Saturday 12/10/2013 Issue 14989 السبت 07 ذو الحجة 1434 العدد
عبد الله بن حمد الحقيل

عبد الله بن حمد الحقيل

رحلة الحج في عيون الرّحّالة والمؤرِّخين

12-10-2013

محمد بن أحمد العقيلي نموذجاً

محمد العقيلي أحد رواد الأدب السعودي ولد في صبيا بمنطقة جازان سنة 1336هـ أسس النادي الأدبي في جازان واستمر رئيساً له حتى عام 1400هـ، وصدرت له عدة كتب في التاريخ والجغرافيا والأدب والشعر، وقد تحدث عن رحلته إلى الاماكن المقدسة ووصف مشاهداته وانطباعاته في شرح مفصل للأماكن المقدسة في كل من مكة والمدينة وتحدث عن الحج في الماضي والمآسي التي كان يتعرض لها الحجاج وما أنعم الله به اليوم من أمن وأمان وخدمات جليلة وتوسعة للحرمين الشريفين وتزويدهما بمختلف أسباب الراحة كما تحدث عن الطواف والسعي قبل التوسعات الأخيرة مجالات للازدحام مما يؤدي إلى ازهاق بعض الأرواح، والكاتب صاحب أسلوب شيق وما قاله عن الحج في كتابه تحقيقات المطبوع من قبل نادي جازان الأدبي 1420هـ.

لقد كان الحجاج في آخر العهد العثماني كما قرأنا أو فهمنا ممن أدرك ذلك العهد كان الحج مع قدسيته مأساة إنسانية لمن كتب لهم أداء تلك الفريضة، فكثيراً ما تتهددهم الأوبئة الجائحة والأمراض السارية، وإنه كان لا يوجد إلا مستشفيان متواضعان، يمكن أن يطلق على أي منهما مجازاً اسم (مستشفى) أحدهما في باب شريف بجدة والآخر بمكة، وكان حاج الخارج الهنود والجاويون والمصريون والأتراك، وجميع من يصل من طريق البحر في السفن يمرون بالطور من شبه جزيرة سيناء أو جزيرة (كمران) المحجرين الصحيين، وهناك يمكثون أياما تحت الحجر ثم الاختبارات والفحوص والتعقيم يتم تحصينهم ضد الأمراض والأوبئة السارية، ويأذن لهم بالابحار إلى جدة، كما أن هناك محجراً ثالثاً في خارج جدة، وإنما قليل الامكانات ولا يحتاج إليه إلا نادراً.

أما الحجاج من سائر الجزيرة العربية فكان لا رقابة ولا جوازات يتدفقون إلى مكة بدون حاجز ولا مانع، وهناك يقتعدون الجبال والظلال، أو في الخيام للميسورين. إلا من لديهم أصدقاء أو معارف وهم الأقل ينزلون ضيوفاً عليهم، أما حجاج البحر فإقامتهم عند المطوفين وناهيك بما تستوعبه البيوت من ذلك العدد الوفير، وعن الأمن فقد كان مخاطرة بالنفس لمن يخرج بمفرده خارج مكة أو جدة فيتعرضون لقطاع الطريق، ولقد فهمت من معتوق شيخون رحمه الله أحد أهالي جدة أن اللصوص يسطون على البيوت ليلاً ويلجأون إما إلى النزلة اليمانية أو الشمالية أو بني مالك، وهذا شيء معروف، ولقد كانت وسائل المواصلات بالنسبة إلى سكان الجزيرة، وكذا حجاج البحر بعد وصولهم جدة يواصلون رحلتهم على الجمال والحمير والبعض مشياً على الأقدام، وناهيك بما تفرزه تلك الوسائل من القاذورات والنفايات والروث والفضلات سواء في مكة أو في المشعر الحرام، وأقل من القليل الذين يحجون على هوادج من أهل المدن وميسوري الحال مع ما يقاسونه من مشاق الرحلات الطويلة، فحجاج نجد قد تستغرق رحلتهم شهرا من اقصى نجد إلى مكة، أما حجاج اليمن فأكثريتهم مشاة والأقل على الحمير، أو البغال، وقد تستغرق الرحلة عشرين أو خمسة عشرين يوماً، وبالنسبة لمنطقة جازان فالمسافة تقطع في خمسة عشر يوماً على الحمير والجمال، وقد أخبرني محمد جعر من أهالي أبي عريش أنه حج عام 1340هـ مع جماعة من أهل البلدة عددهم 25 شخصاً، وعندما رجع إلى بلده من الحج خرج أهله وأهل الحجاج خارج المدينة، فإذا هو بمفرده والحمير معه بدون ركاب لأنهم اجتاحهم الوباء في تلك السنة في الحج.

والرحلة إلى المدينة أشد خطراً ومغامرة للقوافل، وبالرغم من تجمعات القوافل، وما يرافقها من الحرس الخاص والحكومي، فكثير ما تعترضها رجال القبائل ويفرضون عليها الإتاوة التي ترضيهم وإلا نهبوا القافلة.

والماء وناهيك ما الماء في يوم عرفات وضرورته وغيره، فكثيراً ما يقوم البعض بسد عين زبيدة بغية الكسب الحرام فيرتفع سعر القربة (5) ريالات وأكثر، ولا رقابة على الأسعار فهي تحت الصدف ارتفاعاً وانخفاضاً وانسحب ذلك إلى العهد الشريفي.

وعندما أراد الله سبحانه وتعالى امتداد العهد السعودي على الحجاز، فأول ما تم هو اقرار الامن بصورة خيالية حتى كان كما فهمت من محمد الهادي بن عقيل من أهل مكة أنه تخرج الرفقة من أهالي جدة إلى مكة على الحمير والأتاريك محمولة على طول الطريق ويسير الفرد والاثنان بدون خوف ولا وجل لا من السراق ولا من الخراب.

وبعد فترة يسيرة من العهد السعودي تكونت شركة السيارات العربية لنقل الحجاج من جدة إلى مكة والمدينة، وبينهما، لأنه كان لا يوجد في الحجاز إلا ثلاث سيارات للحسين بن علي شريف مكة، وكانت الإضاءة بالفوانيس والأتاريك في النادر.

الطواف والسعي

كان الطواف والسعي من ضيق صحن الحرم قبل التوسعات المتتالية في العهد السعودي مجالاً للازدحام، مما يؤدي إلى ازهاق بعض الأرواح، وكان صحن الحرم مفروشاَ بالحصباء، فإذا كان في أيام الصيف اشتدت الحرارة وسخن الحصى بحيث يشوي الأقدام من ناحية ويدميها بالوجأ من الناحية الأخرى، كان السعي في الأرض الترابية التي بها نتوءات من الأحجار تصدم الأقدام وتهد حيل الساعي، وكان السعي بين الدكاكين ومباسط الباعة علاوة على ضيق ارضه، وفي جانب منه باب السلام، وفي جوانبه دكاكين فيحصل فيه الزحام مع كثرة السعي ما يزهق الأنفس، ويزيد في ضيق مجاله العربات التي تدفع باليد والسرر المحمولة بالمسنين والعاجزين.

أما الهواء فشبه معدوم لارتفاع البنايات حوله وعدم وجود تهوية صناعية وينتج عن ذلك الازدحام وضيق المجال ومما تفرزه الأجسام المجهدة من العرق والأنسام من التنفس ما يضيق الساعين ويورث الكرب.

ويشاهد المرء حرم المسجد الذي جدد في آخر عمارة العهد العثماني بقبابها الصغيرة والاسطوانات المرمرية، التي جلبت من عهود قديمة للحرم من بعض العمائر التاريخية مختلفة الأشكال، فهذا العمود طويل والآخر أطول والثالث أقصر، والذي حوله أغلظ، لا تناسب بينها مما يدل أنها جلبت من عدة عمائر.

أين ذلك الماضي مما قامت به وتقوم به الحكومة السعودية من مدن للحجاج القادمين بحراً وجواً والوضع الصحي المتطور لتلك المباني والمستشفيات حولها بحيث أن الحاج القادم من البحر أوالجو لا يمكث في مدن الحجاج إلا فترة يسيرة يستقل السيارة التي تسير في خطوط مسفلتة سريعة إلى مكة والمدينة، والأماكن والنزول والفنادق المعدة للحاج وراحته كأحسن الفنادق والنزل في ارقى البلاد المتحضرة سواء في مكة المكرمة أو المدينة المنورة، أو في منى والماء المتوفر في صنابير تفتح وتغلق ذاتياً بالأشعة، وقوالب الثلج بالملايين توزع على الحجاج، والتليفونات المتواجدة في كل مكان لاتصال الحجاج بذويهم داخلياً وخارجياً في سائر القارات، والمستشفيات المفتوحة الأبواب المتوفرة السرر، ومئات الأطباء في المستشفيات المتنقلة، وسيارات الاسعاف المجهزة بأحدث وسائل الاسعاف الأولية لنقل الحجاج المصابين بأسرع وقت إلى أقرب مستشفى، وتوفر الأقوات والأرزاق والرقابة على الباعة من وزارة التجارة من ناحية الأثمان، ومن ناحية الصحة ومن ناحية الجودة والنظافة.

كل ذلك مع الأمن الذي هو مضرب المثل في الدنيا، ودوريات الصحة والنجدة التي تجوب الطرقات والشوارع، وعلى طول طرق المواصلات، والطائرات المروحية التي تحوم في أجواء المشاعر المقدسة للمراقبة والاسعاف وكل ما يؤمن راحة الحجاج، وفوق كل ذلك إنارة المشاعر الحرام بأضواء الكهرباء الذاتية الباهرة التي تحيل الظلام إلى نهار وإلى ضياء غامر.

أشرنا قبله إلى وضع البيت الحرام في العهدين العثماني والشريفي، وضيق المطاف والمسعى، والآن نوضح ما أصبح عليه الحرم.

لقد كان في التوسعة الأولى في عهد المغفور له الملك عبدالعزيز ما ضاعف مساحة الحرم اضعافاً بذلت فيها الحكومة التعويضات السخية لمن انتزعت ملكيات دورهم، وعمارة المساجد الحرام على أروع طراز معماري عربي حديث، وتلته توسعات متتالية بحيث أصبح المسجد بطوابقه يتسع لستمائة ألف مصل، وفرش بالمرمر الذي لا يمتص الحرارة، وكيف تكييفاً مركزياً بحيث يعيش الإنسان في جو روحاني مريح يليق بقدسية الحرم وجلالة البيت، فضلاً عن المراوح التي توزع الهواء وتطرد الهواء الفاسد، وأصبح الحرم على دورين علاوة على السطح ورفعت بناية المقام القديم التي كانت تضايق المطاف، ووضع مكانها رمز زجاجي بشكل هندسي جميل يوسع المطاف ويوضح موقع المقام.

وناهيك بشرطة الحرم الساهرة على العناية والأمن والآداب وتأمين راحة الحجاج والعناية اللازمة في محيط الحرم على سعة مجاله، كما أن بئر زمزم كانت مكشوفة معرضة للأتربة يتسرب الماء حولها، مما يسبب الناموس، ويلوث الأماكن التي حولها، فقد غطيت بحيث يسحب الماء بمواسير على أحدث الطرق الصحية، ويوزع معقماً مبرداً، وجعل لفضلات الماء مصارف لا يبقي أثرا للبلل فضلاً عن رشاش الماء الذي كان يتسرب إلى ما حول زمزم.

أما المسعى فقد أصبح ضمن بناية الصفا والمروة مكسية جدرانه ومبلطة أرضه بالرخام مكيف الهواء، غرست في سقوفه المراوح، وجعل حاجز بين الرائح والغادي، وخصص مكان لسعي العجزة والمعوقين المحمولين، وهو من السعة بحيث يستوعب الساعين، وعلى دورين كلها على نفس الطراز، فأين الحاضر الزاهر من الماضي الغابر.

إن التوسعات المتتالية وتجديرات العمارة للحرم شملت بنفس الطريقة ونفس التوسعة والبناء والطراز المسجد النبوي، الذي كان على آخر عمارة في عهد السلطان عبدالحميد العثماني، وهي عمارة على ضيقها بالنسبة إلى ما تلاها من توسعات، نشاهد فيها ونلمس الفن في الطراز التركي، وهي شاهدة أنها من خير الطرز المعمارية في ذلك العهد وتحفة من تحفه.

إلأ أن ما تم في العهد السعودي الزاهر من التوسعات ابتداء من عهد المغفور له الملك عبدالعزيز، وما تلاها إلى التوسعة الأخيرة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، ومع جمال العمارة القديمة إلا أنها دون الروعة والجمال والطراز العربي الذي تم في العهد السعودي كالشمعة أمام المصباح، وأصبح المسجد النبوي تحفة من التحف المعمارية في العصر الحديث، يضاف إلى ذلك التوسعات الكبيرة المساحات التي أدخلت على الساحات والباحات التي حول المسجد النبوي، بحيث أصبح الحرم تحيط به الباحات والساحات المرصوفة بالمرمر والقيشاني من كل نواحيه، مما أضفى الجمال والجلال على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه لمحة نكتبها سريعة للحقيقة والتاريخ، وفيما سطر في كتب التاريخ عن الماضي وفي مشاهدة الحاضرة بالعيان ما يغني عن الاطلالة والبيان، وبعد فهذه المقارنة والملاحظات الشخصية نجد فيها تحليلاً عميقاً يجدر معرفتها والاطلاع عليها، ومن هنا جاءت قيمة هذه الرحلة وطريقة تدوينها وما فيها من مقارنات بين الماضي والحاضر وإن لم تكن ذات صفة ارتحالية وفيها فوائد لدراسة تاريخ الحج بين الماضي والحاضر. هذا وبالله التوفيق.

عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية

 
مقالات أخرى للكاتب