Sunday  26/06/2011/2011 Issue 14150

الأحد 24 رجب 1432  العدد  14150

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

* أخي الدكتور إبراهيم بن عبدالله التركي: تطفَّلْتُ على مائدتِك في منهج (الفواصل)، و (المآزق)؛ فجزاك الله خيراً؛ لأنقل المآزق والفواصل لأُضحوكة (الربيع العربي) مطرِّزاً فواصلي بفاصلة من عندك، وفاصلة من أستاذنا سعد البواردي في تراسله مع ما قل ودل، وهو على نفس المنهج وإن لم يُدْرِج فواصلَه تحت عناوين، وإن لم يذكر الروابط تاركاً الأمر لاستنباط القارئ، ثم أُطَعِّم ذلك بفواصل من الخواجات، وكلها في دائرة أضحوكة (الربيع العربي)؛ وذلك في استراحة مؤقتة من متابعة (ديفيد هيوم) وأضرابه.

جاءت الأزمات العالمية المعاصرة بطائفةٍ تعتنقُ كل الأديان، وتنتمي لجميع البلدان، وتنطلق في مواقفها من كرهِ الحياة بادِّعاء محبتها، والتنكيد على الأحياء بحجة حمايتهم [التركي] (1).

قال أبو عبدالرحمن: هذه من (فواصل الفأل) بكتاب التركي، ونحن في أكثر من فألٍ عالقٍ بخيرات الربيع العربيِّ الآن!!.

قال أبو عبدالرحمن: أصعبُ من القتل على المؤمن الغيور ولا سيما العربي ذو النَّحيزة الفاضلة أن يكون بين غارٍ ونارٍ: غارِ عدوٍّ محارِبٍ لديننا طامعٍ في خيراتنا يهزمنا عسكرياً واقتصادياً ودينياً وثقافياً بخداعٍ سياسيٍّ لمناصرة الحريَّات بإجماع، ثم يسمِّي ذلك (الربيع العربي).. ونارِ مَن هم أبناء جلدتنا الذين يعيشون مسخاً من نعيم الممارسة الدينيَّة وكرامة التفكير الصادر عن عقلٍ حصيفٍ راشد؛ فيتلقَّفون هذه السخرية تلقُّفاً غبياً جباناً ساعِين إلى المزيد من الربيع العربي.. هذا الغار والنار يجعل المسلم يموت مليون موتة وإن كان في فَضْلة العمر؛ لأنَّ أمته مدمَّرة بكيد وسخرية الأغيار، ومدمَّرٌ هو من أبناء جلدته الذين انْمَاعُوا انْمِيَاعاً مع المفردات الساخرة المعادية، ولم يفرِّقوا بين ما هو علمٌ ضروريٌّ مادِّيٌّ للأمَّة بيننا وبينه مئات الأعوام من اكتشافاتٍ كونيَّةٍ في الجوِّ واليابسة والبحار مما يُمدُّ الأمَّة باكتشافِ قوانينَ كونيَّةٍ تفتح آفاق التجربة والاختراع في الصنع بتعاملٍ ذكيٍّ جادٍّ مع العقل بكل مَلَكَاته، وبين ما هو أوهامٌ تضليليَّةٌ متعمَّدةٌ في أمورٍ نظريَّةٍ نملك أصولها بذكاءِ العقل العربيِّ الفطريِّ كَعقلِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أَحْكَمَ نظام الإدارة والعسكريَّة وهو ابن المَدَر الذين هم على سمت البادية العرب لا الأعراب، وبزكائنا الديني الذي صَقَل موهبةَ أمثال عمر رضي الله عنه فكان مَضْرب المثل في العدل ومَضْرب المثل في حلِّ المعضلات مما عُرِف بفقه عمر كمسألة العَوْل العادلة؛ فاحْتَفَظَتْ بكل وارثٍ وإنْ نقص قليلٌ من سهمه وأبقى له الاسم الذي فُرِضَ له لمَّا أعالَ السهامَ إلى رقمٍ جامعٍ يُحقِّقُ اسمَ النصيب كالسُّدُسِ مثلاً، وكفقهه رضي الله عنه في تولِّي أطفال الذين أُبقوا على دينهم وأطفال المشركين لأنَّهم مسلمون على الفطرة لم يَبْلُغُوا الحُلُم الذي تكون به المسؤولية، وكَبَعْثِهِ العيونَ لمراقبة سيرة عُمَّاله في البلدان، وكَفِعْلِه في عامِ الرَّمادة، وكمحاسبته عُمَّالَه على ما جلبوه من مالٍ مبقياً لهم ما هو مفروض لهم من بيت المال مانعاً العمل من الاتِّجار، ولو طال عُمْر أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الخلافة لكان عمر رضي الله عنه تلميذه الأمين من جهة كَثْرة التطبيق ، ولولا فتنة الأغيار التي لم تجعل الأمر مستقرَّاً لعليٍّ رضي الله عنه لَعَمَرَت الآفاق بعبقرَّته في الفقه والنظام والسياسة، وطالما ضاق عمر رضي الله عنه بمعضلةٍ ليس أبو الحسن لها.. هذا نموذجٌ لمن تولَّوا الأمر بيعةً لا يستأثرون بشيئ من أمور الدنيا، ويتعلَّلون بلُقَيْمَاتٍ يقمن الصلب من الطعام الخشن، وهكذا يَكْتَسُون باللباس الخشن ما بين ثوبٍ أو ثوبين.. وإخوانُهم من المهاجرين والأنصار والذين لحقوا بهم، والذين رحمهم الله بفتح مكة التابعون لهم بإحسانٍ: كانوا على الذكاء الفطري والمعدن الكريم والزكاء الشرعي؛ فنشروا في بلاد الله الأمن والسلام وعمارة الأرض وحفظ الحقوق وإقامة العدالة ورفع المظالم.. والمؤمن اليوم والعربي اليوم يملك من الدين الذي أورثه الله مَن اصطفاهم من عباده، ويملك من النحيزة العربيَّة التي كانت إناءً ذهبياً لمكارم الأخلاق، ويملك من تجرِبته التاريخيَّة ما يستغني به عن التَتَلْمُذ الغبيِّ الجبان لمجمل نظريَّاتٍ إما ميتافيزيقيَّةٌ بالمعنى الرديئ في بعض النظريات التاريخية، وإما عدوانيَّةٌ تُلغي حق الله وابن جلدتنا يملك أصول التفكير في فهمه وحكمته، وإما ما هو استرحالٌ للعدوان كنظرياتٍ في الأدب والجمال والفلسفات لعزل المسلم عن مصدر هويَّته الذي هو سعادةٌ للبشرية.. وقلت مجمل النظريات لأن العقل العربي وعقل المسلم عامة في أمور الدنيا غير مطلقٍ ولا نهائيٍّ، بل هو محتاجٌ إلى كلِّ جديد يضيفه إلى معاييره الصحيحة؛ فالنظام والإدارة مثلاً فيها ما هو مشروعٌ باسمه، وفيها ما هو موكولٌ لمواهب المسلمين في اجتهادهم لتحقيق المقاصد الشرعية كتنظيمات الديوان وخطط المجاهدين من القبائل في الأمصار وكتنظيمات المسلمين في هذه المملكة مثل توظيف أحياء المدينة، وتنظيم نزع الملكيات، وتنظيم المرور ولوائح الجزاء والرسوم.. وأضرب المثل بنظام المرور في تحقيق مقاصد الفقه الشرعي؛ فمثلاً إشارة المرور الحمراء المسبوقة بالإشارة البرتقالية للتهدئة يترتَّب عليها أحكامٌ شرعيَّة، فمن كان فاقد العقل بسبب محرم وقطع الإشارة وقتل باصطدام سيارته فأقل ما يَرد عليه من حكمٍ تطبيق (شبه العمد) بعد إقامة حَدِّ المسكر عليه؛ لأنه عالم بمغبَّة تصرُّف السكران، ومَن فَقَد عقله بقَدَرٍ إلهيٍّ أو كان ساهياً فحكمه حكم المخطئ، ومن قطع الإشارة متعمداً فحكمه القود بلا ريب إلا إن كان ظانَّاً أن الشارع خالياً مِن عابرٍ ففوجئ بعابرٍ مسرعٍ فهذا حكمه حكم شبه العمد؛ إذن تنظيم المسلمين في إداراتهم وسياستهم فقهٌ استنباطيٌّ،اتِّخاذٌ لوسائل ناجحة لتطبيق الأحكام الفقهيَّة، وليس كذلك التنظيم الإداريُّ والسياسيُّ وَفْقَ دساتير وقوانين وضعيَّة.

* قتل بوشُ الأبُ والابنُ مئات الآلاف من الأفغان والعراقيين ودعواهما التحرير، وفجَّر الإرهابيون مساكن ومنتجعاتٍ آمنةً وحجَّتهم التحرُّر، وصارت الحروب المشروعة والممنوعة من دون أن تفرِّق بين طاغيةٍ ومجاهدٍ، وغازٍ ومقاوِم، وبات الفاصل هلامياً لا يُمَيَّز فيه (شارون) عن أحمد ياسين [التركي] (2).

** ونحن نعيش عصر التقدم التكنولوجي، وعهد الحضارة المادية: نتذكر عصر الانحطاط والظلام الماضي بشيئ من العذر؛ لأن تخلُّفه جاء نتيجة جهله، وفاقد الشيئ لا يعطيه.. ما عذر عصر غزو الفضاء وثورة المعلومات وأدبيات العلم والمعرفة في أن تكون الحرية الإنسانية لديه مقيَّدة، والمطالبة بها ضرب من الإرهاب، والاحتلال مشرَّع من لدن المنظمات الدولية؟؟؟!!![سعد البواردي] (3).

قال أبو عبدالرحمن: ذلك الظلام ليس على إطلاقه، بل النور باقٍ في عقيدة العامة، وفي السلوك التعبُّدي للجمهور، وفي بقاء الدين - مع خللٍ كثيرٍ في سلوك المجتمعات والدويلات الإسلامية - غيرَ مفصولٍ عن الدولة والحياة العامة؛ وإنما الظلام في الفراغ من العلم المادِّيِّ قوَّةً وضرورةً، ولا نأسى على ضياع بعض ما هو مُتْعة.. وهذا التخلُّف ليس قصوراً في الموهبة العربية وسلوك المسلم؛ فأسوأُ نموذجٍ في عصور الانحطاط الإغراق في صناعة البديع، وقد صُرفت المواهبُ في إبداع هذه النماذج المُمِلَّة؛ لإغراقها في الصناعة، وعبقرية هؤلاء في هذا المجال تفوق عبقرية عباقرة الاختراع اليوم؛ وإنما الاختلاف في الموضوع الذي صُرفتْ فيه تلك المواهب.

قال أبو عبدالرحمن: أسباب تخلُّف أمتنا في العلم المادي الذي يُحقِّق ضرورةً وَمَنَعَةً مُجْمَلٌ في التالي:

أولها: ضيق عطن وأفق بعض الفقهاء الذين ركدوا على علم الفروع التقليدية في الفقه، ومسارعتُهم في تحريم ما ليس لهم به علم، ولا تُحصى ضحايا الأفكار ممن حُوكموا فقتلوا أو ضُويقوا وأُحرقتْ كتبهم في الأندلس وغيرها.

وثانيها: عدم زكاء ( بالزاي) بعض رواد العلم المادي، بل بعضهم غير محمود الديانة كالحفيد ابن رشد صاحب أنْفَسِ كتابٍ في الفقه (بداية المجتهد)، ثم تَأَخَّرَتْ به الحال إلى الإلحاد والنفاق بعقيدة التجهيل، وأن الحقائق من نصوص الشرع لا يدركها إلا حكماء المنطق الأرسطي.. وقبله ابن طفيل في قصته الساذَجة (حيُّ بن يقظان) التي طار بها الحُواة كل مطار.

وثالثها: تقصير الدويلات في تأسيس الجامعات التي تُوزِّع التخصصات العلمية والثقافية بتوازنٍ في دائرة التربية الإسلامية؛ وإنما كانت بلاطات الدويلات ترعى اللغة والآداب، وتحتفي بمدائح الشعراء التي هي ضحك على الأذقان.. ومنهم جادُّون - كالحَكَم الربَضِي في الأندلس - ولكنهم اقتصروا على علوم الشريعة وما يخدمها من العربية وعلم الكلام والتاريخ.

ورابعها: تخلِّي العنصر العربي - في عهود الدويلات الأعجمية - عن القيادة، وتحوُّلهم إلى البداوة والسلب والنهب.. وقصصهم في قطع طرق الحاج، وفي قتلهم ونهبهم في الأماكن المقدَّسة أشياء فظيعة تُدمي القلوب.. والعنصر العربي (وهو لا يُفلح إلا خلف نبي) إذا كانت له القيادة فهو أعظم قيِّمٍ على العلم شرعيِّه وماديِّه.. يحميه، ويبذل له، ويُشجِّع عليه، ويشارك فيه بعض الأفراد.

وخامسها: أنَّه بعد انتقال العرب من الأمِّيَّة استولوا بسرعةٍ على علوم الأمم، وأبدع قلةٌ منهم في بعض العلوم النافعة كابن رشد وابن النفيس والرازي في الطب، وغيرهم في الكيمياء والهيئة والأحياء، وبعضهم أبدع في بعض علوم المتعة كزرياب والرازي وابن رشد في الموسيقى.. ولكنَّ هذا المدَّ توقَّف بما أسلفته من سوء السيرة وضيق عطن بعض المقلِّدة من الفقهاء، واستمرَّ التدفُّق في العلم النظري في الفلسفة وعلم الكلام والأصول النظرية للعلوم كأصول الفقه وأصول اللغة إلى حدِّ الترف.. ومع أن العرب والمسلمين أسقطوا العناية بشيئ من علوم الأوائل كالسحر والأساطير الوثنية إلا أنَّ الانبهار بالفلسفة والجدل الكلامي وبذور الأغيار من الكائدين للدين كأسراب الباطنية في الخفاء: حَرَفَوا كثيراً من أفكار مَن يريدون الإخلاص للحقيقة، والعامل الأكبر في هذا أن (نظرية المعرفة) لم تُحرَّر على ضوء طبيعة وقوى العقل البشري، ولم تُفْصل (النظرية الشرعية) بالشين والراء بقيودها التي رسمها مُنَزِّل الشرع جل جلاله عن عموم المعرفة البشرية؛ وإنما وُجِدتْ محاولاتٌ ذاتُ غَشاوةٍ مفرَّقةٌ في المنطق والفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه وعلم الجدل.. والتخلُّص من ركام الفلسفة وعلم الكلام والمنطق وفضول أصول العلوم كأصول الفقه لن يكون إلا بعزيمة جادة في تحرير نظريتي المعرفتين: البشرية العامة، والشرعية المقيَّدة؛ ففي الأُولى علم المعايير الثلاثة التي لا معيار غيرها، وهي الحقُّ والخيرُ والجمالُ، وقصر المعرفة البشرية على تحرير مسألة الوجود التي هي مصدر الحسِّ والعقل في تصوُّراته وأحكامه، وترك علوم الغيب (الواقع المغيَّب) التي يسمُّونها الإلهيَّات لعلَّام الغيوب جلَّ جلاله وَفْقَ دلالة المعرفة الشرعية المقيَّدة، والاكتفاء ببراهين الله في الآفاق والأنفس الدالَّة بيقينٍ لا شكَّ فيه أنَّ هناك غيوباً لم يصل إليها علمُ البشر، وأنَّ تلك البراهين دالَّةٌ على أنَّ المعرفة الشرعيَّة يقينٌ قطعيٌّ إذا صحَّت ثبوتاً ودلالةً.. وفي المعرفة البشريَّة يُخْلَص لكل حقلٍ علميٍّ أو ثقافيٍّ أصولُه الخاصَّة به، ويُسْقَط ركام الفلسفة وعلم الكلام بنظرية المعرفة التي ترصد الأصول المشتركة بين العلوم، وتنظِّم أدب الحوار (علم الجدل والمناظرة وآداب البحث).

* قال أبو عبدالرحمن: نجحتْ تَجْرِبةٌ كريمةٌ في إعادة العرب من بداوتهم ونهبهم وسوء أخلاقهم الطارئة (كما عايشها ابن السبكي في كتابه مبيد النعم ومزيل النقم) بحلفٍ عربيٍّ ينتمي إلى الأمَّة لا إلى العشائر بقرارٍ سلطانيٍّ، وهو حلف آل فضل من جنوب تركيا إلى جنوب جزيرة العرب مع أحلاف سابقة كحلف بني عُقيل في شرق الجزيرة، وحلف الأشراف وآل مرا من آل فضل الذي جمع عرب المملكة ووسطها؛ فكتب الله على أيديهم النصر العسكري على التتار الذين كادوا يستأصلون المسلمين، ثم انفلت السلك، ولم يرتبط التجمُّع العربي بالعلم، وعادت بداوة العشائرية، وتولَّى القيادة الأتراك في الخلافة العثمانية التي من أمجادها محمد الفاتح رضي الله عنه.

** قال أبو عبدالرحمن: كانت للعرب - سلفيِّهم وطائفيِّهم - نشوات انتصاراتٍ عسكريةٍ خاطفة كغزوات سيف الدولة ابن حمدان في المشرق وابن أبي عامر في الأندلس لبلاد الروم، ثم انغماسهم في الترف الذي جلبته لهم مغانم ومكاسب الغزوات الخاطفة، والتغني بأمجاد النصر بشعرٍ كذوبٍ يبصق على قائله القادة الأوائل بعد عبدالله ورسوله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وسعد.. إلخ رضي الله عنهم جميعاً.

*** قال أبو عبدالرحمن: كان القوم الذين مُنُوا بغاراتٍ خاطفةٍ يُرَتِّبون أنفسهم بتجمُّع أمَّة؛ فانتهى الأمرُ بتصيُّد أمراء الطوائف المترفين الجبناء من بلدانهم كتصيُّدِ الفراخ من أعشاشها؛ فكانت الكارثة بسفر الخروج منذ سقوط غرناطة مع بقاء المشرق في مَنَعةٍ ومقاومةٍ على أيدي آل عثمان إلى أن كانت كارثة الحربين الكونيتين.

* في عصور الانحطاط كان العرب وعامَّة المسلمين كالضفدعة في البركة تظنُّ أنَّ الكون كله هو جدران البركة، ولم يكونوا على بصيرةٍ قطُّ بالمدد العلميِّ المادِّيِّ في الغرب الأوربي الذي مهَّد له ما ذَلَّله العرب من العلوم مما تلقَّفه علماء القرون الوسطى في الغرب الأوربي؛ وإنما البديل - والعوض عند الله - كُتُبُ البديع المشحونةُ بالغزل بالمردان كما هو عند الأدباء المعاصرين لابن حجة الحموي.

** قال أبو عبدالرحمن: الحرية الإنسانية دون الوصول إلى علمٍ مادِّيٍّ يحقِّق لنا قوَّةً ندافع بها عن أنفسنا لن نلتمسها من أعدائنا بمبادئ أخلاقية، بل الباب موصدٌ، ومَن حقَّق شيئاً من القوَّة المادية فذلك عن تسامحٍ من الدول القويَّة وَفْق أيديولوجيَّةٍ مُعَيَّنةٍ محاصَرة بمراقبتهم ولا تُروِّعهم؛ وإنما هي أداة ضغطٍ وتخويفٍ لأهل البلاد ذات المواد الخام والميزة الاستراتيجيَّة؛ وبهذا الكسر كانت هجرة العقول العربية، والواقع أنَّ ذلك غربةٌ لا هجرة مشروعة.. وها نحن اليوم نعيش مأساة علماء الذرَّة والفيزياء.. إلخ في العراق؛ فقد قتل أكثرهم اغتيالاً في بيوتهم، ثم قضوا على البقية الذين أبوا الهجرة لدعمِ معامل الأعداء.

*** والدنا الكريم سعد بن عبدالرحمن البواردي: لا تعجب من تشريع الاحتلال من المنظَّمات الدولية؛ فإنَّه لا أخلاق مع منطق القوَّة العمياء التي أهدافها منافع تحليليَّة نفعيَّة، وإنَّما يعصم القوَّةَ مبادئُ الدين الصحيح في ثبوته ودلالته.. والمؤمن اليوم، والعربيُّ الغيور يُقتل في اليوم أكثر من مرة ؛لأن وَقْع ألمِ السخرية أعظم من وقع السيف.. نعم نحن نقتل في اليوم أكثر من مرة؛ لأنه في كل ساعةٍ يرنُّ في آذاننا السخرية اللاذعة من أعدائنا بأننا نعيش ربيعاً عربياً، ونقتل في اليوم أكثر من مرة لأنَّ أغبياء أبناء جلدتنا يتغنون بهذا الربيع وهم يعيشون احتراق بلدانهم، وخلوَّها من حكوماتٍ منظمةٍ رادعةٍ، مع تغطية الأرض بالجثث، ولا يعلم إلا الله ماذا تستقرُّ عليه الحال من كيد الأعداء، ولكنَّ المحقَّق أن العرب والمسلمين سيظلون نصف قرنٍ إلَّا أن يشاء الله يُرَمِّمون منشآتهم، ويستصلحون مواردهم، ويُعِدُّون كوادرهم البشرية بعد تلك الخسارة الفادحة في الأرواح، ويرزحون تحت نِير الفواتير لتسديد حقوق الحماية الأجنبيَّة (؟؟؟!!!)، وفواتير الخبرة الأجنبيَّة لاستصلاح المنشآت والموارد وتعليم الكوادر في حدودٍ معيَّنة.. والمحقَّق أيضاً أنَّ كلَّ جارٍ لإسرائيل في عنق الزجاجة، ولا مطمع لنا في كسر حاجز العلم المادِّيِّ الذي ينتج قوَّةً باهرةً أقلُّ ما فيها طائرةٌ بلا طيار!!.. وإنما نملك إحسانَ التفكير في التعامل السياسي بالمعادلة بين المصالح والمفاسد، وإحسانَ الحوار الدعوي مع مَن نطمع أن يستيقظ ضميره بما عنده من أثارةٍ صحيحةٍ في دينه، ونثق بدفع الله الناسَ بعضَهم ببعضِهم، وما ينالنا من بطشٍ بسوء تصرُّفنا فدواؤه الرجوع والصبر، وما ينالنا بلا سوء تصرُّف منا فدواؤه: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) بانتظار الوعد الحق اليقيني بأنه سيزيل البلوى عن المسلمين بعد امتحانه لهم، واليقين بأن المتمسِّك بدينه ولو لم يملك إلا حريةَ النية داخلٌ في الطائفة المنصورة التي لا يضرُّها من خذلها إلى يوم القيامة.

* والدنا سعد البواردي: إننا نقتل كل يوم أكثر من مرة من سخريةٍ أخرى ترنُّ في آذاننا عن السعي العالمي من أجل التسوية السلميَّة بين العرب وإسرائيل، ثم نجد هذه التسوية أن يرضى العرب قسراً بتشريد العرب في بقعةٍ لا تفي بإيوائهم ودعك من غذائهم، والرصاص الإسرائيلي يهدر يومياً وهو حقٌّ مشروع، ودفاعُ الفلسطينيِّيْن بسلاحٍ بدائيٍّ إرهابٌ.. إنَّ طموح العالمين الغربيَّيْن سابقاً هو ما حقَّقته حدود إسرائيل عام 1948م، ثم زاد فرحهم وبطرهم بحدود عام 1967م؛ فكان اتجاهُ العالَمَيْن الغربيَّيْن وقوفَ استقرار إسرائيل الإجرامي عند هذا الحدِّ بعد جعل الجيران في أعناق الزجاج، وهذا ما استقرَّت عليه أدلجة القادة من أمثال نيكسون وكارتر إلى الرئيس الآن، وأعلن ذلك أكثر مِن مرَّة، ولكن عاصمة النفوذ العالميِّ (تل أبيب) أرغمت الرئيس على التراجع في خطابه التاريخي ونتنياهو خلفه يقول: (شكراً سيادة الرئيس!!!)، ثم يعلو التصفيق في القاعة؛ فالحمد لله في السَّرَّاء والضَّرَّاء، وله جل جلاله الحكمة البالغة، والله محقِّق نصره للمسلمين إذا أخلصوا دينهم لربِّهم وتحرَّروا من دخيل المذاهب الظلامية الموروثة والطارئة.

** قال أبو عبدالرحمن: طالبُ العلم الجادُّ يكتب كثيراً، وينسى أكثر ما كتب، ويحفظ قليلاً مما كتب، ويستحضر ما يريد أن يكتبه؛ لهذا لا يؤمَن عليه التناقض إلا مَن كان مُنْطَلِقاً من أصولٍ حرَّرها من نظريتي المعرفة البشرية والشرعية؛ فهذا يَبعُد أو يقلُّ أن يتناقض؛ لأن من أحكم أصوله اتَّسقتْ فروعه، وأما مَن يكتب كيفما اتفق، ويكون ابنَ ساعتِه؛ فهذا لا تثق له بأصلٍ ولا فرعٍ.. وإحكام الأصول مَخْرَج من البلاء في مثل الطارئ من مآزقِ الربيع العربي.

*** سمعتُ أن ملكاً أمر بقتل أسير؛ ولما عرف ذلك المسكين أنه هالكٌ لا محالة أخذ يشتم الملك بلغةٍ غريبةٍ، وينال منه بأقذع الألفاظ.. ومما هو معروف أنَّ كلَّ مَن يقطع أمله من الحياة لا يبالي أن ينطق بما ينطوي عليه فؤاده [سعدي الشيرازي] (4).

* قال أبو عبدالرحمن: لعلَّ القصَّة ممَّا عملته خيالاتهم، ولكنَّ العبرة منها حقٌّ بالنسبة لغير المؤمن، وأما المؤمن فيتفادى أولاً أن يكون أسيراً، بل يكون مقداماً يقتل قِرْنه أو يستشهد، وإذا أُسِر لم ينطق إلا بما يأمره به إيمانه، ولا يكون في فؤاده شتائم؛ لأن المؤمن غير صخَّاب ولا سبَّاب، بل يقول الحكمة، ويدعو، ويحتسب، ويفرح بلقاء ربه.. وكل من باعد بين السبابة والوسطى عاريَ الصدر يردِّد (سلميَّة) أمام قوَّةٍ لا قِبَل له بها: فهو أسوأ أسيرٍ غير معذور؛ لأنَّ الأسير تحت رحمة السلاح.. وفي الدين ومنطق العقول السليمة تحريم السعي في الفتنة، ولا أعلم وجهاً شرعياً لهذه التظاهرات العارية أمام الرصاص التي نشاهدها الآن من صراخٍ وأصباغٍ ورقصٍ وكلماتٍ بهلوانية تثير الغثيان (والأمة لا تُنصر بهذا)؛ فكل مشارك يجرُّ إخوانه إلى تدمير البلاد والعباد؛ وذلك هو الفتنة التي يُحذِّر منها الدين والعقول السليمة، وأما استصلاح الدولة والمجتمع فلذلك معادلةٌ شرعيَّةٌ كريمةٌ بين التغيير والصبر؛ فمن كان في دولةٍ لا تحكم بشرع الله، وهو لم يُفتن في دينه بأن يكون في وضعٍ يؤدِّي فيه دينه بحرية، أو في وضعٍ يؤدِّي به دينه وفق قاعدة: (إذا أمرتكم بشيئ فأتوا منه ما استطعتم)، وهو لا يملك مع أبناء ملته عدَّةً وقوَّةً مكافئةً أو أعلى إلَّا أن يستنصر بعدوٍّ على عدوٍّ: فيجب عليه الصبر، ويحرم عليه السعي في الفتنة.. ومع هذا يرفض ما أكره عليه من كفر: إما بالصبر واتِّقاء الأذى بما في سورة النحل عمَّن أُكْرِهَ وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمان - هذا إذا لم يستطع الهجرة -، وإن صدع بالإيمان وصبر على التعذيب والقتل فذلك في قمة الشهداء، وفيما سوى ذلك يسعى بعقلٍ سياسيٍّ ودعوةٍ عاقلة على منهج المعادلة نفسها.. وأما ردُّ عدوٍّ يريد استئصال الأمَّة بعدوٍّ آخر حظه مصالح دنيوية فذلك جائز في الضرورة القصوى إذا عجز جهد الأمة عن الدفاع عن نفسها شريطة أن يكون القرار بيدهم بعد الله وهذا بلاء غير سوء التدبير في القيام على الدولة.. وأما السعي في امتداد الدعوة إلى الله في الآفاق، والسعي إلى مهاجمة العدوِّ لا مدافعته عن البلاد فحكم الشرع فيه واضحٌ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارجعوا فإنا لا نستعين بمشرك).. وأما من كان في ظل دولة مسلمة فلا يحل له الخروج على دولته لا بالتجمُّع ولا باليد ولا باللسان ولا بالسلاح حتى يرى كفراً بواحاً مُشرَّعاً له،وله عليه من الله برهان؛ فيرفض ما أُكْرِهَ عليه، وينضم إلى قوَّةٍ مسلمةٍ خالصةٍ إذا ملكت العُدَّة للتغيير.. وأما النقص البشري في كل حكومةٍ مسلمةٍ فيلزم معه الولاء للدولة، والدعاء لها، والصدع بالحق سراً لا تأليباً، والتكتُّل مع ذوي العلم والفكر للمناصحة سراً، والصدع بالحق، والصبر على الأذى أو قطع الحظوظ الدنيوية بعقلٍ ومعادلةٍ وولاءٍ، ويَحْرم عليه، ويُخْرِجه عن الجماعة (ويد الله مع الجماعة) إذا كان نصحه تأليباً علنياً.. وعلماء الأمة الربانيون جاهدوا مع حكوماتهم، والتمُّوا معهم في الجُمَع والجماعات، وأنكروا المنكر بعقلٍ وسياسة، وخصُّوا كثيراً من دعائهم لهداية ولاة أمرهم.. والعلماء يتفقَّهون من الحكام ما يجهلونه من وقائع السياسة، والحكام يتفقهون من علمائهم أحكام الديانة، ويتعاون الفريقان على تطبيق الأحكام على الوقائع؛ وبهذا تحصل المعادلة بين المصالح والمفاسد، ويفقه العلماء ما تقدر عليه الدولة والأمة الآن وما لا تقدر عليه، وما حتَّمه عدمُ القدرة فعلاجه الجانب الدَّعوي العاقل الهادئ من العلماء والمفكرين والمربين والمدرسين؛ لتكون الأمة يداً واحدة تجاه الضغوط، ولإظهارِ مطلبِ الأمة كلها أنها تريد هويتها لا ما يُراد لها؛ لأن وعد الله وإيعاده ابتلاءً: أنْ لا يُسَلَّط على المسلمين عدواً من سوى أنفسهم.. وفي تاريخنا الإسلامي المشرق عبرة بما جرى حال الضعف من مهادنات ومصالحات وتنازلات.

** قال أبو عبدالرحمن: قام شاهد العيان على أن كل ثورات الربيع العربي لم تنجح، ولم تقم على جهد الأمة بهويتها الدينية والتاريخية، ويُخشى الردُّ إلى ما هو أسوأُ من الحالة الأولى؛ وإنما الأمل - مع شدة من الخوف والشفقة وإحباطٍ أعانيه شخصياً بسبب المراهنة على حرب برِّية تكون بها مأساة العراق أو تقسيم ليبا على أقل الأحوال؛ لأن متابعتي للمتغيِّرات جادَّة - في تحقيق الثورة الليبية كسباً دينياً ودنيوياً مع فداحة الخطب وغلاء الثمن؛ لأنها ثورةٌ جماعيَّةٌ بالجهاد لا بالصدور العارية، ولأنهم أمَّةٌ واحدةٌ ليس فيهم تعدُّدية ذات أثر إلَّا ما يُخشى منه مستقبلاً من زرع التعدُّدية والله المستعان والملجأ إليه جل جلاله؛ ولأنهم عانوا إكراهاً وبطشاً في دينهم ودنياهم من صمَّام الأمان بلسانه لإسرائيل وأوربا وحوض البحر الأبيض المتوسط.. إنك تدخل من الذهيبة عن طريق تونس إلى ليبيا فأوَّل ما يقابلك بلدٌ تُغْمِض بلنبة كهرباء صفراء مثل سراج (أبو دنان)، ثم تمشي أكيالاً في ظلمةٍ حتى تأتي إلى أختها؛ فإن كنت في نهارٍ أدمى قلبك بَأْساء وبؤس أهل القرية في أغنى دولةٍ مع قلة السكان، وإلى لقاء في الأسبوع القادم إن شاء الله، والله المستعان.

 

فواصلُ في مآزِق الربيع العربي (1 - 10)
ابو عبد الرحمن بن عقيل الظاهرى

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة