Al Jazirah NewsPaper Thursday  16/10/2008 G Issue 13167
الخميس 17 شوال 1429   العدد  13167
السلفية الجهادية.. المفترى عليها (2)
د. عبدالله بن ثاني

اطلعت في بعض الصحف الإلكترونية على أن التحقيق كشف قبل أيام في بيروت أمام القضاء العسكري مع خمسة موقوفين يؤلفون عصابة مسلحة مع آخرين فارين متهمين بأعمال إرهابية ضد رجال الأمن في السعودية انطلاقاً من لبنان، بعد أن خططوا لذلك، وقصدوا السعودية..

.. تحت ستار التحصيل العلمي والحج والعمرة في مكة والمدينة المنورة، مطلقين على أنفسهم (الجمعية السلفية الإسلامية) والذي استوقفني هو السلفية التي يدعي هؤلاء الغادرون والذين هم لعهدهم وأماناتهم غير راعين الانتساب إليها وإكمالاً لما استوقفني في الجزء الأول الذي ناقش إطلاق وسائل الإعلام اسم السفلية الجهادية على التنظيم الحركي المسؤول عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الذكرى السابعة، وقد فرح رموزه أيما فرح بهذا المصطلح (السلفية) تحقيقاً لشرعية مخالفاتهم العقدية ونسبتها للسلف الصالح، وهم أبعد شرعة ومنهاجاً عن ذلك السلف الصالح في الأصول والفروع وطرق علاج الأزمات والخلاف، وتحريراً لمصطلح السلفية الجهادية من إسقاطه ظلماً وعدواناً وافتراء على من لا يمت للسلف بصلة لا بد من وقفات عقدية، من أهمها:

1 - السلف يرون وجوب احترام المواثيق وعقود الأمان بين المسلم والآخر ولو كان في دار الحرب فما بالك بدار الإيمان ولا تفرق بين حالات السلم وحالات الحرب، ولذلك تبرأ السلفية من فعل أحداث الحادي عشر من سبتمبر لأن فيها غدراً وخيانة بما لا يتفق مع سماحة ديننا العظيم نصاً وروحاً وما التأشيرة التي حصل عليها التسعة عشر الذين اختطفوا الطائرات الأمريكية وضربوا بها برجي مركز التجارة إلا عقد أمان من الحكومة الأمريكية لهم كما أن التاشيرة لهؤلاء العرب الذين يدخلون بلاد الحرمين الشريفين تأشيرة حج أو عمرة أو منح دراسية في جامعاتنا تعد عقد أمان وعهد وذمة من ولي الأمر، والمؤمن لا يغدر ولا يخون، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}فالإسلام حرم الغدر والخيانة وأوجب الوفاء والأمانة في حالات السلم والحرب على السواء، فأي بشر هؤلاء الذين لا يرقبون في العهود والمواثيق إلا ولا ذمة، وأي خلق هؤلاء الذين يلطخون كفوفهم بالإساءة لوطن لم يدخر وسعاً في مساعدة الإنسانية فقدم لهم ولبلادهم العون والمساعدة، قال تعالى: و{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ولم يكن الغدر من منهج الأمين صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي وصحابته والسلف الصالح، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول صلى الله عليه وسلم: (إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان) وفقه هذا الحديث أن السلف الصالح يرونه في باب الجهاد كما هو عند مسلم وأبي داوود في سننه تنزيلا له منزلته وتحريماً للغدر والخيانة في الجهاد، وقال أيضا في الحديث الصحيح صلى الله عليه وسلم: (إنا لا يصلح في ديننا الغدر) الحديث متفق عليه. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات المنافق أنه (إذا عاهد غدر) متفق عليه، وأنه (إذا اؤتمن خان) متفق عليه، وفي هذا قال ابن قدامة رحمه الله في أبواب الجهاد من كتابه (المغني ج9) (لا يجوز للمسلم أن يخون أهل دار الحرب إذا دخل ديارهم بأمان منهم لأن خيانتهم محرمة، ولا يصلح في دين الله الغدر) وقال في موضع آخر (الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم)، وأكد ذلك محمد بن الحسن الشيباني في كتابه (السير الكبير) إن المسلم إذا زور خطهم ودخل به بلاد الكفار وصدقوه، وجب عليه الوفاء لهم) هذا حاصل كلامه، (وتزوير خطهم) هو ما يسمى اليوم بالتأشيرة المزورة، ومحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة ومن تلاميذ الإمام مالك رحمهم الله، وقد التزم الصحابة وسلف الأمة بهذا المبدأ مع الكفار المحاربين، قال حذيفة بن اليمان: ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حُسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمداً فقلنا ما نريده، ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: (انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)، وهذا حديث صحيح في مسلم، ولا عتجب فالرسول الأمين صلى الله عليه وسلم أمر عليا في الهجرة أن يمكث في مكة التي أخرجه أهلها ظلماً وعدوانا ليؤدي ما عنده من أمانات كفار قريش وغيرهم إليهم التزاما بالعهد والأمانة والوفاء، بل إن الصحابة رضي الله عنهم تعلموا هذا المبدأ منه وطبقوه على سلوكهم في أقسى اللحظات التي يفقد المرء فيها صوابه ولا أدل على ذلك من قصة خبيب بن عدي رضي الله عنه إذ جاء في السير (لما أجمع المشركون على قتل خبيب ثأراً للحارث بن عامر بن نوفل في معركة بدر استعار موسيا من إحدى بنات الحارث ليستحد بها (يحلق) فأعارته، وكان لهذه المرأة صبي صغير، غفلت عنه قليلا، فذهب الصبي إلى خبيب فوضعه على فخذه، وفي يده الموسى، فلما رأته المرأة فزعت وخافت على صبيها، فقال لها خبيب أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل إن شاء الله، فقالت المرأة: ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب).

2 - الحركية تنطلق في منهجها العدائي والإقصائي والإرهابي من جهل في باب الولاء والبراء في العقيدة وتتخذ من قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أساساً للتكفير والتفجير واستحلال الدماء المعصومة بالشبهة والتأويل غير السائغ على غير فهم السلف الصالح الذين جمعوا النصوص ونزلوها على الواقع فضبطوا مسار الأمة، وفرقوا بين الموالاة المكفرة لمن أحبهم لدينهم كما في الآية وبين من أحبهم لا لدينهم بل لسبب غير الدين كالقرابة والزوجية، أو أحب كافراً أحسن إليه، وبهذا لا يكفر المسلم، وهل يأثم، موطن خلاف بين العلماء، اختار الشيخ عبدالعزيز بن باز أنه لا يأثم لأن هذا مما لا يملكه العبد، إذ إن محبة الأب والابن مما جبلت عليه النفوس، واختار الشيخ ابن عثيمين أنه يأثم، والإثم ليس مسوغاً للتكفير والقتل والإرهاب، والعلم عند الله تعالى، وأما الحركيون فيكفرون كل من تعامل مع الكفار ويستحلون دمه وهم يجهلون التفصيل في هذه المسألة المهمة، قال الفخر الرازي رحمه الله تعالى (التفسير الكبير 8-10): (واعلم أن كون المؤمن موالياً للكافر يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون راضياً بكفره ويتولاه لأجله، وهذا ممنوع منه لأن كل من فعل ذلك كان مصوباً له في ذلك الدين وتصويب الكفر كفر والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يبقى مؤمنا مع كونه بهذه الصفة.. وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه، والقسم الثالث: وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة والمظاهرة والنصرة إما بسبب القرابة أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل، فهذا لا يوجب الكفر، إلا أنه منهي عنه؛ لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام فلا جرم هدد الله تعالى فيه). والدليل على ما ذكرنا من أن الموالاة والمعاداة ترجع إلى القلب، وثمار هذه العقيدة تظهر على الجوارح، وأن موالاة الكفار التي تخرج المؤمن إلى دائرة الكفر هي المحبة والنصرة لأجل دين الكفار، وأما المواثيق والمعاهدات التي تبرمها أمة الإسلام فهي مشروعة وقد فعلها المصطفى وصحابته والسلف الصالح الذين جوزوا الاستعانة بهم دفعاً لفساد أو تحقيق مصلحة:

1 - ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم بفعل بعض، قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ...}إلى آخر الآية.

وأخرج البخاري عن ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى يأتي السهم فيرمي به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} فهؤلاء أناس من المسلمين لم يهاجروا إلى المدينة، بل يبقوا في مكة، فأخرجهم المشركون معهم لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في وقعة بدر، وفي هذا تكثير لسواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس، وهو نوع من النصرة، ومع هذا لم يحكم الله تعالى بكفرهم جراء صنيعهم هذا. والناظر في كلام جمع من المفسرين يرى أنهم فهموا من هذه الآية أن هؤلاء ظلموا أنفسهم بما دون الكفر، وأنهم لم يكفروا بفعلهم هذا.

الدليل الثاني: قصة حاطب بن أبي بلتعة، روى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير بن العوام وأبا مرثد الغنوي وكلنا فارس، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، قال: فأدركناها تسير على جمل لها حيث قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلنا أين الكتاب الذي معك؟ قالت: ما معي كتاب، فأنخنا بها فابتغينا في رحلها، فما وجدنا شيئاً قال صاحباي: ما نرى كتابا، قال: قلت لقد علمت ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يحلف به لتخرجن الكتاب، أو لأجردنك، قال: فلما رأت الجد مني، أهوت بيدها إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجت الكتاب، قال: فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما حملك يا حاطب على ما صنعت؟) قال: ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله، وما غيرت ولا بدلت، أردت أن تكون لي عند القوم يد، يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس من أصحابك هناك، إلا وله من يدفع الله به عن أهله وماله، قال: صدق، فلا تقولوا له إلا خيراً، قال: فقال عمر بن الخطاب: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني، فأضرب عنقه، قال: فقال: (يا عمر، وما يدريك، لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: (اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة) قال فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ...}فهذه القصة واضحة البيان بينة البرهان على ما ذكرنا من أن مولاة الكفار المخرجة من الملة هي مولاتهم ونصرتهم لأجل الدين، ويتضح هذا من القصة من خلال النقاط الآتية:

أولاً : أن فعل حاطب رضي الله عنه يعد من قبيل النصرة، إذ هو إفشاء لسر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولازمه أمر المشركين بأخذ الأهبة لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يكفره النبي صلى الله عليه وسلم، بل استفصله، وسأله عن الدافع له على هذا الفعل، ولو كان فعله كفراً لاستتابه وعرض عليه الإسلام، ولم يستفصله، إذ إنَّ العمل المكفر إذا عمله الرجل يستتاب ولا يقال له: ما حملك على صنيعك.

ثانياً: أن حاطباً رضي الله عنه كان يعلم أن مسألة النصرة للكفار تكون مكفرة إذا كان الدافع لها محبة الكفار، ولهذا لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب صنيعه، قال كما عند البخاري: (ما فعلت - ذلك - كفراً ولا ارتداداً ولا رضا بالكفر بعد الإسلام) فنزه نفسه عن الكفر، وبرأ قلبه عن أن يكون الدافع له حب الشرك، ولكنه ذكر عذراً دنيوياً وهو حماية أهله، ومع هذا فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قد كفرت، أو ألم تعلم أنك بصنيعك هذا خرجت من دائرة الغسلام، بل اطمأن إلى جوابه، وشهد له بإسلامه، وهذا الحكم فيه وفي غيره من أهل الإسلام، قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى (ج7/ ص523): (وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة، فتكون ذنباً ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي).

ثالثاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقر عمر رضي الله عنه على قوله: (دعني أضرب عنقه، فقد نافق) بل قال له: (يا عمر، وما يدريك، لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة) قال فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.

رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر في معرض رده على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه ذكر أن فعل حاطب رضي الله عنه هو من قبيل المعاصي التي تكفرها الحسنات الماحية، فحاطب من أهل بدر، وأهل بدر يغفر الله لهم ما دون الشرك، فأما الشرك، فهو مفسد للأعمال الطيبات محبط للصنائع المباركات، ألا ترى أن الله أوحى لنبينا صلوات ربي وسلامه عليه ولإخوانه من النبيين: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} فإذا كان النبي إذا أشرك - وحاشاه ذلك - حبط عمله، فكيف بمن دونه، والنبوة بلا شك أعلى مقاماً وأرفع مكاناً من شهود بدر.

يقول العلامة القرطبي (تفسير القرطبي 18/ 52): (من كثر تطلعه على عورات المسلمين، وينبه عليهم، ويُعرف عدوهم بأخبارهم، لم يكن بذلك كافراً، إذا كان فعله لغرض دنيوي، واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينو الردة عن الدين) فتحصل مما سبق أن المولاة والمعادة لفظ عام يدخل تحته صور متعددة، فلا يحكم لعبد أنه كفر بمولاته للكفار إلا إذا كان هذا الفعل صادر منه لمحبة دين الكفار، فيكفر، وإلا كان فاعلا لكبيرة من كبائر الذنوب، أو لما هو دون ذلك، بحسب ما يستحقه ذلك الفعل.

وسأكمل في الجزء الثالث إن شاء الله بعض أوجه الخلاف بين منهج السلف والحركية والله من وراء القصد.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد