Al Jazirah NewsPaper Thursday  26/03/2009 G Issue 13328
الخميس 29 ربيع الأول 1430   العدد  13328
قصة قصيرة
رباعية الطيور

 

(1)

لا يزال يذكر تلك المرة الأولى..

حين أحس بتلك الغصة في حلقه.. ودمع مكتوم يروم أن ينهمر. ولكنه يختنق في داخله ويدفعه لأن يحاول الصراخ.. بلا جدوى حتى ليوشك قلبه أن يتصدع فلم يكن عنده من الكلمات ما يستطيع أن يعبر به عن مشاعر لا يدري لها اسما.

كانت مجرد قصة صغيرة الحجم عثر عليها وسط أكوام الكتب المتراكمة في المكتبة.. سارع بقراءتها ووجد نفسه يغوص بداخلها.. في بحار من خيال رومانسي غريب لم يكن يدرك سره في ذلك الوقت.. ولعل عمره الغض وبكارة مشاعره حركا تلك المشاعر الغامضة.

كانت القصة عن شاب يحب فتاته حبا شديدا.. في بلاد الشتاء قارص البرودة حيث كل شيء يصطبغ بلون الثلج الأبيض.

حتى الأزهار القليلة التي كانت تنبت بصعوبة بالغة هناك.. ثم رغبة الشاب العارمة في أن يمنحها رمزاً لعشقه لها. وردة حمراء بلون الدم. ولكن من أين له ذلك؟ وذلك الطائر رقيق الجرم فوق الشجرة.. وهو ينصت لحديث الشاب ثم يقدم مضحياً بحياته ويغرس شوكة الزهرة تماما في القلب.. ويندفع في الغناء والدم يقطر.. قطرة بعد أخرى على أوراق الوردة البيضاء فيصبغها بلون الدم القاني.

والبلبل مستمر في الغناء لا يحس بالألم الناشب في الصدر.. حتى يطلع الفجر.. ويجد الفتى زهرته الموعودة.. ويموت البلبل فوق الغصن ويذكره الفتى وهو يقدم زهرته إلى أميرة أحلامه.. والدموع تنهمر على وجنتيهما وهما يذكران أنشودة الوداع للطائر الصغير..

روى تلك القصة للفتاة التي أحبها.. وهو يقدم لها بيد مرتعشة وردة حمراء تشبه تلك التي قرأ عنها في مطلع صباه.. وسالت من أجلها دموعه.. تمنى أشياء وأشياء وتصور فرحتها القادمة لا محالة على الوجه الصغير الجميل.. دموعها لذكرى الطائر المسكين.. لكن شيئا من ذلك لم يحدث..

فقط نظرت الفتاة إليه.. نظرة جمعت الدهشة.. الحيرة.. وبعض السخرية وكثير من الإشفاق ثم أدارت ظهرها له.. ومضت في طريقها بعيداً ومن ورائها ألقت بالوردة الحمراء.. على الطريق الترابي الطويل.

وكأنه يسمع صوتها الآن بعد سنوات وسنوات وهي تقول له.. أو لعلها كانت تحدث نفسها. لا يذكر: وهل هناك بعد من يقدم لفتاته وروداً حمراء؟.

(2)

نهاه والده عن أن يقلد أحداً.

قال ان الجوهر منفرد.. والصور لا تتشابه.. حتى وإن بدت قريبة من بعضها البعض..

ثم أهدى له قصة.. بل لعلهما قصتان.. كانت على لسان الطير.. حيلة قديمة احترفها المؤلفون.. فكل ما يقال على لسان الطير والحيوان يمر بلا عقاب.. ولا يؤاخذون به.. ليس هذا هو المهم.. لكنه لا يزال يذكر تلك الحكايات.. الغراب الأسود الكالح اللون.. يتفتت قلبه حسداً لرشاقة الطاووس وخفة حركته وهو يتباهى بريشة الملون الجميل.. وتكاد النار تشتعل في صدره وهو يرى إعجاب ساكني الغابة بخطواته المتئدة المتباهية.. فيقرر أن يقلده في مشيته المتبخترة.. وطفق يسهر الليالي محاولا أن يتصنع تلك الخطوة الواثقة حتى تأكد من إتقانه لها.

ثم خروجه عارضا نفسه على سائر الحيوان والطير بمشيته الجديدة. لكنه صدم عندما تعالت الضحكات في جنبات الغابة.. كلما نظر إليه أحد.. أحس بالخجل الشديد وسارع معاودا مشيته القديمة لكنه لفرط الارتباك نسيها هي الأخرى.. فصار يقفز من مكان إلى مكان بشكل معيب.. وارتفعت الضحكات أكثر من حوله وهو يحاول ويحاول بلا جدوى..

ثم تلك القصة الأخرى عن ذلك الطاووس.. الذي لم يرض بكل ما يراه في العيون من إعجاب وتقدير وحسده الحصان لصهيله الجميل الذي يتعالى في أنحاء الغابة وهو يخطو مختالا بقوائمه الرشيقة.. فظن أن جمال الصوت هو ما ينقصه.. فقرر هو الآخر.. أو هكذا قرر مؤلف الحكاية.. أن يصهل كصهيل الخيل.. وبالطبع لم يستطع وكذلك لم يعود لصوته الأول.. الذي كما كان يقال جميلاً وليس بقبح صوته الحالي..

لا أعلم لمَ تذكر كل ذلك وهو يرى من حوله عشرات الغربان ومئات الطواويس وهي تعدو كالخيول وتزأر كالأسود.. بل وتشدو كالبلابل.. تعج بها الطرقات.. يخطون الأوراق بمؤلفاتهم ويمارسون الأعمال في مكاتبهم.. يقودون السيارات ويغازلون النساء.. بل ويقررون مصائر العالم.

(3)

الحمامة المطوقة

كان ذلك عنوانا لدرس أحبه كثيراً حين بدأ في تلقي تعليمه المدرسي..

عرف بعد ذلك أنها مأخوذة من كتاب كليلة ودمنة.. بهرته تلك الصورة التي خطها القلم لسرب الحمام الذي تقوده واحدة منهم تمتاز بذلك الطوق حول العنق.. يحطون إذ حطت.. ويرتفعون مع ارتفاعها.. تعرف أين الماء وأين الحب. تقودهم إليه.. وترى حبائل الصيادين وقد حجبت عنهم.. فتجنبهم بحنكتها سوء العواقب.. فعاشوا في سلام ونعموا بالأمن..

هكذا قال المؤلف.. وهكذا صدقه طفلا صغيرا.. وفتى يافعا.. وشاباً في ريعان الشباب.

والآن وقد شاب منه الرأس. وتهدل من الجسد ما كان من قبل مشدوداً.. ما عاد يرى حماماً مطوقاً.. كثر الحمام.. من كل شكل ولون وصنف.. يراه عشرات وعشرات.. عبر الصحارى والوديان.. وعلى ضفاف الأنهار.. فوق الأغصان وبين المنازل يتخبط عبر السموات.. يموت جوعاً وعطشاً.. لا يقر له قرار.. وشباك الصيادين التي نشرت هنا.. وهناك قد امتلأت بالصيد حتى اكتظت وما عاد فيها مكان لصيد جديد.. وارتفعت في الجو سحائب دخان تحمل رائحته مشوياً.. هنيئاً للآكلين..

ومن حين لآخر.. يحدثه رفاقه.. أو بعض من لا يكذبونه خبراً.. بأنهم قد رأوا حمامة مطوقة هنا.. أو هناك.. تعبر السماء مسرعة.. أو قد تتوقف لحظات تلتقط أنفاسها.. أو تفر من طلقات الرماة.. ولكنها ويا للأسف.. تطير دائماً.. وحيدة.. لا يتبعها أحد.

(4)

عاشق ومعشوق

هكذا سماهم له صديقه الوفي.. وهو يشير عليه بشراء هذا النوع من الطيور جميلة المنظر.. زاهية الألوان.. لن تمل رؤيتها.. وسيكون صوتها معك مؤنساً لوحدتك القاتلة.. ثم ذلك الوفاء النادر.. والعشق الشديد.. قالها وهو يضحك.. لعلك تتعلم منها شيئا يفيدك فيما هو آت من الأيام.

وضعهما في قفص متسع عند النافذة الوحيدة.. وصار يعتني بهما أيما اعتناء.. يقدم لهما الطعام ويمضي الساعات يراقبهما في حركاتهما وسكناتهما، يستمع لأهازيج الحب والهناء.. هذه للغزل.. وهذه عتاب.. مناجاة رقيقة. وألفة دائمة.. كانا له سلوى وعزاء في كثير من الأوقات الصعبة التي عاشها بمفرده.

وحين فوجئ ذات صباح بالأنثى ملقاة على ظهرها. وأليفها يكاد يجن وهو يحاول أن يقيمها.. وهو بادي الاضطراب.. يرتجف مناديا لها.. بنفس الغناء العذب الذي اعتاده.. لكنها لا تجيب حاول أن يصنع شيئا وقلبه يكاد ينفطر ألماً وإشفاقاً لحاله.. لكنه لم يدر ماذا يصنع.. خاطب صديقه عبر الهاتف.. وروى له بانفعال شديد.. كل ما حدث.. سارع صديقه بالمجيء وأشار عليه بعد أن نقل الجسد الرقيق بأن يقتني له رفيقة جديدة سريعا قبل ان يتلف حزنا على أليفته الأولى.. هو ما فعله على الفور.. توقع أن ينصرف عنها.. أن يتجنبها.. ألا تلفت انتباهه هكذا تصور.

لكنه.. ولفرط عجبه. فوجئ به يقوم معها بكل ما كان يفعل مع أليفته السابقة.. غزل وهيام.. وعادت السعادة تلف القفص الصغير من جديد..

نسى الأمر فترة من الزمن.. في واقع الأمر لم يعد غناؤهما معا يجذبه كالسابق.. لكنه استمر في رعايتها والاعتناء بهما كجزء من حياته اليومية.. كما كان يأكل ويشرب ويذهب إلى عمله.. ما عاد هناك ذاك الانبهار ولا تلك البهجة التي كانت تملؤه وهو يصغى لأناشيد الغرام.

وفي تلك المرة.. عندما وجد الأنثى ملقاة في قاع القفص.. كان أقل انفعالا من المرة السابقة.. بل لقد انتظر حتى جاء صديقه ليروى له ما حدث.. قام صديقه إلى القفص.. مد يده.. أخرج الجسد الصغير من القفص.. فرد الجناح.. نظر للجرح الدامي.. علت الدهشة وجهه، وصديقه ينظر مشفقاً وهو يقول.. لقد فعلها صاحبك مرة أخرى.. ستشتري له أليفاً جديداً؟.

أحس بالخديعة لم يجب عن سؤاله..

وبعد أن غادر المكان.. فتح له باب القفص لعله يرحل.. لكنه لم يفعل.. بل ظل ملازماً له.. وعاد سعيداً مرة أخرى حتى بعد أن صار وحيداً.. بلا عاشق ولا معشوق.

د. هشام السحار



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد