Tuesday 08/10/2013 Issue 14985 الثلاثاء 03 ذو الحجة 1434 العدد
08-10-2013

كلنا راد ومردود عليه

القرآن، وكذلك السنة الشريفة، هي بلا شك صالحة لكل زمان ومكان. لكن هل ذلك ينسحب - أيضاً - على قول العلماء والفقهاء، فيجعل اجتهاداتهم ومقولاتهم صالحة لكل زمان ومكان، مثلها مثل كلام الله جل علا وأقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم؟

عندما تقرأ تأصيلات بعض المتطرفين، خاصة في المسائل الاجتهادية، المختلف فيها، تجد أنهم يسوقون مقولات لبعض العلماء بطريقة (انتقائية)، وأغلبها منفصل عن سياقها التاريخي، والظروف الزمانية والمكانية التي قيلت فيها هذه المقولات، ثم تُطرح وكأنها صالحة لكل زمان ومكان.. فالرأي، أو الفتوى، مرتبطة بزمانها خاصة إذا كانت متعلقة بمتغيرات أو نوازل استثنائية، وطالما أن الحكم على الشيء جزء من تصوره، فإن الفتوى - أيضاً - مرتبطة ارتباطاً حميمياً بتصور الفقيه غير المعصوم، وما حضر في ذهنه من أدلة حين قال مقولته. ومعروف أن الإمام الشافعي - رحمه الله - له مذهبان، جديد وقديم، القديم هو المعتبر لأنه هو الذي انتهى إليه، ومات وهو عليه. لذلك يقول النووي: (كل مسألة فيها قولان للشافعي رحمه الله قديم وجديد، فالجديد هو الصحيح وعليه العمل). وهذا يعني أنه بحكم التجربة والخبرة وبما بلغه من الأدلة (تغيرّ) قوله من زمن إلى زمن آخر، وبالتالي فإن تغيره يُفيد أن قول العالم ليس ثابتاً وإنما مُتغير؛ وتغيره يعني أنه اجتهاد منه، وهو دليل على أن قول العالم مرتبط بزمنه، وما بلغه من أدلة، أو ما رجح له بأنه الأقرب إلى الصواب؛ والأهم أنه (احتمالي) وليس بالضرورة (توقيفياً) خاصة في القضايا التي يسوغ فيها الاختلاف، وهو ما أشار إليه - رحمه الله - في مقولته الخالدة: (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).

وما ينطبق على الإمام الشافعي ينطبق على غيره من الأئمة والعلماء، فمقولة هذا العالم، أو رأي ذلك الفقيه، لا يعني بالضرورة أنها دائماً (قطعية)، خاصة في المسائل التي هي محل خلاف بين العلماء. وهنا تبرز مقولة الإمام مالك - رحمه الله - والتي ألغت صفة (المعصومية) عن جميع البشر بعد المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، حين قال: (كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبره عليه أفضل الصلاة والسلام). ويتفق علماء السلف على أن هذه المسائل الاجتهادية - كما يقول ابن تيمية في الفتاوى مثلاً: (لا تُنكر باليد، وليس لأحد أن يُلزم الناس بإتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه).

وعندما نضع كلام الله جل وعلا، والثابت من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، في درجة واحدة مع اجتهادات هذا العالم أو ذاك مهما علا شأنه وشمخت قامته فإننا نخلق (كهنوتية) إسلامية بالضرورة كما هي عند النصارى، ونخالف في الوقت ذاته قوله جل شأنه عن النصارى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون). وأحبارهم في الآية تعني (علماءهم) كما في تفسير الطبري.

ولا يعني ذلك أننا لا نستأنس بقول فقيه أو عالم في مسألة من المسائل، ولكن إذا أخذنا رأي هذا العالم، ثم سقناه وكأنه (توقيفي) لا يجوز مخالفته، فقد سلكنا - ربما دون أن نعي - مسلك النصارى مع رهبانهم وأحبارهم، خاصة في المسائل الفقهية التي لم ينعقد عليها الإجماع؛ بغض النظر عن قيمة هذا العالم أو ذلك الفقيه العلمية.

إلى اللقاء.

 
مقالات أخرى للكاتب