسن بن فهد الهويمل

 

لم أعد أذكر متى لقيت الفقيد عبدالله الجفري - رحمه الله - ولا أين لقيته، غير أني أعرف جيدا أنني لقيته أكثر من مرة، في مناسبات ثقافية مختلفة الأزمنة والأمكنة والقضايا.

كان حين يراني يمد يده وفي نفسه خيفة لظنه أننا

شتيتان لا يلتقيان، وأن انفتاحه على كل الخطابات و(رومانسيته) المتولهة ونفوره من (التأدلج) تشكل عقبة في طريق خطابي، ولربما كان الشباب الذين آزروا بعض من أجادل حول مجمل القضايا الشايعة إذ ذاك قد ضخموا له حَدِّيَّتي وحِدَّتي، وظنه الذي أقام ارتيابه مقام ثقته ترك في نفسي خيفة كخيفته، غير أننا في ظل هذا التوجس نتبادل الاحترام ونشعر بأننا رضيعا لبان، وإن اختلفت همومنا وتباينت وجهاتنا، ومما بدد الغيوم المتلبدة أنني في أحد اللقاءات الصحفية نفلته بهذا الدعاء: (شفى الله قلبه وملأ جيبه) وكنت أعرف يومها أنه يمر بأزمتين؛ صحية ومالية، فأحس بعدها أنه لم يتثبت، وما لقيته بعدها إلا كان الحفي بي الممعن في التفسح لي. وهو يعرف جيدا تبايننا في الآراء والأفكار، ولكنه تباين لا يستدعي الجفوة. ومع كل هذا فلقد كان لطيفا وحييا وودودا وإن كان ينطوي على حزن دفين، وكآبة مفرطة، ولأنه فنان مرهف الإحساس، وموهوب مغموط الحق فقد ظل اللائم والملوم في آن، حتى قضى أجله، ونفسه الرقيقة مع الناس كانت عنيفة معه، لا تتيح له فرصة للتفاؤل، وإن منحته كل الوقت للتأمل والبوح.

أذكر أنني قرأت كتاب (الجيل الخائب) ل(ادوار دكار) وهو كتاب يتحدث عن إخفاقات (الرومانتيكيين) والشقاء البشري وأجزم أنه ترك أثراً في نفسي عن هذا الصنف من الكتاب والشعراء، وبخاصة شعراء مدروسة (أبوللو) ممن انقطعوا لهذا اللون من الإبداع، وممن راوحوا بينها وبين (الواقعية) بشقيها؛ الاشتراكي والاجتماعي.

ولقد كنت مغامراً حين اقترفت جريرة التصنيف بِعَدِّ (الجفري وباجبير والبواردي) ومن قبلهم (عبدالكريم الجهيمان) من هذه الفئة المتمردة على سائر الأوضاع والمتوسعة في مفهوم الحرية الفردية، وقدر هؤلاء أنهم احترفوا الكتابة والحضور المتواصل، والأشقياء المعذبون من يقتاتون من شبا أقلامهم وراس هؤلاء المأسوف على رحيله بعد اكتمال دنياه (أبو وجدي) الكاتب الذي لا ترفع أقلامه ولا تجف صحفه، وشح الحياة وتقتيرها ألجأت كثيرا من المبدعين في مختلف العصور على ممارسة كل أنواع الكتابة والإبداع، وهل أحد يشك بأن (أبا الطيب المتنبي) لو كان غنياً عما في أيدي الناس لكان شعره وفكره ورؤيته نقلة حضارية، على أنه احتفظ بالكثير من التألق وظل الناس حوله في سهر وخصام لأنه يملك نواصي كثيرة، من أهمها ناصية اللغة، ولقد كنت ولما أزل أقول: إن ثلاثة شعراء ملكوا ناصية اللغة بشكل لم يتح لأحد مثلهم (المتنبي) و(شوقي) و(نزار قباني) مع استحضاري لمقولة: (لولا الفرزدق لضاع نصف اللغة) والشهادة بالمواهب والقدرات ليست لقصد التزكية، لكنه العدل والمصداقية، وعيب مشاهدنا النقدية أن تباين الأفكار، يقتضي سلب الحقوق ومصادرة المشروعية، ولو تأسينا بعلمائنا الأوائل لكنا حفيين بالقدرات متحفظين على الاتجاهات، فأين نحن من إمام المفسرين (جارالله الزمخشري) الذي يعد من رؤوس الاعتزال المتعصبين لمذهبهم، ومع ذلك حفل به علماء السلف وعولوا على تفسيره (الكشاف) ولم يحملهم شنآنه على الإجحاف بحق المشروع وإمكانياته المتميزة.

والجيل الذي وصفه (ادوارد كار) بالخائب هم الذين علموا الناس (الفكر كيف يُحس والإحساس كيف يُفكر. هؤلاء الذين وضعوا الحرية الفردية في هيكل العبادة وأحرقوا لها المباخر والشموع) - كما يقول مترجم الكتاب - والمتابع لكتابات الجفري رحمه الله يجد أنه يمد بسبب إلى أصحاب هذا الاتجاه، وإن كان للأجواء والأنساق مقامعها التي تحد من الاستنساخ أو الجماح.

قلت: إن من البلية أن يكون قلم الكاتب كمنجل المزارع وشبكة الصياد ومعول العامل، وهذا الصنف من الكتاب يكتب متى أراد المموِّل لا كما يريد الكاتب، والأفكار كالدّر تحتاج إلى أجواء ملائمة. لقد جنت الحياة على المقتدرين وذوي المواهب، فهذا (أنيس منصور) الكاتب الموسوعي خير شاهد على هذا الصنف من الكتاب، ومن قبله (العقاد) الذي انعتق من (الرومانسية) ومن المسايرة وإن ظل يقتات من قلمه والجفري رحمه الله مارس الكتابة على مدى أربعين سنة في مختلف الصحف والمجلات محليا وعربيا. ولم يفرغ لنفسه وإبداعاته الروائية والقصصية إلا قليلا.

ولعلنا نستذكر مقولة (طه حسين) عن شاعر الغزل العذري (عمر بن أبي ربيعة) حين فرغ لنفسه ولم يفرغ لكيسه، فهو من الشعراء الموسرين الذين لم تشغلهم مطالب الحياة كسائر الشعراء المدَّاحين الذين ألجأتهم الحياة إلى التكسب بالشعر، والجفري كاد ينصرف من الإبداع السردي إلى الكتابة الصحفية لمغالبة الحياة. لم يكن موت الجفري مفاجئا، (توقع زوالاً إذا قيل تم) و(هي الدنيا إذا اكتملت.. وطاب نعيمها قتلت). لقد جالد حتى استوت له، وفي لحظات الانتصار دب إليه مرض القلب ولما احتمله، خانته كبده فلم يستطع الصمود، وأحسبه فارق الحياة، وليس في قلبه حسرة، خلّف تراثا وخلف أبناء، وتفضل أديب الأثرياء وثري الأدباء الأستاذ (عبدالمقصود خوجة) بطبع أعماله كلها في ستة مجلدات ضخام، وهو عمل مشكور كنت أتمنى لو اقتدى به مقتدرون آخرون، فكتاب المملكة وأدباؤها يكادون يكونون مقطوعي الصلة بالقارئ العربي، وحاجة أدبائنا وأدبنا إلى تجسير الفجوات وإسماع الأصوات لنخرج من قمقم النفط والتصحر الذي أكرهنا عليه واتهمنا به ظلما وعدوانا.

ومن الصدف الغريبة أنني كلما نظرت إلى مجموعة أعماله في الغرفة المخصصة لتراث المملكة والجزيرة وآدابها في مكتبتي أحسست أنني بحاجة إلى استعراضها، فقد أكون مضطرا للحديث عنه يوما ما، وبخاصة حين أقعده المرض، وحين جاءني خبر (فزعت فيه بآمالي إلى الكذب) لم أجد بدا من انتزاعها والفراغ لقراءة ما تيسر منها، إذ لم أكن من قراء الجفري لكثرة ما يكتب، ولتعدد مواقعه، وتنوع إبداعاته، وإن كنت ألم ببعض إبداعاته الروائية والقصصية، متى تيسر ذلك، أو اقتضى التعليم استحضارها، فهو من الشخصيات المموضعة، بسبب حضوره بوصفه مبدعا روائيا وقصصيا، والقول الموضوعي لا يكفي فيه رسيس المعرفة، وإذ لا يكون الوقت وقت محاسبة أو تقويم فإنه وقت تفجع وتأبين وذكر لمحاسن الأموات، وما أكثر محاسنه (وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه) وميلي إليه يحدوه ما يتوفر عليه من تراسل بين الحواس وخصوبة في الخيال وتوازن بين الجمل وإشراق في الأسلوب، فهو من أصحاب الأساليب المتأنقة الثرية بالتراكيب الجميلة والأخيلة المجنحة، وهذا الصنف من الكتاب يقدمهم (المنفلوطي) و(الزيات) و(طه حسين) وفرق كبير بين التأنق والتعمق كما هو عند (أرسلان) و(الرافعي) و(شاكر) ودعك من المتدفقين ك(زكي مبارك) والمغرقين ك(العقاد) وصدق من قال: (إن الرجل هو الأسلوب).

لقد أشاد (سمير سرحان) بأسلوب الجفري حين قدم لكتابه (المثقف العربي والحلم) كما تنبأ له (محمد عمر توفيق) قبل أربعين سنة بمستقبل زاهر معولا على تميز أسلوبه، وهو كاتب الضبابية والتهويم والأحلام كما يقول (سباعي عثمان) وخصوصيته الأسلوبية تضيف إليه قيماً أخرى، ستكون مجالاً لمزيد من الدراسات والمراجعات.

فهناك فيما أرى شاعر ينثر، وناثر يشعر، وشاعر يشعر، وهذه المستويات الثلاثة لا يستحضرها إلا قليل من المتابعين للإبداعات ذات الطابع اللغوي، والجفري - رحمه الله- من الصنف الأول على الرغم من أن لغته شائعة وتراكيبه سهلة وأسلوبه ممتع فيه رقة وشفافية ومبالغة وبلاغة ومفاجأة وانقطاع، وتعلقي بهذا اللون من الأساليب جعلني أتعلق بأصحاب الأساليب المشرقة السهلة الممتنعة كما هو عند (طه حسين) و(الزيات) حتى أني لم أحص كم قرأت (النظرات) و(الأيام) و(وحي الرسالة) في بداياتي الأولى، وهذا الاهتمام قادني إلى (الجاحظ) و(الأصفهاني) في أغانيه، والجفري له نصيب لا بأس به من التأنق والتدفق، وأجمل كتبه وأكثرها خصوبة (المثقف العربي والحلم) وأجمل ما فيه محاضرته (الثقافة ما هي) التي ألقاها في معرض الكتاب بالقاهرة عام 1993م، وأكثر كتبه إيغالا في المحذور (نزار قباني آخر سيف ذهبي أموي) وما لا أراه ولا أوده لأسلوبه المشرق الوقوع في واقعية اللغة في الإبداع الروائي والقصصي، لقد أوغل في العامية واسترفد اللهجة المصرية، وأحسبه من عجز القادرين على التمام.

لم يكن الجفري (مؤدلجاً) بل كان مفتوحا على كل الخطابات متواصلا مع كل التيارات حاضرا عبر كل وسائل الإعلام المقروء وسيقطع رحيله خيطا من عدة خيوط تصلنا بالآداب العربية.

لقد كاد يتغلب على ظروفه ويتصالح مع الحياة التي أرهقته صعودا لو فسح له في أجله ولكن:

هي الدنيا إذا اكتملت

وطاب نعيمها قتلت

فلا تفرح بلذتها

فباللذات قد شغلت

وكن منها على حذر

وخف منها إذا اعتدلت

رحمه الله رحمة واسعة وجبر مصاب المشهد الأدبي والإعلامي بفقده.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد