Saturday  12/03/2011/2011 Issue 14044

السبت 07 ربيع الثاني 1432  العدد  14044

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وجهات نظر

      

الوقفة التاسعة:

هي في قوله - صلى الله عليه وسلم- عندما سأله حذيفة - رضي الله عنه -: «فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، فالمخرج من الفتن والعاصم من الانحراف والوقوع في الخلل، والتأثر بالدعاة على أبواب جهنم، والذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا أن نلزم جماعة المسلمين وإمامهم، هذه هي وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الجامعة لمن رام النجاة في ظل الدعوة التي هي سبب دخول النار، والمقصود بالجماعة هنا هي الجماعة الكبرى، لأن للجماعة مفهومين:

- المفهوم الأول: هي الجماعة الصغرى، وهي جماعة الصلاة، أو الجماعة التي تنعقد بهم الصلاة، وتسمى صلاة الجماعة، وهذه الجماعة اهتم بها الإسلام واعتنى بها اعتناءً بالغًا، وهي تتألف من إمام ومأمومين مأمورين باتباع الإمام ومتابعته، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم- : «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوْا جُلُوسًا»، ولذلك فإنهم يتابعونه في كل شيء، في حركاته وأقواله وأفعاله، فتحرم مخالفته وتجب متابعته وتكره موافقته، بل إنه إذا سها في بعض أفعال وأقوال الصلاة فإنهم يفعلون ما يفعل، وهذه الجماعة توجيه ودليل على الجماعة الكبرى، وتربية شرعية على لزومها، وطاعة ولي الأمر فيها، والالتزام بكل واجباتها.

- المفهوم الثاني: الجماعة الكبرى، وهي التي ينتظم فيها أفراد الأمة الإسلامية إذا كانت مجتمعة، أو أفراد البلد الواحد فيما سوى ذلك، وهم مأمورون بالقيام بحقوقها وأداء واجباتها والانتظام فيها، والحفاظ على وحدتها، والحذر من التأثير عليها، والبعد عن كل ما يسبب فرقتها واختلافها، والدفاع عنها، ودحر كل مَنْ يرومها بِعِداءٍ أو سوء، من داخل الجماعة أو خارجها، وذلك لتقف هذه الجماعة قوية شامخة عزيزة مهابة الجانب يحسب لها الأعداء كل الحسابات، ولا يمكن أن تؤثر عليها العوادي أو ينخر في جسدها أي فتنة، كبيرة كانت أو صغيرة، لأن هذه الجماعة هي السياج الذي يحفظ المسلمين وقوتهم ومنعتهم بعد الله عز وجل، والاجتماع مبدأٌ يدل على وجود الإسلام، وفقده فقد لهوية الإسلام، فالإسلام لا يكون إلا بجماعة واجتماع، والاجتماع لا يكون إلا بجماعة، والجماعة لا تكون إلا بإمام وإمارة، ولا إمامة إلا بطاعة، ولذلك أخرج الدارمي في سننه عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: «تطاول الناس في البناء في زمن عمر، فقال عمر - رضي الله عنه -: «يا معشر العريب: الأرض الأرض، إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، فمن سوده قومه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوده قومه على غير فقه كان هلاكا له ولهم».

فالإسلام والجماعة والإمامة والطاعة مبادئ لا ينفك بعضها عن بعض، ولا يمكن أن يوجد عنصر منها بدون وجود العناصر الأخرى على أي حال من الأحوال، ومن هنا كانت الجماعة مبدأً ضروريًا ومتحتمًا، لأن الإنسان بطبعه يحب ويبغض، وله إرادة، ولا يمكن أن يحقق مصالحه ويقوم بشؤونه بمعزل عن الناس، مهما كانت قوته ومهما بلغ شأنه، ومن هنا قال الله عز وجل:

(وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحُجُرات:13

فالله سبحانه وتعالى جعل الناس شعوبًا وقبائل ليتعارفوا، و يخدم بعضهم بعضًا، ويقومَ بعضهم على بعض في كل شؤون الحياة، يقول الله عز وجل: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[الزخرف: 32

ويقول الشاعر:

والناس للناس من بدو وحاضرة

بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

وهذه الجماعة لا بد لها من دين تجتمع عليه، يكون فيه من الأوامر والنواهي ما يحفظ العقائد والعقول والأعراض والممتلكات، ويكفل تحقيق الأمن وعدم اعتداء أفرادها بعضهم على بعض، ولذلك لا بد من وجود من يُسيِّر هذا النظام ويضبطه، ويتمثل ذلك في القائد أو ولي الأمر، فإن لم يوجد ذلك فإن الفوضى تعم وتنتشر، قال الشاعر:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «كل طائفة من بني آدم لا بد لهم من دين يجمعهم، إذ لا غنى لبعضهم عن بعض، وأحدهم لا يستقل بجلب منفعته ودفع مضرته، فلا بد من اجتماعهم، وإذا اجتمعوا فلا بد أن يشتركوا في اجتلاب ما ينفعهم كلهم، مثل: طلب نزول المطر، وذلك محبتهم له، وفي دفع ما يضرهم، مثل: عدوهم، وذلك بغضهم له، فصار ولابد أن يشتركوا في محبة شيء عام، وبغض شيء عام، وهذا هو دينهم المشترك العام.

وإما اختصاص كل منهم بمحبة ما يأكله ويشربه وينكحه، وطلب ما يستره باللباس فهذا يشتركون في نوعه لا في شخصه، بل كل منهم يحب نظير ما يحبه الآخر لا عينه، بل كل منهم لا ينتفع في أكله وشربه ونكاحه ولباسه بعين ما ينتفع به الآخر، بل بنظيره.

وهكذا هي الأمور السماوية في الحقيقة، فإن عين المطر الذي ينزل في أرض هذا ليس هو عين الذي ينزل في أرض هذا ولكن نظيره، ولا عين الهواء البارد الذي يصيب جسد أحدهم قد لا يكون نفس عين الهواء البارد الذي يصيب جسد الآخر بل نظيره، لكن الأمور السماوية تقع مشتركة عامة، ولهذا تعلق حبهم وبغضهم بها عامة مشتركة، بخلاف الأمور التي تتعلق بأفعالهم كالطعام واللباس، فقد تقع مختصة وقد تقع مشتركة.

وإذا كان كذلك فالأمور التي يحتاجون إليها يحتاجون أن يوجبوها على أنفسهم، والأمور التي تضرهم يحتاجون أن يحرموها على نفوسهم، وذلك دينهم، وذلك لا يكون إلا باتفاقهم على ذلك، وهو التعاهد والتعاقد، ولهذا جاء في الحديث: «لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ».

والدين الحق هو طاعة الله وعبادته، كما بينّا أن الدين هو الطاعة المعتادة التي صارت خُلقًا، وبذلك يكون المطاع محبوبًا مرادًا، إذ أصل ذلك المحبة والإرادة.

ولا يستحق أحد أن يعبد ويطاع على الإطلاق إلا الله وحده لا شريك له، ورسله وأولو الأمر أطيعوا لأنهم يأمرون بطاعة الله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي»، وأما العبادة فلله وحده ليس فيها واسطة، فلا يعبد العبد إلا الله وحده» ا.هـ.

وقد قرر هذا أيضا ابن خلدون في مقدمته فقال: «إن الاجتماع الإنساني ضروري، ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: (الإنسان مدني بالطبع) أي: لابد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم».

والجماعة والاجتماع ليست مطلبًا بشريًا فقط، بل إننا لو نظرنا إلى فئات أخرى من الحيوانات والحشرات وغيرها لوجدنا أنها تحرص على الاجتماع المرتب المنظم الذي تحكمه قيادة يلتزم بأمرها، ويقاتل ويدافع أفرادها عن ملكها ولو فنيت هي وبقي قائدها، فكيف ببني الإنسان؟ إنهم أولى وأوجب أن يكون لهم جماعة تنتظمهم وتحفظهم ويحافظون عليها، وإمام يسمع له ويطاع، يحافظ على جماعتهم وأمنهم وأمانهم.

إن لزوم جماعة المسلمين أمر واجب بشريعة الله، دلت عليه الأدلة الواضحة الصريحة القاطعة من الكتاب والسنة، ولذلك ترجم الإمام النووي للأحاديث الصحيحة الواردة في صحيح مسلم الدالة دلالة قاطعة على هذا الحكم فقال: «باب وجوب لزوم جماعة المسلمين في حال ظهور الفتن، وفي كل حال».

وإذا تقرر هذا فإنه يحرم قطعًا الخروج عليها لأي سبب من الأسباب، ومهما كانت الدوافع والعلل والمبررات، قولاً أو فعلاً، ولذلك أيضًا قال الإمام النووي في ترجمة الأحاديث التي أوردها الإمام مسلم في كتابه الجامع الصحيح الدالة على وجوب لزوم جماعة المسلمين وحرمة الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة: «باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة».

والأدلة الدالة على هذا الأمركثيرة ومتنوعة ومتعددة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- : فمن الأدلة الدالة على ذلك من كتاب الله قوله تعالى:

(مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ } (76) سورة يوسف.وقال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) [التوبة:29.

فهذا دليل ظاهر ونص قاطع على وجوب الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- ، والاجتماع عليها، والرجوع إليها في صغير الأمور وكبيرها، ونهيٌ صريحٌ واضحٌ عن الاختلاف والنزاع والشقاق والتناحر، وبيان لفضل الله ومنته علينا وعلى من قبلنا أن جعلنا إخوة في الدين.

والمقصود بحبل الله عز وجل هنا قيل: كتاب الله والقرآن، وقيل: الجماعة، وروي هذا المعنى عن أنس بن مالك وابن مسعود، حيث قال رضي الله عنه: «عليكم جميعًا بالجماعة والطاعة، فإنها حبل الله الذي أمر به». قال الإمام القرطبي -رحمه الله- لما ساق أقوال القائلين بأن المراد بالجماعة: كتاب الله، وقول من قال: إن المراد بحبل الله: الجماعة، قال: «وكلها معانٍ متقاربة متداخلة، فإن الله تعالى يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة مهلكة، والجماعة نجاة».

وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: «وقد فسر حبله: بكتابه، وبدينه، وبالإسلام، وبالإخلاص، وبأمره، وبعهده، وبطاعته، وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وكلها صحيحة، فإن القرآن يأمر بدين الإسلام، وذلك هو عهده وأمره وطاعته، والاعتصام به جميعًا إنما يكون في الجماعة، ودين الإسلام حقيقته الإخلاص لله».

ومن الأدلة الدالة على ذلك قوله تعالى:

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103.

فهذه الآية تدل على أن السبيل الذي تسير عليه جماعة المسلمين ونتخذه منهجًا لها هو السبيل الذي يجب أن يُسار عليه ويتبع، وأن أي سبيل غيره فهو سبيل مؤذٍ يؤدي إلى الشر والفتنة، ومصير صاحبه إلى النار، فيجب علينا الأخذ بسبيل المؤمنين والحذر من غيره.

وأما الأدلة من السنة الدالة على وجوب لزوم جماعة المسلمين وحرمة الخروج عليها، فمنها: قوله - صلى الله عليه وسلم- في الحديث المخرج عند الأئمة مالك وأحمد ومسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا، يرَضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»، زاد الإمام مالك والإمام احمد: «وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ»، وهذا الحديث يدل على أن أصل الجماعة المانع من الوقوع في إرهاب الفتن هو: التوحيد، وكما يدل على أهمية الجماعة والاعتصام بحبل الله و الحذر من التفرق.

ومنها حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَها وَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لا فِقْهَ لَهُ، وَرُبُّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ».

يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى: «وهذه الثلاث - وهي: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين- تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة. وبيان ذلك:

أن الحقوق قسمان: حق لله، وحق لعباده، فحق الله أن نعبده ولا نشرك به شيئا، كما جاء لفظه في أحد الحديثين؛ وهذا معنى إخلاص العمل لله، كما جاء في الحديث الآخر.

وحقوق العباد قسمان: خاص وعام؛ أما الخاص فمثل بركل إنسان والديه، وحق زوجته وجاره؛ فهذه من فروع الدين؛ لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه؛ ولأن مصلحتها خاصة فردية.

وأما الحقوق العامة فالناس نوعان: رعاة ورعية؛ فحقوق الرعاة مناصحتهم؛ وحقوق الرعية لزوم جماعتهم؛ فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم، وهم لا يجتمعون على ضلالة؛ بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعا؛ فهذه الخصال تجمع أصول الدين».

ويقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «الثالثة -أي: من المسائل التي خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الجاهلية- في أن مخالفة ولي الأمر، وعدم الانقياد له -عندهم أي: الجاهلية- فضيلة ، وبعضهم يجعله دينًا، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وأمرهم بالصبر على جور الولاة والسمع والطاعة والنصيحة لهم ، وغلظ في ذلك، وأبدى وأعاد، وهذه الثلاث هي التي ورد فيها ما في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم- : «يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم»، وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : «من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية»، وروى أيضًا عن جُنادة بن أبي أمية، قال: دخلنا على عُبادة بن الصامت وهو مريض، فقلنا : أصلحك الله، حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال: دعانا النبي - صلى الله عليه وسلم- فبايَعَنا، فكان فيما أخذ علينا: «أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان». والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة ، ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا من الإخلال بهذه الوصية».

ويقرر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أمر الجماعة فيقول في كلام نفيس بديع: «إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة، ولهذا روي: «أن السلطان ظل الله في الأرض»، ويقال: «ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان»، والتجربة تبين ذلك.

ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض و أحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: «لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان».

إن المخرج من هذه الفتن يكمن في لزوم كتاب الله عز وجل وفي لزوم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، في الفقه في دين الله جل وعلا؛ فإن الإنسان إنما يؤتى بسبب جهله وقصور علمه فيضل، أو أن يؤتى بسبب غلبة الهوى على قلبه فيضل بسبب ذلك.

فهكذا عرف حذيفة - رضي الله عنه - الفتن لما سأل وتعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم- عنها وما الذي يقيه منها، فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم- قدوته وأسوته ودليله، -وهو كذلك-، وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون على بصيرة وعلم، وله منهج وطريق لا يحيد عنه حتى يموت ويلقى الله عز وجل وهو راضٍ عنه، وحتى يقي نفسه شر فتن الدنيا والخزي والنكال في الآخرة، وما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم- حذيفة -والأمة داخلة في الخطاب- من الوسائل العظيمة للنجاة من الفتن، وتأسيسًا على ذلك يحسن أن نتوسع في هذا المجال، لأن هذا هو موضوع المحاضرة والكتيب، فمما يقي من الفتن الثبات على المبادئ، فإن مبادئ دين الله هي الطريق المنجي -بإذن الله -عز وجل من الفتن، وقد تكفل الله عزوجل بحفظ هذه المبادئ ورأسها كتاب الله عز وجل، حفظه الله ظاهرًا كاملاً لا لبس فيه ولا اختلاف، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر

والنبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك».

كما أن من المخارج من الفتن ما أوصى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بقوله: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به»، فحث النبي - صلى الله عليه وسلم- على تجنب الفتن، والحذر من تناقلها والسعي وراءها، والعمل على الترويج لها ولأتباعها، لأنها مزلة قدم، ومجال للوقوع فيها، والسلامة لا يعدلها شيء.

يقول الإمام ابن حجر رحمه الله: «يعني: أن بعضهم في ذلك أشد من بعض، فأعلاهم في ذلك الساعي فيها بحيث يكون سببًا لإثارتها، ثم من يكون قائمًا بأسبابها وهو الماشي، ثم من يكون مباشرًا لها وهو القائم، ثم من يكون مع النظّارة ولا يقاتل وهو القاعد، ثم من يكون متجنبًا لها ولا يباشر ولا ينظر وهو المضطجع اليقظان، ثم من لا يقع منه شيء في ذلك ولكنه راضٍ وهو النائم» .

كما إن المخرج من الفتن قبل وقوعها: ضبط العواطف والتأني، وعدم الانطلاق من الانفعالات، فينبغي على العالم وطالب العلم إذا جاءه الشاب المندفع أن لا يزيده اندفاعًا، بل عليه أن يضبط عواطفه، وما أضل الشباب كثيرًا إلا مثل تلك العواطف العواصف، وغِيَر الثائرة التي يسير فيها الشاب بلا بصيرة ولا نور وعلم، بل حسب عواطفه وغيرته، فيضل ضلالاً بعيدًا.

كما أن من المخارج من الفتن والموانع بإذن الله من الوقوع فيها: القرب من علماء الأمة الربانيين، فهذا حذيفة - رضي الله عنه - في هذا الحديث تلقى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأخذ عنه ورجع إليه، وطلب وصيته، والعلماء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- هم ورثته ومرجع الشباب.

فمسؤولية الشباب: الرجوع إليهم والالتفاف حولهم، والرفع من شأنهم، وعدم التقليل من قدرهم وفضلهم، والصدور عن رأيهم والأخذ به؛ لأن العلماء ينظرون إلى الفتن بمنظار الشرع، ويبينون ويوضحون ما خفي منها، فالتقليل من شأنهم أو عدم الصدور عن رأيهم يجعل الناس في ظلماء مدلهمة، وفتنة قاتمة، لا يعرف أولها من آخرها، ولا شرها وضررها من خيرها، تلتبس فيها الأصوات، ويكثر الناعقون فيها بما لا يعرفون، ومسؤولية العلماء أن يعتنوا بهؤلاء الشباب، وينظروا فيما يتهددهم من مخاطر، فيبينوا لهم الحق، ويكشفوا لهم الشبه حتى لا تكون سببًا في وقوعهم وسقوطهم في الفتنة.

وقد أطلت في هذه الوقفة لأنها مقصودي من إيراد الحديث، والكلام فيها متعين، ولاسيما وأن المخاطب بهذه المحاضرة هم نخبة المجتمع الموجهون عبر المنابر، فلابد أن يدركوا أهمية هذه الوصية الجامعة المنجية من الفتن، ويجعلوها منطلقًا لسد أبواب الانحراف، والله المستعان.

الوقفة العاشرة:

هي في المخرج من هذه الجماعات والفتن و المآلات التي سردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حينما سأل حذيفة - رضي الله عنه - في هذا الحديث كيف المخرج إذا لم يكن جماعة ولا إمام، ففي الحديث: «قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لهم جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ كَذَلِكَ»، فبين المخرج وهو أن يعتزل الإنسان تلك الفرق كلها ولو أن يعض بأصل شجرة حتى يدركه الموت وهو على ذلك، فحُذيفة - رضي الله عنه - سأل عن حالة لم تقع في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم- ولكنها ليست مستحيلة الوقوع، فأرشده النبي - صلى الله عليه وسلم- ووجهه إلى المخرج منها، ولذلك فإن اعتقاد الإنسان لزوم الجماعة التي دل عليها الحديث، وهي جماعة المسلمين المنضوين تحت إمام له سمع وطاعة والذين هم على ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم- ، وأصحابه يجب أن يكون مستحضرًا إياه حتى وهو معتزل تلك الفرق بأنه إذا وجدت الجماعة الصحيحة الموافقة للكتاب والسنة فإنه سيدخل فيها ويكون من أهلها، ولذلك قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «الزموا هذه الطاعة و الجماعة فإنه حبل الله الذي أمر به وأن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة «.

يقول الإمام الطبري رحمه الله: «أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابًا فلا يتبع أحدًا في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك، خشية من الوقوع في الشر، وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها».

الوقفة الحادية عشرة:

أنه عند التأمل والتدبر في الحال التي سأل عنها حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - نرى أنها أيضًا غير منطبقة وغير موجودة ولله الحمد في هذا العصر، فأئمة المسلمين وحكامهم وأمراؤهم موجودون ومتوافرون وخصوصًا في هذه البلد التي هي تحت ولاية شرعية قوية مهابة الجانب، لها حقوق وعليها واجبات، تنفذ شرع الله عز وجل وتطبقه على الصغير والكبير، وفي جميع شؤونها الداخلية والخارجية، منطلقة في ذلك من كتاب الله عز وجل، وسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وهذا ما انتهجه ولاة أمرنا وأعلنوه ويعلنونه في كل مناسبة، قولاً وفعلاً، ويكونون بذلك القدوة الحسنة للمواطنين، ولا يعكر على هذا شبهة بعض المنحرفين بضرورة الخلافة الموهومة، أو الإمامة العظمى المزعومة، لأن هذا الشأن اختلف فيه من صدر هذه الأمة وتفرقت، والرسول - صلى الله عليه وسلم- أشار إلى هذا الخلاف، حينما أوصى وصيته التي فهم الصحابة رضوان الله عليهم أنها وصية مودع، فقال في حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة».

فقوله: «وإن تأمر عليكم عبد»: يشير إلى الانقسام واستقلال كل دولة بحدودها وأحكامها، وقد حصل هذا منذ عهد الإمام أحمد وما قبله إلى يومنا هذا، ونقل الإجماع على اعتبار استقلال كل دولة، يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «الأئمة مجمعون من كل مذهب، على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا؛ لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا، ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئًا من الأحكام، لا يصح إلا بالإمام الأعظم».

وقال الصنعاني رحمه الله : «قوله عن الطاعة: أي: طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه، وكأن المراد خليفة أي قطر من الأقطار إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية، بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلت فائدته، وقوله: «وفارق الجماعة» أي: خرج عن الجماعة الذين اتفقوا على طاعة إمام انتظم به شملهم، واجتمعت به كلمتهم، وحاطهم عن عدوهم»، وقال الشوكاني رحمه الله: «وأما بعد انتشار الإسلام، واتساع رقعته، وتباعد أطرافه، فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر، وأقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر»، ثم قال رحمه الله: «فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها»ا.هـ.

فإذا نحن في ظل الوضع القائم لا نعدم ولاية شرعية، ولا ينطبق علينا تلك الحال؛ لأننا في ظل هذه الولاية الشرعية التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيدها عزًا ونصرًا وتمكينًا وتطبيقًا لشريعة الله، كما نسأله عز وجل أن يعيد إلينا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز سالمًا غانمًا معافى، وأن يطيل في عمره على طاعته، وعمر سمو نائبه الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وسمو نائبه الثاني الأمير نايف بن عبدالعزيز على طاعته ويهيئ لهم من أمرهم رشدًا، ويجعلهم دعاة خير وبركة على شرع الله عز وجل وعلى أبناء هذا الوطن وأبناء المسلمين جميعًا في مشارق الأرض ومغاربها، وأسأل الله لي و لكم التوفيق والسداد، وأن يجعل ما قلنا في موازين حسناتنا، وينفعنا به ويهدينا لما اختلف فيه من الحق.

 

وقفات مع حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-
في الفتن وسبل النجاة منها « 2-2»
د. سليمان بن عبدالله أبا الخيل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة