Thursday 17/11/2011/2011 Issue 14294

 14294 الخميس 21 ذو الحجة 1432 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

لو رجعنا بالذاكرة إلى ما قبل أحداث «الربيع العربي» لوجدنا في كتابات السياسيين والمهتمين بالشأن العربي والإسلامي العام؛ عدةَ تساؤلاتٍ مهمة.. كان أحدها؛ السؤال عن خط مسار الأمة العربية والإسلامية، ومآل قضيتها الكبرى «فلسطين»، ومآب قضاياها الحضارية والتنموية الأخرى (كالاقتصاد، الصحة، التعليم، الإعلام...الخ).

هل وصل الحال بخط مسارها الحضاري إلى القاع الذي سيعقبه الترقِّي والتصاعد؟ هل ما كانت تعانيه الأمة من التفرق والتشتت والخلافات المخجلة يعد بمثابة الخيط الأسود من الليل الذي سيعقبه الخيط الأبيض من الفجر؟

عدة تساؤلات من هذا النحو، كانت أغلب إجاباتها تدور حول وجهتين اثنتين:

الأولى: أنه لا أسوأ من تلك الحال التي وصلت إليها الأمة من الضعف والتفرق... وبالتالي؛ فإن وجودَ نبضاتٍ من التململ، والحراكِ الإيجابي، والوعي العام بين أفراد الأمة؛ سيجعل في مستقبل الأيام ما يدعو إلى الفأل والاستبشار.

الثانية: أن زمن الخلافات العربية والركود الاقتصادي والحضاري العام، والمتزايد منذ أكثر من ستة عقود؛ سيمتد أيضاً في المستقبل المنظور، خاصة مع هيمنة القوى الكبرى، ونفوذها المتسلط على مصالح الأمة العربية والإسلامية، والنشاط التوسعي المتزايد للكيان الصهيوني في الاقتصاد والسياسة والاستيطان.

حتى جاءت وقائع الأحداث العربية لتضع تحت التساؤلات خياراتٍ أخرى للإجابة! وأحياناً قد تكون أكثر تطرفاً في كلٍ من الوجهتين..

ومع الفأل الكبير الذي يتملَّك وجدانَ كل عربيٍ مسلم بصدق الوعد الإلهي، و»اليقين المطلق» بأن مآل الأمة شافٍ لصدور قومٍ مؤمنين، وأن الدالَّة لأصحاب الحقوق المشروعة على حساب الأدعياء؛ إلا أن القلق حيال مكتسبات الأمة له حظ من النظر في قلوبِ الغُيُرِ من أبنائها. خاصة ونحن نعيش زمنَ الاتصال والتواصل الرهيب الذي تنهزم في ساحته ذَوَاكرُ التاريخ، وتتراجع فيه أدوار النخب وتجربتهم أمام فورة الجماهير وحماستها... (وهلِ المجرِّبُ مثلُ منْ لم يعلمِ؟).

وكما أن الأحداث العربية أحدثت في نفوس البعض نبضاتٍ من البِشْر والاغتباط؛ فإنها أحدثت أيضاً عند آخرين نبضاتٍ أخرى من القلق والتوجُّس حيال المصالح العامة والمكتسبات. وكما أن للتفاؤل دواعيه ومبرراته التي لا يمكن تجاهلها، فإن للقلق أيضاً ذرائعه ومسبباته. فوعيُ الشعوب تجاه المصالح، وشعارات الوحدة والاعتدال، وتعبيرها السلمي عن رفض العنف والظلم والطغيان، وسعيها في رفع الضرر وتحصيل الحق الطبيعي للعدالة والكرامة والمساواة؛ كل ذلك وغيره دواعٍ للتفاؤل. كما أن يقظة العدو المتربص، وتاريخه الطويل «الموثق» في المكائد السياسية و»الاحتلال الاقتصادي»، وقوته في التخطيط والتنفيذ، ووجود (السماعون لهم) داخل الصف العربي المشتت، كل ذلك دواعٍ أخرى للقلق!

إلا أن أخطر ما يواجه الأمة العربية اليوم هو الخطاب الجامع بين التغفيل والتخذيل. الخطر الحقيقي اليوم كامنٌ في تغييب الوعي، وتزييف الحقائق، وتغفيل الأمة عن الحجمِ الحقيقي لتفاصيل المطامع الخارجية، والسنةِ الكونية في التدافع: (ولولا دفع الله الناسَ بعضهم ببعض... الآية). بجانب خطر آخر، وهو خطر تخذيل أبنائها، وتصويرهم بأنهم أضعف من خلافاتهم، وتصوير عدوهم بأنه أكبر من إرادتهم وعزمهم إذا اجتمعوا بعلم وعمل.. وكما قيل: (مَن خوَّفك لتأمن؛ خيرٌ ممن أمَّنك لتخاف).. نشرُ الوعي بالحقائق، والأفكار الصحيحة المتزنة تجاه المصالح هو التحدي الكبير «والقديم» أمام المصلحين.. يؤكد جوزيف ناي مدير مجلس المخابرات الوطني الأمريكي في كتابه «القوة الناعمة» دورَ الوعي، وخطر الأفكار القابعة في عقول الناس، فيقول: (بالفكرة وحدها يمكن اختراق أقوى الأنظمة...). يجب أن تعي أجيال أمتنا العربية أن كل الحضارات الإنسانية؛ كان فيها الوعيُ والشجاعة العلمية والقوة العملية من أبرز صفات جيلها الباني، كما أن الجبن والجهل المركَّب من أهم سمات جيلها الضعيف المنغلق..

والمتأمل في سنن المدافعة الربانية يجد أن الله سبحانه قد رتب للحضارة أسباباً، وجعل عليها سنناً ونواميس. الأخذ بها خطوة في طريق البناء الحضاري للأمة. كما قال سبحانه: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم).. نعم! للظلم والاستبداد منقلبٌ مخزٍ ونهاية، ولانهيار الدول وسقوط الحكومات أسباب وسنن معلومة، قد استجمعتها «نظمٌ عربية» واجهتْ وتواجه الآن العواقبَ المباشرة لجهلها واستكبارها. ولكن السؤال المشروع هنا: هل أخذت «الشعوب» العربية والإسلامية بأسباب الحضارة والنهوض؟

***

في خضم هذه الأحداث التاريخية والمتسارعة، والاضطرابات السياسية والاقتصادية، ووقائع الاقتتال واسترخاص الدم العربي؛ يجد المتابعُ المقارِنُ لهذه الأحداث؛ أن «المناسبة الوطنية» تمرُّ في (المملكة العربية السعودية) والدولة بحمد الله آخذة في مزيد من الترقي والتصاعد، ومزيد من أسباب التصحيح والحضارة.. مع كل هذه الظروف المحيطة، ورهق التحديات.

عندما يؤكد خادم الحرمين الشريفين في أكثر من محفل: (أن الثروة الحقيقية لأي أمة هي أبناؤها)؛ فإنه أيده الله لا يطلق وعوداً وشعارات، بل يعبِّر عن إرادته الملكية الصادقة في البناء والإصلاح وحفظ مصالح الدولة ومواردها.

كإطلاقه مشاريع التطوير في المرافق المختلفة للدولة، والمشاريع العملاقة في خدمات المشاعر، ومدن الاقتصاد، والطاقة، والتعليم الجامعي، وحَزْمِه أيده الله تجاه الفساد والمفسدين «كائناً من كانوا» (اللفظ الوارد في كثير من أوامره السامية)، وقطعه الطريق أمام حملات «التشويه المنظَّم» لقيمنا وحضارتنا بتبنيه أيده الله خطابات الحوار الوطني والعالمي، لإزالة سوء الفهم بين أتباع الديانات والثقافات الأخرى..

كل ذلك يجعل المتتبع لهذه المشاريع الإصلاحية المباركة يعلم أن سعيه أيَّده الله لتعزيز مكانتنا الاجتماعية، وحضورِنا الثقافي والحضاري لا يبتدئ في المؤتمرات والشعارات والمحافل الخطابية؛ وإنما ينهج قاصداً وجدانَ الناشئة، وقناعات الأمة، ووعي الشباب.. فالوعي الرشيد، وما يستتبع ذلك من العمل؛ من أعظم ما تُسدَّدُ به الجهود، وتحفظ به الحقوق والمكتسبات.. (فالرأي قبل شجاعة الشجعان).

ولأن أمتنا وبلادنا المباركة جزءٌ من هذا العالم كمؤثِّرٍ وأثر؛ فإن الحد الأدنى من (الوعي) يستلزم عرضَ شيءٍ مما لدى الآخرين في ثقافتهم وطرائق تفكيرهم، وضم ما يمكن الإفادة منه في المشتركات العامة إلى المعارف الأخرى المهمة (كعلوم الاجتماع والإدارة والسياسة...)، لما في ذلك من الأثر الكبير على أدوات الحوار والتواصل، والأمن الفكري، وبناء المصالح العامة والمشتركة..

ويكفي أن «مجرد الوعي» بأحوال الأمم الأخرى مبدأ مشروع في قيمنا. فالله عز وجل أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم آياتٍ (مكية) تنبِّئه بحال أقوامٍ بعيدين عنه، وما تؤول إليه أحوالهم؛ ولمَّا يستكملْ مهمتَه المكيةَ بعد. فقال سبحانه: (ألم* غلبت الروم* في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون* في بضع سنين... الآيات). وفي هذه المبدأ القرآني وما يتبعه في التطبيق النبوي وسير الخلفاء؛ كثيرٌ من العبر والدروس.. وليس هذا مقام تفصيله.

***

في عام 2007 أصدر ألبرت آل جور (نائب الرئيس الأمريكي في عهد بيل كلينتون في الفترة 1993-2001 ومنافس بوش للرئاسة عام 2001) كتاباً بعنوان «هجوم على العقل»، وقد صدرت نسخته المترجمة إلى العربية في عام 2009 عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث ومكتبة العبيكان للأبحاث والنشر بالرياض، وقد شدتني حينها (وجهة النظر) الجريئة التي ضمَّنَها المؤلفُ هذا الكتاب حول كثير من القضايا السياسية والاجتماعية. كونها جاءت من شخص خبير ومطلع.

ولاعتقادي أن في هذا الكتاب ما يستحق أن يُعرض - ويذكَّر به - في الظرف العربي القائم خاصة، ولأن الأحداث السياسية والاجتماعية والتاريخ بشكل عام؛ (متصل الحلقات) كما في تعبير المؤرخ العراقي عبدالعزيز الدوري رحمه الله، ولأن (قانون المصادفات لا مكان له في عالم السياسة) كما في علوم الدبلوماسية والاجتماع السياسي، وأيضاً.. لمرور نحوٍ من سنتين على صدور الكتاب دون أن أقف على عرضٍ لبعض أفكار الكتاب المهمة؛ فإني أحببت أن أعرض هنا (بعضاً) من أفكار هذا الكتاب، وأن أكتفي بنقل وجهةَ نظرِ المؤلف تحت أربعة عناوين مختصرة مع أربعِ فقراتٍ خاتِمة، وذلك بناء على قراءتي الأولى للكتاب، مع نصوص ونقول أخرى متفرقة. ليكون هذا العرض جزءاً متمِّماً للمقدمات المذكورة في الجزء الأول منه، والمنشور في العدد (14078).

***

غزو العراق والمصالح القومية

يقول رئيس الوزراء البريطاني بلمرستون (عام 1848م): (ليس لدينا حلفاء دائمون، وليس لدينا أعداء دائمون، مصالحنا هي الدائمة، وواجبنا هو إتباع هذه المصالح). ويُنسب للرئيس الأمريكي بوش قولُه: (حدود الولايات المتحدة الأمريكية هي نهاية حدود مصالحها).. بحثُ كلِّ دولة عن مصالحها ومصالح شعبها واجبٌ أوَّلي، تعارفت الدولُ فيما بينها على اعتباره ومراعاته وفق مبادئ النظام الدولي. صحيحٌ أن المجتمع الدولي (لا تحكمه المُثُل)؛ إلا أن ذلك لا يبرر مطلقاً التعدي على مصالح الشعوب الأخرى، وانتهاك سيادة الدول، واستنزاف الموارد، أو اتخاذ فكرة ميكافيلي: (الغاية تبرر الوسيلة) مبدأً لتبرير المكائد السياسية، والخبائث الاقتصادية، فضلاً عن الحروب المباشرة!

يقول المؤلف (ص158): (لقد أخبرنا الرئيس أن الحرب هي خياره الأخير، لكن الواضح الآن أنها كانت دوماً هي خياره الأول، فقد أكد وزير خزانته السابق بول أونيل، أن العراق كانت «تتصدر» موضوعات أ ول اجتماعات لبوش بمجلس الأمن القومي بعد عشرة أيام فقط من توليه السلطة «وكان الأمر هو إيجاد طريقة لتحقيق ذلك»). ويبيِّن (ص288) أن وعود بوش الانتخابية باتباع سياسة خارجية متواضعة، وتجنب أي محاولة «لبناء الدول»؛ تحوَّلت إلى (بحثٍ منهجي سرِّي عن أي حجة لغزو العراق في أقرب فرصة).

ويقول (ص177): (نعرف من وثائق يرجع تاريخها إلى أسبوعين فقط من يوم تولية بوش أن مجلس الأمن القومي استعرض السياسة الإجرائية لدول الشر بما فيها العراق مع مجموعة عمل تشيني السرية المختصة بالطاقة التي تتصل بالاستيلاء على حقول النفط والغاز الجديدة والموجودة فعلياً.. منها خريطة مفصَّلة تفصيلاً دقيقاً للعراق، لا تُظهر مدنها ولا الأماكن التي يعيش فيها سكانها، وإنما تظهر بتفصيل بالغ موقع كل آبار النفط المعروفة والمتوقعة في البلاد...).

وقبل تولي بوش للرئاسة عام 2001؛ يذكر المؤلف أن ديك تشيني ذكر في حديثٍ عام وجَّهَهُ إلى معهد البترول في لندن عام 1999 أنه: (في العقد القادم سيحتاج العالم - من وجهة نظره - إلى خمسين مليون برميل إضافي من النفط يومياً، وتساءل تشيني: من أين ستأتي؟ ثم أجاب نفسه قائلاً: من الشرق الأوسط... فالجائزة الكبرى لا تزال هناك).

ما ذكره المؤلف في هذه النقول، وكثيرٍ جداً من الإشارات والعبارات الأخرى في كتابه؛ تستدعي تساؤلاً ملحاً عن حقيقة وجود ترتيب مسبق لغزو أمريكي للعراق؟ يقول تريتا بارزي الخبير في السياسة الخارجية الأميركية كالجواب عن هذا التساؤل في كتابه «حلف المصالح المشتركة» (ص331): (في سبتمبر 2000 أي قبل عام من هجمات 11سبتمبر... كان تركيز ديك تشيني ودونالد رامسفيلد.... منصباً على العراق عندما اجتمعوا في مؤتمر للمحافظين الجدد تحت عنوان مشروع القرن الأمريكي الجديد. لصياغة وثيقة تحدد رؤيتهم للشرق الأوسط، والتي تضمَّنت هجوماً على العراق.. وكان تقريرهم يحمل عنوان «إعادة بناء دفاعات أمريكا، الإستراتيجيات والقوى والموارد لقرن جديد»... تم نشر التقرير وتوزيعه على نطاق واسع داخل الأوساط السياسية في واشنطن. كان التحرك ضد العراق جارياً على قدم وساق... الخ).

وفي كتاب «أسئلة مقلقة حول إدارة بوش» يذكر مؤلفُه اللاهوتي دفيد راي غريفين أن (... هذه الدلائل تشير إلى وجود خطة مسبقة أدت لهجمات 11-9 وُضعت من قبل متنفذي بوش من أجل القيام بالضبط بما يقومون به الآن على أساس ما وقع في 11-9).

وفي «معركة السلام» (ص49)؛ يقول الجنرال توني زيني رئيس القيادة المركزية للقوات المسلحة الأمريكية: (في يوم 11 من فبراير 2003 قبل أن نبدأ حرب العراق بأسابيع قليلة تم استدعائي أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ للإدلاء برأيي في الحرب المقبلة... كانت الخطة قد وَضَعَتْها القيادةُ المركزية، وقد كنتُ قضيتُ عدة سنوات فيها، ثلاث سنوات منها رئيساً لها. وكنت أعرف تلك الخطة، وأعرف أن من كانوا على دراية تامة بالعراق وبالمنطقة قضوا «عشر سنوات» في وضع هذه الخطة وتقويمها، وكانت خطة قوية وفعالة، إذ لم تضع في الحسبان هزيمة القوات العسكرية العراقية فحسب؛ بل أخذت في اعتبارها المرحلة التالية لذلك...).

***

الاستشراف الأمريكي ودعاية (بناء الدول)

يُعرَّف الاستشراف بأنه (علم المستقبل) الظني أو المحتمل، أو ما يُعَبَّرُ عنه بـ(علم الدراسات المستقبلية). ويَنْسِبُ بعضُ الباحثين بدايات نشأته الحديثة لجهود مؤسسة راند الأمريكية. ومع أن حاجة الإنسان لهذا العلم حاجة أولية وقديمة؛ إلا أن تطوره، والتعقيدات الطارئة عليه، وتوالي دراساته في الأبحاث العسكرية والسياسية؛ مهَّد لوضع الأسس والأساليب الحديثة لهذا العلم.

وكلما تضخَّمت قاعدة البيانات أمام التنفيذي أو السياسي، وتضمَّنت التفاصيل الدقيقة للمعلومة، مع تحديثها المستمر بالمتغيِّرات؛ زادت فرص النجاح للخطط الاستشرافية، وخطط التنفيذ والتهيئة.

ومع أن المؤلف لم يتحدث في كتابه عن هذا الموضوع بشكل خاص؛ إلا أنه من خلال إشاراته المتكررة إلى مراكز البحوث والدراسات (ص377 مثلاً)؛ قد أكَّد الانطباعَ السائد عن ضخامة الإنفاق الأمريكي على تحليل المعلومات ودراسات المستقبل. كإشارته (ص158) إلى أن إدارة بوش (اختارت بدهاء التعليل لغزو العراق بوجود أسلحة الدمار الشامل لأنه أشد المقولات تأثيراً في إقناع الناخبين حسبما أظهره التحليل الدقيق للرأي العام الأمريكي).

والاستشراف في الإدارات الإستراتيجية الأمريكية عملية معقدة وضخمة، وتعتمد على قواعد بيانات تضمُّ أدقَ التفاصيل.

كشف موقع ويكيليكس عن عدد من الوثائق الدبلوماسية الأمريكية السرية التي تكشف طلباتٍ لوزيرة الخارجية الأمريكية من دبلوماسييها في بعض سفاراتها بإعداد «سير ذاتية» لبعض المسؤولين؛ تتضمن أدق التفاصيل! كالعمر، السمات الشخصية، التاريخ الصحي، الصحف المفضلة، مستوى التعليم، الأصدقاء، الأعداء، الاهتمامات، السلوكيات، وجهة النظر حول بعض القضايا... الخ! وأن هذه المعلومات (ستوظف في تحديث خطط الوكالات الأمريكية المعنية) حسب ما جاء في بعض البرقيات الدبلوماسية المسربة. ومعلوم أن الإدارة الأمريكية لا تنفي مثل هذه الوثائق. فقد نقلت (رويترز) عن مسؤولَيْن في الكونغرس (طلبا عدم ذكر اسميهما) أنهما حضرا إفادة مسؤولين في الخارجية الأمريكية تضمنت: (أن تأثير ما «كُشف» عنه في «ويكيليكس» محرج لكنه ليس مضراً).

وعلى مستوى الأبحاث والتقارير؛ فقد أصدر المعهد الوطني لأبحاث الدفاع التابع لمؤسسة راند عام 2003 بطلب من مكتب وزير الدفاع الأمريكي؛ دراسةً كان عنوانها: «ثورة المعلومات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا».

وهذه الدراسة «المنشورة في وسائل الإعلام العربية حينها» لا تبحث الجانب الفني أو التقني في نُظُم الاتصالات والمعلومات، وإنما هو تقرير يتناول المسار المتوقع لثورة الاتصالات والمعلومات في الجانب السياسي والاقتصادي لدول الشرق الأوسط. ويستشرف موقف الحكومات العربية في إدارة تدفُّق المعلومة عبر الإنترنت ووسائل الاتصالات الحديثة، واحتمال أن تكون تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أسلحة قوية بين الحكومة والمحكومين.

ويذكر التقرير أيضاً أن الأنظمة الديكتاتورية لن تستطيع على الإطلاق أن تمنع الزحف التكنولوجي، وأن هذا المد سيرافقه طموحات سياسية، واجتماعية، وشخصية. ويستطرد التقرير في الحديث عن العقد الاجتماعي (العلاقة بين الحاكم والمحكوم)، ومعدل الزيادة في نسب الشباب في دول المنطقة، وأعداد المستخدمين منهم للإنترنت، الحالي والمتوقع، وغياب الديمقراطية، و(تحديات الأمن، ومفهومه لدى الأجهزة الحكومية، وعن تغيرات مهمة سوف تحدث). ويضيف التقرير: (إن الولايات المتحدة قد خسرت قدراً كبيراً من مصداقيَّتها على مدى السنوات العشر الماضية بسبب تأييدها لأنظمة غير ديمقراطية من أجل مصالحها هناك...).

ويتضمن التقريرُ كثيراً من النقاط التي تستحق التأمل والتوقف عندها. ومن ذلك: الإشارة إلى أن إعدادَ التقرير اعتمد على سلسلة من المؤتمرات الدولية، وعددٍ من البحوث والدراسات والإحصاءات وتقارير الخبراء!

في المقابل؛ نجد أن هذا التقرير نُشر في حينه في كثير من وسائل الإعلام العربية بكل تفاصيله المتوقعة - والتي حدثت فعلاً في وقتٍ لاحق - ومع ذلك لم نجد تفاعلاً «إيجابياً» من تلك الأنظمة، مما يستدعي التساؤل عن طريقتها في التعاطي مع المتغيِّرات، وحقيقة وجود التخطيط الإستراتيجي في إداراتها، بل والتساؤل عن مقومات وجودها الحضاري.. في ندوة اكستر البريطانية عام 1990 يشير الخبير الأمريكي انتوني كورد سمن (ص61) محذِّراً (الولاياتِ المتحدة؛ بأنها لا تستطيع أن تنقذ أي نظام عربي من ثورة شعبية، وبالتالي فإن التطور السياسي والاقتصادي من مهمات الأنظمة، وعليهم أن يبذلوا الجهد لتحقيق ذلك، إذا أرادوا ضمانة البقاء...)!

وفي حوار مع صحيفة «واشنطن بوست» في 9 إبريل 2005؛ أشارت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس إلى إمكانية التحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط.. و(أن الأنظمة العربية السائدة لن تكتب لها الاستمرارية باعتبارها قد عفا عليها الزمن، والسبيل إلى تغييرها هو «الفوضى الخلاقة» حتى وإن نجم عن ذلك استبدال الأنظمة الموالية والحليفة لواشنطن)! وأشارت إلى (أن المنطقة العربية لا تمتلك أي قدرة على التغيير المنظَّم لجفاف وبوار الحياة السياسية.. ولذلك ستكون الفوضى هي الخالقة للتغيير، وخلق شرق أوسط جديد...). وما ينسجم مع هذه الأفكار؛ إشارتُها الضمنية إلى ذلك في محاضرتها عام 2005 في الجامعة الأمريكية في القاهرة الموجهة إلى «المجتمع»، والتي أكدت فيها: (أن ستين عامًا من السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط؛ لم تُحدث هناك إصلاحات جوهرية. وأن السياسة الأمريكية الجديدة، ستنتبه كثيراً للمجتمع، وتنشئ معه علاقات جديدة...).

مشروع (الشرق الأوسط الكبير) الذي طرحته الولايات المتحدة على مجموعة الدول الصناعية الثماني في مارس2004، أشار إلى ذات الأفكار، وإن اختلفت العبارة، ففيه: (...وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة؛ سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة.. وسيمثل ذلك تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة، وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعة الثماني... إنَّ التغيرات الديموغرافية المشار إليها أعلاه، وتحرير أفغانستان والعراق من نظامين قمعيين، ونشوء نبضات ديموقراطية في أرجاء المنطقة، بمجموعها، تتيح لمجموعة الثماني فرصة تاريخية)! وفي ذات السياق؛ يبـيِّنُ الجنرال توني زيني في كتابه المذكور آنفاً (ص103،162) أن الشبَّان المحبطين من أنظمتهم السياسية في الشرق الأوسط؛ إما أن يُستغَلُّوا من (الجماعات المتطرفة في تحويل غضبهم إلى «الصليبيين» الأمريكيين)، أو يختاروا الهجرة إلى العالم الأول لينقلوا معهم العنف والراديكالية والأعباء السياسية والاجتماعية! وهنا يبحث كثير من المراقبين في جديَّةِ «الإدارة الأمريكية» ونرجسيتها في التبرير «لوعودها» تجاه بناء الديمقراطية وإحلالها محل الدكتاتورية والاستبداد. مع أن المؤلف في «هجوم على العقل» (ص281) ذكر مع الاستشهاد؛ أن «بناء الدول» بعد الحرب غير مطروح «على الإطلاق» في أجندة الرئيس بوش وإدارته! بل ويقول (ص91): (شهد الجنرال جون بايست.. بأنه كان هناك تهديداً بالفصل من العمل لأي شخص في البنتاجون يسأل عن تخطيط ما بعد الحرب).

***

رعاية الفوضى والحيدة بالشعوب عن مطالبها

أبان المجتمع السعودي للعالم مقدار يقظته تجاه مكاسبه الشرعية والوطنية عندما دُعِيَ إلى إحياء مظاهر الفوضى والاضطراب في ما سمي بـ»ثورة حنين».. الجدير ذكره هنا؛ أنه عندما صدر بيان هيئة كبار العلماء في المملكة والمعبر عن ضمير الأمة في رفضها الحاسم للوسائل المسببة للتحزب وتفريق الجماعة؛ بادرت الولايات المتحدة بالتدخل في الشأن السعودي الداخلي، حيث جاء على لسان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية فيليب كراولي أن الولايات المتحدة تعلن أن السعوديين لهم الحق في الاحتجاج السلمي...!

إضافةً لما سبق الإشارة إليه مما هو متعلِّقٌ بموضوع هذه الفقرة؛ يقول المؤلف (ص173) في ذات السياق: (نعرف الآن من «سي آي إيه» أن هناك تحليلاً شاملاً ودقيقاً لتبعات الغزو المحتملة، تم إعداده قبل غزو العراق بوقت طويل، توقَّع بدقة الفوضى، والغضب الشعبي، وتصاعد احتمال نشوب حرب أهلية، وأن هذا التحليل تم عرضه على الرئيس... وأن العواقب المحتملة للغزو.. قد تزيد من دعم الأصولية الإسلامية، وتسبب انقسامات شديدة في المجتمع العراقي، ومستويات مرتفعة من الصراع الداخلي العنيف...). ثم يبين المؤلف موقف الإدارة الأمريكية من هذه التقارير، ومعيارها الشخصي في اختيار عملائها. فيقول: (وبالرغم من تلك التحليلات؛ اختار الرئيس بوش إخفاء تلك المعلومات... وقد وضعت إدارة بوش أحمد الجلبي - وهو مجرم مدان ومحتال شهير - على قائمة موظفيها، الذين يتلقون أجوراً شهرية، ومنحته مقعداً مجاوراً للسيدة الأولى لورا بوش في خطاب حالة الاتحاد، ثم أرسلوه إلى بغداد في طائرة عسكرية مع قوة أمنية خاصة...). إفادات المؤلف وشهاداته الكثيرة في هذا الكتاب، وعشرات المصادر والتقارير الغربية في السياق ذاته؛ لا تتسق مع التبشير الأمريكي بالديمقراطية والسلام. ومن أمثلة التدخل ورعاية الفوضى مما جاء في الكتاب؛ ما ذكره المؤلف (ص276) عن الأكراد في شمال العراق، والشيعة في جنوبه، وأنها (جماعات كنا نشجعها على الثورة ضد صدام).. ومن نافلة القول؛ الإشارة هنا إلى أن وجود مثل هذا التدخُّل أياً كان حجمه ومكانُه في العالم لا يلغي الحقوق ولا يسوِّغ الظلم، ولكنه يوجب التصحيح واليقظة والتكاتف الاجتماعي والوحدة الوطنية.

سول لانداو «الإعلامي والكاتب الصحفي في نيويورك تايمز وواشنطن بوست وصحف أخرى» يبيِّنُ في كتابه الإمبراطورية الاستباقية (ص137 ط.2005) وجهةَ نظره حول ما يصحُّ أن يكون مثالاً للتدخُّل ورعاية الفوضى، فيقول: (كانت جهود وسائل الاستخبارات الأمريكية للإطاحة بالحكومات الشعبية تشمل دائماً محاولات للتأثير على وسائل الإعلام الجماهيرية)! وينقل لانداو موقف وزير الخارجية الأمريكي عندما (وبَّخ) شعب التشيلي (لافتقاره لحس المسؤولية عندما انتخب الليندي لسدة الرئاسة)، وأن الوزير (وافق على خطط وكالة الاستخبارات المركزية للفوضى في المجتمع التشيلي). ويقول: (زعزعت وكالة الاستخبارات الأمريكية اقتصاد التشيلي بأن دفعت أموالاً إلى بعض القادة العماليين كي يعلنوا الإضراب في بعض المواقع الإستراتيجية.. وروَّجت يومياً فيضاً من الأكاذيب حول طبيعة حكومة الليندي وبرنامجها... وعندما فشلت الإستراتيجيات المختلفة قام الجيش التشيلي بدعم من واشنطن بانقلاب عسكري لعبت فيه البحرية الأمريكية دوراً حاسماً...الخ). ثم يتحدث عن الدور الأمريكي في عدة دول أخرى، فيشير في معرض حديثٍ طويل عن جامايكا إلى كيفية حصول الانقلاب الذي صوَّرَتْه واشنطن ووسائل الإعلام التابعة لها؛ حركةً تهدف إلى إعادة الديمقراطية.. وعن تجنيد واشنطن لعشرات الآلاف من الأشخاص بواسطة الطبقات الموسرة لإعداد المسيرات الضخمة، (وقبل ذلك أذاعت وسائل الإعلام إعلانات مستمرة عن المسيرة الوشيكة). ويقول: (..ثم اتخذ قادة المسيرة اتجاهاً مغايراً لخط سيرهم المقرر، وذلك كي يواجهوا حشداً من مؤيدي الرئيس، وصار التصادم «المدبر» أمراً واقعاً، وأخذ القناصون المتمركزون على أسطح الأبنية يطلقون النار...الخ)!

ومع أن نسق الأجندات الإمبريالية هي ذاتها تتكرر في محاولاتها لإحداث الاضطرابات، والحيدة بالشعوب عن أهدافها الحقيقية؛ إلا أن الراصد الغيور يتابع بقلقٍ بالغ المحاولات الحثيثة لإدخال المنطقة العربية - عبر بعض القوى الإقليمية - في نفق الأزمات الطائفية الدينية، ونفخ رماد الفتنة المذهبية بين أبناء الوطن الواحد. فالتأزُّم بين الديانات والطوائف هو العدو الجديد للمنطقة مما يعظِّم دور العقلاء في نشر الوعي، واليقظة، وترشيد الخلاف واحتوائه، والتأكيد على دور الاجتماع والتعاون في الحفاظ على كيان الوطن ومصالح الناس.

***

خطر الفساد الإداري على مصالح الإدارة والدولة

مع كل ضمانات النزاهة في النظام الإداري والسياسي الأمريكي، والمتمثلة في حزمة من القوانين الإدارية الصارمة - المعدومة للأسف في عالمنا العربي - والتي تُلزم بالكشف عن عناصر الذمة المالية للموظفين العموميين، وكبار المسؤولين السياسيين خاصة. بمن فيهم رئيس الولايات المتحدة، ونائبه، وأعضاء الكونجرس... لهم ولأزواجهم وأطفالهم، وذلك قبل توليهم وظائفهم، وأثنائها بصفة دورية، وبعد انتهاء أعمالهم، ونشر ذلك في الإنترنت، وتمكين الجمهور من النظر فيها وتقييمها، مع فرض جزاءات وعقوبات حقيقيَّة (مدنية وجنائية) عند مخالفة أحكام هذه القوانين، وذلك لضمان النزاهة العامة، وتأكيد ثقة الجمهور في الحكومة، وضمان مبدأ الشفافية، والذي تعود أصوله إلى مفاهيم «الحكومة تحت الشمس». مع كل هذه الضمانات؛ نجد كثيراً من الحقوقيين والساسة الأمريكيين يتحدثون عن مخالفات جسيمة في إدارة الرئيس بوش. يقول المؤلف (ص328): (لقد انتهك الرئيس بوش القانون على نحو متكرر طوال ست سنوات).

وقد عرض المؤلف «شهادته» على هذا الموضوع بعشرات الأمثلة والصور.. بحيث جعله كالباعث لنشر الكتاب وتأليفه.

يقول (ص127): (يظهر حالياً أن بلايين الدولارات من الأموال التي خصصها الكونجرس، وعوائد نفط العراق قد اختفت دون أي إشارة على الإطلاق إلى مكانها أو متلقيها...)، ويشير أيضاً إلى (القرار الشائن الذي يقضي بوقاحة بمنح عقود وحيدة المصدر، بلا مناقصات، قدرها عشرة بلايين دولار إلى شركة هاليبيرتون التي كان يعمل فيها نائب الرئيس ديك تشيني)، ويحذِّر (ص116) من (أن زواج المحارم الذي قد يقع بين الثروة والسلطة هو ما يمثل أشد تهديدات الديمقراطية فتكاً). ويشير في كثير من صفحات الكتاب إلى وجود هذه العلاقة بين أصحاب الثروة ورجال الإدارة الأمريكية. يقول (ص299): (من المؤكد أنه في بعض الأحيان تبدو إدارة بوش-تشيني وكأنها بالكامل ملك لشركات الفحم والنفط والتعدين والصناعات متعددة الأغراض...). ويذكر تياري ميسان في كتابه الشهير «الخديعة المرعبة» (ص104) أن (بوش ألَّف طاقمه الحكومي من موظفين مهمين في اللوبي النفطي).

ويشير آل جور أيضاً إلى انتهاك الإدارة لمبدأ مهم، وهو مبدأ استقلال القضاء؛ وذلك بوقائع تم فيها ترهيب القضاة (ص106)، وتوجيه تهديدات صريحة لهم (ص339)، وتعيين قضاة تسهل السيطرة عليهم (ص111)، و»تخريب المحكمة الجنائية الدولية» (ص259). وكذلك ممارسة «الجهود المنظمة لترهيب عدد لا يحصى» من الموظفين العموميين (ص187)، ونشر فضائح من لا يتفق مع سياسات الإدارة (ص188)، وإجبار بعضهم على الاستقالة، وتعيين محلهم «أفراد كانت كل مؤهلاتهم صلاتهم بالبيت الأبيض» (ص225). وتحدث عن انتهاك الإدارة «للقيم الأمريكية» بسياسات التعذيب في سجون العراق وأفغانستان، وأنها «نبعت من القيم المنحرفة والسياسات الوحشية في المستويات العليا من حكومتنا»!! (ص228). وتحدث عن رعاية الحكومة لمن سماهم: «الطابور الخامس في السلطة الرابعة» الذين يسوِّغون عن طريق الإعلام تلك السياسات...الخ.

يقول سول لانداو في كتابه المذكور آنفاً (ص90) بعد أن ذكر نحواً من الأمثلة السابقة: (تبيَّن للناس أن الطبقة الرفيعة التي تمارس الوصاية على المجتمع ليست إلا مجموعة من كبار الأثرياء المتلاعبين).

***

أخيراً..

أولاً؛ لا يمكن بأي حال أن نختزل من خلال هذا العرض كلَّ الشعب الأمريكي في إطار حكومة الرئيس بوش وإدارته - والتي يطعن في نزاهة وصولها للرئاسة كثيرٌ من الحقوقيين الأمريكيين -.. فوجود عشرات المناكفين لتلك السياسات - ومنهم مَنْ ذكرنا من المؤلفين - دليلٌ على ذلك. يقول المؤلف (ص100): (إن السيطرة الحالية المثيرة للدهشة على السياسات الأمريكية من الساسة اليمينيين بمعتقداتهم التي هي على خلاف واسع ودائم مع آراء أغلبية الأمريكيين؛ هي نتاج بناء دقيق لائتلاف جماعات المصالح على نحو غير مسبوق.. والخاسر الدائم هو المواطن الأمريكي، ويكشف هذا الائتلاف كل ما حذَّرَنا منه مؤسِّسُونا: إن «زمرةً ما» قد تصل إلى الهيمنة على السياسة، وتسعى إلى السلطة لمصلحتها الخاصة).. خروج كثير من السياسات الدولية عن الدبلوماسية والشرعية، وتضارب المصالح؛ لا يحيِّد إطلاقاً التزامَنا بمبادئنا وقيمنا، وتواصلنا الإيجابي مع الشعوب والعالم وفق الحقوق والأحوال المقررة في شريعتنا ومنظومتنا الأخلاقية.

ثانياً؛ كما أن حضارة هذه الجزيرة العربية (لم تتشكل) قبل أربعة عشر قرناً إلا على أرضها، ومن قيمها، وعبر تضحيات أبنائها؛ فإنها كذلك (لم ولن تتجدد) إلا على أرضها، ومن قيمها، وعبر تضحيات أبنائها.. وقد كان من آخر تلك التضحيات؛ ما قام به الملك عبدالعزيز ورجاله المخلصين رحمهم الله جميعاً حين أنشئوا أكبر وحدة عربية وإسلامية في العصر الحديث على ذات الأسس التي شكَّلت حضارةَ هذه الجزيرة قبل أربعة عشر قرناً.. وستدوم هذه الوحدة بإذن الله وتزداد قوة وتجدداً وازدهاراً ما رعى أبناءُ هذه البلاد تلك الأسس والمبادئ الأولى.

ثالثاً؛ لا يعدو هذا العرض أن يكون محاولة لتقريبِ صورةِ فئةٍ من شعوب العالم في الجَلَد والاجتهاد، والقوة العلمية والعملية - المليئة بالأخطاء والإخفاقات والخطوات المتعثرة - في مقابل «عجز القادرين على التمام» في الوطن العربي، مما يستدعي عبارة العبقري الملهم عمر بن الخطاب حين قال: «اللهم إني أعوذ بك من جلد الكافر وعجز الثقة».

رابعاً؛ سبقت الإشارة في ختام الجزء السابق من هذا العرض إلى أنه لا يمكن بأي حال أن نتبرَّأ - نحن أبناء الأمة - من مسؤوليتنا التاريخية والمباشرة عن أحوال أمتنا اليوم، وعن تخلفنا الكبير عن ركب الحضارة، وتقصيرنا في واجب البناء المعرفي والأخلاقي، وتفريطنا في مبتكرات العلوم، فضلاً عن أن نُرحِّل مسؤوليةَ كل ذلك إلى خارج الحدود كما يحتال العاجز الجاهل على نفسه.. والله عز وجل يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.

 

الوطن العربي بين «نظرية المؤامرة» وتحمل المسؤوليات:
الأمن الفكري وذكرى التوحيد الوطني في سياق الأحداث العربية
عبدالعزيز بن عبدالله السليِّم

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة