Al Jazirah NewsPaper Monday  27/10/2008 G Issue 13178
الأثنين 28 شوال 1429   العدد  13178
د. محمد بن فهد القحطاني
التنمية وهدر الإمكانية براثن التخلف

يذكر الرئيس الأمريكي الأسبق دويت أيزنهاور في مذكراته أنه استضاف يوماً أحد الزعماء العرب - من دول العنتريات - في البيت الأبيض، وتجاذبا أطراف الحديث حول هموم التنمية في ذلك القطر العربي النامي. سأل الرئيس ضيفه عن مشروعات التنمية وما تم إنجازه في هذا الصدد لأجل النهوض بالبلد من براثن التخلف، فأجابه الضيف بأننا قد شيدنا مدناً عصرية وعبّدنا طرقا فسيحة وزرعنا حدائق غنّاء تبهج الناظرين، فأطرق الرئيس الأمريكي قليلاً ثم كرر سؤاله مرة أخرى وعدة مرات، وفي كل مرة يحصل على إجابات تمتد إلى الحديث عن بناء الوزارات والمصالح الحكومية ولكنها تحمل المضمون نفسه المتمحور حول المباني الخرسانية والطرق المسفلتة. هنا وجد أيزنهاور نفسه مضطراً إلى تغيير دفة الحديث نحو قضايا أخرى هامشية لأنه وجد نفسه يدور في حلقة مفرغة؛ لأن ضيف الشرف بكل تأكيد يحتاج إلى دروس ومحاضرات مطولة لتوعيته بماهية أبسط مبادئ التنمية التي تتجاوز الكتل الخرسانية إلى الرقي ببني البشر الذين هم محور التنمية وهدفها النهائي.

انشغل المنظرون في حقل التنمية الاقتصادية بأسباب التخلف وطبيعة معوقات التنمية التي تعترض الانطلاقة الاقتصادية وكيف يمكن الفكاك منها، لكن جميع تلك النظريات تتفق على أن تخلف الغالبية العظمى من الدول النامية عن ركب التنمية يعود إلى شح تراكمات رأس المال الذي قد يساهم في رفع الإنتاجية مقابل الوفرة في الأيدي العاملة ذات الدخول البسيطة. لذا فإن الخطوة الأولى في دفع عجلة التنمية تكمن في زيادة إنتاجية الأيدي العاملة التي تتعامل مع تراكمات عالية من رؤوس الأموال ذات العوائد المرتفعة حسب قانون الندرة، يؤكد ذلك النموذج الكلاسيكي الجديد الذي يضع سيناريو لانطلاقة الدول النامية من خلال تدفقات المزيد من رؤوس الأموال من دول الوفرة (الدول المتقدمة) إلى الدول النامية التي تعاني من شح وندرة في ذلك العنصر المهم من عناصر الإنتاج.

لكن العديد من الدول النامية غنية بالمواد الخام والمنتجات الزراعية والمواد الأولية التي تستطيع بيعها في الأسواق الدولية ومن ثم تحويلها لعملات صعبة تُستخدم لتمويل العملية التنموية، وبالتالي فإن توافر هذه الموارد المالية الضخمة في العديد من البلدان النامية، في الفترة الحالية على الأقل، يدحض فرضية مسببات التخلف التي تعود إلى نقص رأس المال القادر على شراء التقنيات الحديثة والمعدات الحديثة القادرة على رفع الإنتاجية في القطاعات الاقتصادية المختلفة. إذا كان الحال كذلك فبالتالي أين تكمن المشكلة؟

إن الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في كون الإنسان حقاً هو محور التنمية وعمادها، فبنو البشر هم الذين يخططون وينفذون البرامج التنموية المتنوعة من خلال ما اكتسبوه من خبرات علمية وعملية تراكمت على مر السنين، وذلك بالقيام بالأعمال والنشاطات المختلفة، فكم أمة انطلقت نحو التقدم بعد اكتشافات علمية بسيطة أو تقديم طرق حديثة للإنتاج قادت إلى تقليص التكاليف وغلة وفيرة لم تكن متاحة في فترات سابقة. يتفق العديد من الباحثين على أن فن إدارة الموارد الاقتصادية يفوق في الأهمية مقدار ونوعية تلك الموارد، فالإدارة السليمة تضمن تحقيق الاستخدام الأمثل للمقومات الاقتصادية حتى لو كانت شحيحة، في حين أن سوء الإدارة يترتب عليها هدر واستنزاف للموارد وإن كانت وفيرة.

إن المثال على ذلك هو ما حققته بعض الدول النامية مؤخراً من إنجازات علمية وقفزات تنموية هائلة استطاعت بجدارة أن تصبح في مصاف الدول المتقدمة من حيث إسهام الصناعة في الناتج القومي ومنافسة صادراتها في الأسواق العالمية على الرغم من شح الموارد الاقتصادية المتوافرة لديها، في حين أن هناك بلدانا نامية أخرى حققت تراكمات رأسمالية ضخمة لكنها ما زالت تقبع في دهاليز التخلف بسبب سوء الإدارة وهدر الإمكانات المتاحة.

خلصت أدبيات التنمية الاقتصادية إلى أنه قطعاً لا يمكن تحقيق مستويات تنموية مقبولة دون تطوير رأس المال البشري الذي يعد أهم مورد يمكن الاعتماد عليه في تحقيق التنمية المنشودة، من خلال إدارة التنمية والمساهمة في تحقيق الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية، فكل الموارد الاقتصادية الجامدة الأخرى كرأس المال والمواد الأولية ممكنة الاستيراد والجلب من أقاليم أخرى إلا عنصر رأس المال البشري الذي يجب تنميته وتعليمه محلياً. قد يقول البعض إن الأيدي العاملة تستقدم كذلك من بلدان أجنبية مثل بقية الموارد الاقتصادية الأخرى؟ لكن علينا أن نتخيل كم يتكبد الاقتصاد الوطني من تكاليف في تعليم العمّال الأجانب الذين يأتون بتعليم بسيط أو دون أي تعليم على الإطلاق ومن ثم يتدربون لدينا بشكل تطبيقي من خلال التجربة والخطأ، ونحن نتحمل هذه التكاليف حتى تصبح هذه القوى العاملة الأجنبية ماهرة تحصل على أجور مرتفعة تفوق مرتبات ذوي المناصب العليا في الأجهزة الحكومية.

لكن التساؤل هو لماذا تحرم القوى العاملة الوطنية من الحصول على فرص مماثلة في التدريب من خلال القيام بالأعمال؟ أي لماذا توصد الأبواب المشرعة للأجانب في وجوه أبنائنا وبناتنا؟ لماذا تقف الخبرة العملية المزعومة حاجزا في سبيل المستقبل الوظيفي للمواطنين في حين أن هناك استعدادا تاما على تحمل تكاليف تعلم الأجانب ذوي التأهيل المتدني في الغالب؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب اتخاذ خطوات متعددة تنطلق من الرقي بالتعليم العام والجامعي وبرامج الدراسات العليا والتعليم الفني والتدريب المهني، وفي الوقت نفسه إزالة التشوهات والخلل في سوق العمل من خلال زيادة القدرة التنافسية للعامل السعودي ليصبح أكثر جاذبية لرب العمل ووقف الإجراءات التي تحابي العامل الأجنبي من خلال ممارسات أضحت جلية للجميع. إن رصد الميزانيات الحكومية لأنواع التعليم لا تكفي بمفردها بل تعتبر ضربا من الهدر المالي ما لم ترتبط ببرامج توظيف حقيقية تعطي القوى العاملة الوطنية الفرصة للتعليم والتدريب من خلال القيام بالأعمال. إن تعطيل القوى العاملة الوطنية هو أكبر هدر للإمكانية والعقبة الكأداء في وجه التنمية.

أستاذ الاقتصاد المساعد بمعهد الدراسات الدبلوماسية
mqahtani@ids.gov.sa



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد