Monday 07/10/2013 Issue 14984 الأثنين 02 ذو الحجة 1434 العدد
07-10-2013

رحلة ابن القيم للحج والمجاورة (691هـ - 751هـ)

لقد حاز علماء المسلمين قصب السّبق في ميدان الرحلات، واعتنى بعضهم قديماً وحديثاً برحلة الحج عناية خاصة، وشدّوا الرِّحال لبيت الله الحرام، لأداء هذه الفريضة، ولأخذ العلوم عن الشيوخ ومقابلتهم، وحضور بعض المجالس العلمية للاستزادة من العلم والمعرفة، والقيام بتدوين ما يجري عليهم أثناء هذه الرحلة، ووصف مشاقِّها وأحداثها إلى حين عودتهم لبلادهم، وكان لهذه الشعيرة (الحج) الأثر البالغ في رفع معنوياتهم النفسية والعلمية ؛ مما دفع بعضهم للمجاورة والتفرُّغ للعبادة، وأخذ العلم وتدوينه.

وقد كان الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - أحد هؤلاء الأعلام الذين رحلوا للحج عدّة مرات وجاوروا البيت الحرام، وقد تحدث عن أسرار شعيرة الحج في كتابه الشيِّق والممتع (مفتاح دار السعادة) (2-323 - 324) فقال ما نصه: (وأمّا الحج، فشأن آخر لا يدركه إلاّ الحنفاء الذين ضربوا في المحبة بسهم، وشأنه أجل من أن تحيط به العبارة، وهو خاصة هذا الدين الحنيف، حتى قيل في قوله تعالى «حنفاء لله» أي : حجاجاً.

وجعل الله بيته الحرام قياماً للناس، فهو عمود العالم الذي عليه بناؤه، فلو ترك الناس كلهم الحج سنة لخرّت السماء على الأرض، هكذا قال ترجمان القرآن ابن عباس؛ فالبيت الحرام قيام العالم، فلا يزال قياماً ما دام هذا البيت محجوجاً.

فالحج خاصة الحنيفية وتقويته والصلاة سر قول العبد: لا إله إلاّ الله ؛ فإنه مؤسّس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة، وهو استزارة المحبوب لأحبابه، ودعوته إلى بيته ومحل كرامته، ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارهم : لبيك اللهم لبيك، إجابة محب لدعوة حبيبه، ولهذا كان للتلبية موقع عند الله، وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى، فهو لا يملك نفسه أن يقول: لبيك اللهم لبيك، حتى ينقطع نفسه.

وأما أسرار ما في هذه العبادة من الإحرام، واجتناب العوائد، وكشف الرأس، ونزع الثياب المعتادة، والطواف، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار، وسائر شعائر الحج ؛ فمما شهدت بحسنه العقول السليمة والفطر المستقيمة، وعلمت بأنّ الذي شرع هذا لا حكمة فوق حكمته).

وذكر الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - سر انجذاب أفئدة المسلمين للبلد الحرام فقال في كتابه (زاد المعاد) (1- 52 - 53) : (وقد ظهر سر هذا التفضيل والاختصاص في انجذاب الأفئدة، وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلد الأمين، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل:

محاسنه هيولى كل حسن

ومغناطيس أفئدة الرجال

ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابة للناس، أي : يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً، بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقاً:

لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها

حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً

وإن للإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - قصصاً عجيبةً في رحلته للحج ومجاورته للبيت الحرام، أذكر منها ما تيسّر الوقوف عليه فمن ذلك:

اجتهاده في العبادة والطواف:

قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في (ذيل طبقات الحنابلة) (2-448) : (وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة، وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه) . وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في « البداية والنهاية « (14-246) : (ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه» .

حضوره لحلق العلم بمكة :

قال ابن القيم - رحمه الله - « في مفتاح دار السعادة « (2-117 - 119):

(وحضرت مرةً في مجلس بمكة - شرفها الله تعالى - فيه من أكابر البلد، فجرت هذه المسألة، وأخذ بعض الجماعة الحاضرين يطنب في تفضيل النخل وفوائده، وقال في أثناء كلامه : ويكفي في تفضيله أنّا نشتري بنواهُ العنب ؛ فكيف يفضلُ عليه ثمر يكون نواهُ ثمناً له؟! . وقال آخر من الجماعة : قد فصل النبي صلى الله عليه وسلم النزاع في هذه المسألة، وشفى فيها بنهيه عن تسمية شجر العنب كرماً، وقال: «الكرم قلبُ المؤمن»، فأي دليل أبينُ من هذا؟! وأخذوا يبالغون في تقرير ذلك.

فقلت للأول : ما ذكرته من كون نوى التمر ثمناً للعنب فليس بدليل ؛ فإنّ هذا له أسباب:

أحدها : حاجتكم إلى النوى للعلف، فيرغب صاحب العنب فيه لعلف ناضحه وحمولته.

الثاني : أنّ نوى العنب لا فائدة فيه ولا يجتمع .

الثالث : أنّ الأعناب عندكم قليلة جداً، والتمر فأكثر شيء عندكم، فيكثرُ نواه، فيشترى به الشيء اليسير من العنب، وأما في بلاد فيها سلطان العنب فلا يشترى بالنوى منه شيء ولا قيمة لنوى التمر فيها.

وقلت لمن احتج بالحديث : هذا الحديث من حُجج فضل العنب لأنهم كانوا يسمّونه شجرة الكرم ؛ لكثرة منافعه وخيره، فإنه يؤكل رطباً ويابساً وحلواً وحامضاً، و تجنى منه أنواع الأشربة والحلوى والدبس وغير ذلك، فسمّوه كرماً لكثرة خيره ؛ فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنّ قلب المؤمن أحقّ منه بهذه التسمية ؛ لكثرة ما أودع الله فيه من الخير والبر والرحمة واللين والعدل والإحسان والنصح، وسائر أنواع البر والخير التي وضعها الله في قلب المؤمن، فهو أحق بأن يسمّى كرماً من شجر العنب.

ولم يُرد النبي صلى الله عليه وسلم إبطال ما في شجر العنب من منافع والفوائد، وأنّ تسمية كرماً كذب، وأنها لفظة لا معنى تحتها كتسمية الجاهل عالمياً والفاجر براً والبخيل سخياً، ألا ترى أنه لم ينف فوائد شجر العنب، و إنما أخبر أنّ قلب المؤمن أغزرُ فوائد وأعظم منافع منها ؟! هذا الكلام أو قريب منه جرى في ذلك المجلس).

أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بمكة :

حرص الإمام ابن القيم - رحمه الله - على القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي إحدى رحلاته للحج، يقول عن بعض المنكرات في كتابه « إغاثة اللهفان « (1 - 231) ما نصه : (ومن أعظم المنكرات تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد الأقصى عشية عرفة، ويقيمونه أيضاً في مسجد الخيف أيام منى ؛ وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مراراً، ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه، والناس في الدعاء والتضرع والابتهال والضجيج إلى الله، وهم في هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء)!.

فقدانه لابنه يوم التروية :

يقول الإمام ابن القيم في كتابه «مفتاح دار السعادة» (3 - 311):

(وأخبرك عن نفسي بقضية من ذلك، وهي أني أضللت بعض الأولاد يوم التروية بمكة وكان طفلاً، فجهدت في طلبه والنداء عليه في سائر الرّكب إلى وقت يوم الثامن، فلم أقدر على خبر، فأيست منه، فقال لي إنسان : إن هذا عجز، اركب وادخل الآن مكة فتطلبه فيها، فركبت فرساً، فما هو إلاّ أن استقبلت جماعة يتحدثون في سواد الليل في الطريق وأحدهم يقول : ضاع له شيء فلقيه، فلا أدري انقضاء كلمته كان أسرع أم وجداني الطفل مع بعض أهل مكة في محمله، عرفته بصوته) .

تدوينه للعلم :

اشتغل الإمام ابن القيم - رحمه الله - أثناء مجاورته بمكة بتصنيف العلم وتدوينه، وقام بكتابة عدد من مؤلّفاته القيّمة والتي كان من أبرزها كتابه الفريد « مفتاح دار السعادة « حيث يقول في مقدمته (1- 215 - 216) (إذا كان هذا من بعض النزل والتحف التي فتح الله عليّ حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرّضي لنفحاته في بيته وحوله بكرةً وأصيلاً فما خاب من أنزل به حوائجه، وعلق به آماله، أصبح ببابه مقيماً وبحماه نزيلاً).

ومن ذلك أيضاً تأليفه لكتابه « تهذيب السنن « إذ يقول في خاتمته (8 - 121) ما نصه : (ووقع الفراغ منه في الحجر - حجر إسماعيل - شرفه الله تعالى تحت الميزاب - ميزاب الرحمة في بيت الله - آخر شوال سنه اثنين وثلاثين وسبعمائة وكان ابتداؤه في رجب من السنة المذكورة).

مرضه بمكة واستشفاؤه بزمزم ورقيته لنفسه:

لقد اعترى الإمام ابن القيم مجموعة من الأمراض والأسقام أثناء مجاورته للبيت الحرام، وكان يعالج نفسه تارة بماء زمزم وشرب العسل، وتارة بالرقية الشرعية، وعن ذلك يقول في كتابة « مفتاح دار السعادة « (2 - 171) : (ولقد أصابني أيام مقامي بمكة أسقام مختلفة، ولا طبيب هناك ولا أدوية كما في غيرها من المدن، فكنت أستشفي بالعسل وماء زمزم، ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً).

و قال في كتابه « الداء والدواء « (ص 8)

(ومكثت بمكة مدة تعتريني، ولا أجد طبيباً ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثير عجيباً، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً، فكان كثير منهم يبرأ سريعاً . ولكن ها هنا أمر ينبغي التفطُّن له، وهو أنّ الأذكار والآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها، هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحل، وقوة همه الفاعل ؛ وتأثيره، فمتى تخلّف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المحل المنفعل، أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجح فيه الدواء، كما يكون ذلك في الأودية والأدواء الحسية ؛ فإنّ عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة إذا لذلك الدواء، وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإنّ الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، وكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان للراقي نفس فعّالة وهمة مؤثرة ؛ أثر في إزالة الداء).

ويقول في كتابه « مدارج السالكين « (1 - 133):

(وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أموراً عجيبة. ولا سيما مدة المقام بمكة . فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة، بحيث تكاد تقطع الحركة مني. وذلك في أثناء الطواف وغيره.

فأبادر إلى قراءة الفاتحة أمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط . جربت ذلك مراراً عديدة . وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مراراً . فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء والأمر أعظم من ذلك. ولكن بحسب قوة الإيمان، وصحة اليقين . والله المستعان) .

(لَطَائِف وفَوَائِد)

ذكره لبعض الأودية بمكة وبالمشاعر المقدسة :

قال ابن القيم في كتابه « زاد المعاد « (2-236 - 237) :

(ومحسَّر : برزخ بين منى ً وبين مزدلفة، لا من هذه، ولا من هذه، وعُرَنةُ: برزخ بين عرفة والمشعر الحرام، فبين كل مشعرين برزخ ليس بمشعر, ومزدلفة : حرم ومشعر، وعُرَنةُ ليست مشعراً، وهي من الحل . وعرفة : حِل ومشعر).

ثناؤه على بعض الفوائد وكونها تساوي رحلة:

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - عن بعض الفوائد التي يقتنصها ويفتح الله بها عليه في كتابه « بدائع الفوائد « (2-614) :

(فتأمل هذه الأسرار التي أدناها يساوي رحلة).

واضع رحلة الإمام الشافعي :

قال الإمام ابن القيم في كتابه « مفتاح دار السعادة « (3- 247):

(عبد الله بن محمد البلوي هذا ؛ فإنه كذابٌ وضّاع، وهو الذي وضع رحلة الشافعي، وذكر فيها مناظرته لأبي يوسف بحضرة الرشيد، ولم ير الشافعي أبا يوسف ولا اجتمع به قط، وإنما دخل بغداد بعد موته) .

ابن حزم لم يحج قط !:

قال ابن القيم في كتابه « زاد المعاد « (2-213) :

(وسألت شيخنا عنه - أي ابن حزم - فقال : هذا من أغلاطه، وهو لم يحج رحمه الله تعالى).

وصفه للحج شعرا ً:

قال الإمام ابن قيم الجوزية في ميميّته عن «موقف الحج»:

أمـا والـذي حـج المحبون بيته

ولبوا له عند المـهلِّ وأحرمـوا

وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعاً

لـعزةِ مـن تـعنو الوجُوهُ وتُسلـمُ

يـهلون بالبيـداء لبـيـك ربـنا

لك الملك والحمد الذي أنت تعلمُ

دعاهم فـلبـوه رضـاً ومحبـة

فلما دَعـَوه كـان أقـربَ مـنهمُ

وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة

ولـم يثنهم لـذاتهم والتنعـم

يسيرون من أقطارها وفجاجها

رجالاً وركبانـاً ولله أسلموا

ولما رأتْ أبصارهُم بـيتهُ الـذي

قلوبُ الورى شوقًا إليه تَضرمُ

كأنهمُ لم ينصبـوا قط قبلـه

لأن شقاهم قـد ترحل عنهمو

فلله كم من عَبرة مهراقة

وأخرى على آثارها لا تقدم

وقد شرقت عين المحب بدمعها

فينظر من بين الدموع ويسجمُ

إذا عاينته العين زال ظلالهـا

وزال عن القلب الكئيب التألمُ

ولا عجبٌ من ذا فحين أضافهُ

إلى نفسه الرحمن ؛ فهو المعظمُ

كساهُ من الإجلال أعظم حُـلة

عليهـا طـراز بالمـلاحة معلـمُ

فمن أجل ذا كل القلوب تحبهُ

وتخـضعُ إجلالا لـه وتـعظـمُ

@khalidmalansary

- عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية وعضو الجمعية السعودية للدراسات الدعوية

 
مقالات أخرى للكاتب