Al Jazirah NewsPaper Thursday  30/10/2008 G Issue 13181
الخميس 02 ذو القعدة 1429   العدد  13181
ابنة عمران وأخت هارون
د. جمال الحسيني أبوفرحة

لم يزل النصارى يرددون أن بقرآننا أخطاء، وأنه لو كان من عند الله لما حوى الأخطاء؛ ومن أهم ما يعرضونه لبيان دعواهم تلك الباطلة قوله تعالى عن السيدة مريم عليها السلام: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) التحريم:12؛ ويقولون: إن مريم ليست ابنة عمران؛ لأن عمران أبو موسى عليه السلام، وبين موسى عليه السلام ومريم رضي الله عنها مئات السنين.

وجواب ذلك من وجهين:

الأول: نقل أن أباها رضي الله عنهما كان اسمه عمران، ولا يلزم من كون اسم أبي موسى - عليه السلام - عمران أن لا يسمَّى غيره عمران، والعجيب أن الكتاب المقدس لم يذكر قط اسم أبي مريم عليها السلام، ولم يذكر الكتاب المقدس نسب المسيح من جهة أمه قط؛ وإنما ذكره من جهة يوسف النجار خطيب مريم مرتين: مرة في الإصحاح الأول من إنجيل متى، ومرة في الإصحاح الثالث من إنجيل لوقا؛ فكيف يخطِّئون القرآن في أمر لا علم لهم به؟!!! وكيف يهمل كتابهم المقدس مثل هذا الأمر؟!!! وألا يعني ذلك تحريفه وأنه ضاع منه شيء؟!! ولو سكتوا عن مهاجمة القرآن في ذلك لكان أستر لحالهم.

الثاني: لو سلَّمنا أن اسم أبيها ليس عمران، فإن عمران أبا موسى عليه السلام كان جدها، والإنسان يضاف لجده البعيد كما يضاف لأبيه؛ فمثلا: كل من العهد القديم والعهد الجديد، وكذلك العالم كله اليوم يسمي اليهود (بني إسرائيل) مع أنهم ليسوا أبناءه بل أحفاد الأحفاد، وكذلك كل إنسان يوجد إلى يوم القيامة يسمى ابن آدم عليه السلام، ولم تزل العرب وغيرها من الأمم تضيف الإنسان إلى أبيه مرة وإلى أحد أجداده أخرى؛ وخاصة إذا كان ذا شأن عظيم، ومن المعروف أن عمران، أو كما يسميه الكتاب المقدس عمرام كان رئيس عشيرة العمرانيين (راجع سفر العدد الإصحاح الثالث).

وكذلك قالت اليهود والنصارى إن في قوله تعالى لمريم عليها السلام: "يا أخت هارون" خطأ في التاريخ؛ وذلك أن بين مريم أم المسيح عليهما السلام، وهارون أخي موسى عليهما السلام مئات السنين.

وجواب ذلك:

أنه ليس هناك دليل من أي نوع أو نص في كتابهم المقدس يمنع من أن يكون لمريم عليها السلام أخ يسمى هارون كما ذكر القرآن، ولا يلزم من كون اسم أخي موسى -عليهما السلام- هارون، أن لا يسمَّى غيره بذلك الاسم، وخاصة أن الكتاب المقدس لم يذكر شيئا يذكر عن أسرة مريم عليها السلام؛ فحتى أبيها أغفل ذكر اسمه كما ذكرنا!!!

ولو سلمنا أن اسم أخيها ليس هارون، فلعله كان - وقد قيل ذلك - في زمانها عابد يسمى هارون، وكانت رضي الله تعالى عنها في غاية العبادة، فلما جاءت بعيسى عليه السلام من غير زوج واتهمها رضي الله عنها بنو إسرائيل بالزنا، قيل لها: (يا أخت هارون) أي في العبادة {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}(28) سورة مريم متعجبين كيف يصدر القبيح من غير محله، وأصل الأخوة التساوي في الصفة؛ ومن ذلك قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} (38) سورة الأعراف ؛ أي مساويتها في الكفر، ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} (48) سورة الزخرف أي مساويتها في الدلالة، وسمي الأخ أخا لمساواته أخاه في انتمائه إلى أب واحد أو أم واحدة، فلما حصلت المساواة بين مريم رضي الله تعالى عنها وبين ذلك العابد سميت أخته على القاعدة.

وقد يكون المقصود بهارون هنا النبي أخا موسى عليهما السلام، وقد كان الأكبر واعتبر منذ شبابه قائداً لقبيلته - بني لاوي- وكاهنهم، ويحكي سفر الخروج في الإصحاح الأربعين أن موسى عليه السلام أمر برسمه هو وذريته كهنة على بني إسرائيل، وبذلك تأسست الكهانة اللاوية، وأصبح هارون عليه السلام أول رئيس كهنة على كل بني إسرائيل؛ فما العجب في أن يقال لمريم "يا أخت هارون"، في هذا الموقف وقد كان له وذريته عليه السلام هذه المكانة الدينية في بني إسرائيل.

ولعله كان - وقد قيل ذلك- في ذلك الزمان فاسقا يسمَّى هارون، فلما اعتقدوا فيها رضي الله عنها التهمة جعلوها أخته، أي في ذلك الفعل القبيح.

وقيل إنها كانت من ذرية موسى عليه السلام، وهو أخو هارون فقيل لها: (يا أخت هارون). والتوراة تسمي أبناء وأحفاد أخو الأب إخوة له؛ ففي الإصحاح العشرين من سفر العدد: (وأرسل موسى رسلا من قادش إلى ملك أدوم هكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت المشقة التي أصابتنا.....)؛ فالمقصود ب(إسرائيل هنا كل الشعب الإسرائيلي الذي كان يقوده موسى، وهؤلاء كانوا أحفاد أحفاد إسرائيل، وكذلك كان ملك أدوم وشعبه أحفاد أحفاد عيسو أخي إسرائيل).

وقيل إنها كانت من ذرية هارون عليه السلام - وهو ما نرجحه- وإنما قيل لها: (يا أخت هارون) كما يقال: (يا أخا العرب) أي يا واحدًا منهم، ويا أخا قريش، ويا أخا هذيل....إلخ.. ويشفع لذلك وصف مخطوطات قمران للمسيح عليه السلام بأنه مسيح هارون وإسرائيل؛ يقول سفر دستور جماعة قمران: (ستحكمهم الأنظمة الأساسية التي بها بدأ أعضاء الجماعة بالتعلم حتى مجيء النبي، ومسيح هارون وإسرائيل).. فنجد هذا السفر ينسب المسيح لهارون، مثلما ينسب القرآن مريم أم المسيح لهارون، عليهم السلام أجمعين؛ وقد كتب هذا السفر - كما يرى أندريه دوبون سومر في توطئته له- قبل ميلاد المسيح عليه السلام بعدة عقود؛ ومن ثمة فدعوى تأثره بالعقائد الإسلامية منتفاة.

ثم إن هذه الآيات قد قرئت في عصر التنزيل على أقوام من اليهود والنصارى فما نعلم أحدا منهم فهم أن القرآن يخلط بين مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون عليهما السلام، ومريم أم المسيح عليه السلام، بل إننا نجد كثيرين من القسيسين والرهبان والأحبار يدخلون في دين الإسلام منذ عهد النبوة وإلى يومنا هذا.

وأخيرا أقول: إن هذين الاسمين (عمران أو عمرام، وهارون) من الأسماء التي اشتهرت لدى بني إسرائيل، بعد أن تسمى بأحدها أبو موسى وبالآخر أخوه عليهما السلام، ومن المتوقع من أسرة متدينة كأسرة مريم والدة المسيح عليهما السلام أن تحرص على أن تسمّي أولادها بأسماء من تعتبرهم في مقام الاقتداء الديني، وليس أدل على ذلك من تسمية مريم عليها السلام بهذا الاسم والذي كان من قبل لأخت موسى عليه السلام والتي يصفها العهد القديم بالنبية! بل إنه من المتوقع وقد سميت مريم بهذا الاسم أن يسمى أخوها - إن كان لها أخ- بهارون؛ لاكتمال المحاكاة بين الأسرتين في الأسماء.

أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
المملكة العربية السعودية- المدينة المنورة- جامعة طيبة-
كلية المجتمع - ص.ب:2898


gamalabufarha@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد