Sunday 13/10/2013 Issue 14990 الأحد 08 ذو الحجة 1434 العدد
عبد الله بن حمد الحقيل

عبد الله بن حمد الحقيل

رحلة الحج في عيون الرّحّالة والمؤرِّخين

13-10-2013

رحلة محمد الأمين الشنقيطي 1367هـ

استأثر أدب الرحلات باهتمام الكثيرين، ولذا كان محل عناية العلماء وموضع اهتمام الأدباء والمؤرخين ونستعرض رحلة الحج إلى بيت الله الحرام للعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله.

لقد ولد الشيخ رحمه الله في عام 1305هـ في شنقيط وقام بهذه الرحلة من مسقط رأسه «فرو» من موريتانيا، ولقد اشتملت هذه الرحلة على مسائل علمية ومباحث فقهية، فقد بسط فيها مباحث علمية وأدبية ولغوية وشرعية، وقد أشار رحمه الله إلى أنه قد فرغ من كتابتها في 25 من رجب 1399هـ وطبعت في عام 1403هـ، وقد وهبه الله قدرة على التعبير ودقة في التصوير حيث بعض المواقع والمواقف وما يمر له مما يستحق الذكر والتسجيل بوضوح العبارة حتى يجعله كالمحسوس المدرك بالإشارة كما يقول كاتب مقدمة الرحلة الشيخ عطية محمد سالم- رحمه الله- وهو أحد تلاميذه لقد سجل معالم الطريق وأبرز ما شاهد من مرئيات بأدق وأصدق العبارات، فقد جاءت هذه الرحلة مفعمة بالمعاني البالغة عذبة الألفاظ شيقة الأسلوب جمعت معارف كثيرة وطرائف عديدة وأشعارا بليغة تمتع، ويقابل كل ظرف وحال بما يناسبه من صبر وتحمل واستئناس وتجمل، فهي بحث كحديقة غناء بها ثمار يانعة، تمتع النظر وتثير الفكر وتورث العبر، ويجد كل ذي طبع ما يلائمه وكل ذي رغبة ما يوافقه.

فهي بحق ممتعة لكل قارئ: من أدب ونحو وفقه وأصول وتفسير وعقائد وبلاغة وشعر ومنطق وتاريخ.

ويقول الشيخ عطية محمد سالم: إن هذه الرحلة التي أتشرف بالتقديم لها قد تميزت عن جميع الرحلات بما زخرت به من مباحث غاية في الدقة وآية في الروعة، واشتملت صنوفاً وفنوناً كما أسلفنا كالروض أزاهير وأفانين، وسنوجز المقدمة بالقدر الذي يفيد قارئها ويشير إلى مباحثها ومحتوياتها كالعناوين المجملة ليكون على بينة منها.

بدأها- رحمه الله- بمقدمة رائعة الخيال في براعة الاستهلال، وبيّن الدوافع على السفر واقتحام العقبات وركوب الخطر، ومفارقة الأوطان وفراق الإخوان، وهو امتثال أمر الله حيث قال: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (سورة آل عمران 97).

ثم أخذ يسجل ما ألقي عليه من الأسئلة وما قدم عليها من الأجوبة بأحسن ما يقال في دروس تشد الرحال.

أول سؤال فيها: كان أول سؤال ألقي عليه من إحدى بنات عمومته عن اسم الجنس وعلم الجنس، والفرق بينهما وبين النكرة.

وهذا المبحث معروف عند النحويين والبلاغيين والأصوليين من أدق المباحث وأصعبها فهماً، وكذلك سألته عن الفرق بين الصفات النفسية وعن الموصوف وهذا المبحث من غوامض المباح عند المتكلمين.

والسؤال الثاني وفي منزل آخر عن القياس الاستثنائي، ثم توالت الأسئلة والأجوبة كالآتي:

وكذلك الرد بقوة على المتكلمين في قولهم بصفات نفسية لله تعالى.

ومن العقائد إلى الأدب في مجلس عن أيام العرب، ومحلهم وعن بيان ما جاء في أشعارهم عن قصار النساء وما ظنه البعض أنه في القصر ضد الطول، وإنما هو في مقصورات الخيام.

ومن الفقه إلى التفسير ورفع إيهام التعارض بين قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} (سورة الإسراء 16)، وبين قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} (سورة الأعراف 28).

ومنه إلى الأصول في القول بالموجب عند الأصوليين والبيانيين.

ولقد أوسع القول في مبحث المجاز بأقسامه كلها وما يتفرع عنه من استعارات بأقسامها ومناقشة البيانيين، مما لا يوجد في غير هذه الرحلة تقريباً حتى في كتاباته- رحمه الله- الأخرى وقد استطرد فيه إلى متعلق معنى الحرف.

وقد أقام- رحمه الله- خلال رحلته في السودان ليالي جرت له فيها مساجلات أدبية ومباحثات علمية في الفقه والمنطق تخللتها ملحمة أدبية ثم انتهى به المطاف إلى جدة فمكة فالمناسك وجرى له فيها مباحث علمية مع فضلاء جدة ومكة وعلمائها ومنها أنواع الأنساك وتدليله- رحمه الله- وبقوة على أفضلية الإفراد بالحج وفي عرفات ومن قبيل الصدفة جرى التعارف مع الأميرين خالد السديري وأخيه تركي السديري، بسبب مناقشة أدبية كانت تدور في خيمة الأميرين واختلفا في عزو بعض الأبيات لقائلها ووجدا الجواب عند الشيخ، ولقد قام الشيخ بعد الحج بالتوجه إلى المدينة فالمسجد النبوي فرأي خاص للشيخ- رحمه الله- في كيفية وحكم السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرب أو بعد.

ثم ألقى عصا التسيار وكان جلوسه مؤقتا إذ كان يعتزم العودة إلى بلاده إلى أن جرت له زيارة ومحادثة مع بعض المسؤولين عن الدعوة إلى الله في المدينة، وعن شؤون المسجد النبوي واستقر عزمه على الإقامة والاستيطان بالمدينة المنورة وفي الرياض.

ولقد بدأ تدريس التفسير في المسجد النبوي، ثم انتقل إلى المعاهد والكليات في الرياض، وقد كنت أحد تلاميذه في عام 73 - 1374هـ، ثم إلى الجامعة الإسلامية وهو بين هذا وذاك مشتغل بالتدريس والتأليف.

لقد كانت رحلته طويلة حافلة بالأعمال الجليلة وبكل فن وعلم فكلها أسئلة علمية وأجوبة عليها.

ويقول- رحمه الله- إن فائدة تقييد رحلة الحج إلى بيت الله الحرام ليستفاد بما تضمنته من المذاكرة والأحكام وأخبار البلاد والرجال وما تجول الأدباء من المجال والغرض الأكبر من ذلك تقييد ما أجبنا به عن كل سؤال علمي سئلنا عنه في جميع رحلتنا أعلم أننا خرجنا من عند أهلنا بجانب الوادي ذي البطاح والمياه والنخيل وودعنا كل قريب وبعيد.

حسبما قال الشاعر:

ومما شجاني أنها ودعت يوم ودعت

تولت وماء العين في الجفن حائر

فلما أعادت من بعيد بنظرة

إلىَّ التفاتاً أسلمته المحاجر

وكان يوم الخروج لهذه القاعدة الكبيرة لسبع وعشرين من جمادى الأخرى من سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف آمننا الله مما نخشاه من الأمام والخلف فخرجنا من بيوتنا يصحبنا بعض تلامذتنا إلى قرية اسمها «كيفة» فوصلناها في مدة خفيفة ونحن تحدى بنا الجمال في الأودية والرمال في مدة إقامتنا في كيفية «سألتنا كريمة من بنات العم وهي أم الخيرات بنت أحمد بن المختار عن مسألتين وطلبت فيهما منا التحرير وأحضرت فهم العالم النحرير.

أولاهما: ما يحيك في النفس من عدم الفرق بين علم الجنس واسم الجنس والثانية قول المتكلمين أن الصفة النفسية لا يدرك بدونها الموصوف وأن الإنسان مثلا بدون النطق غير معروف لم لا يعرف الإنسان بخواصه كالمشي على الاثنين مع الانتصاب وكالضحك وكتابة الكتاب.

فكان جوابنا على المسألة الأولى ما حاصله أن الفرق بين علم الجنس واسمه اصطدمت فيه عقول العقلاء واختلفت فيه آراء العلماء حتى قال بعضهم لا يعقل الفرق بينهما في المعنى واختيار بعض المحررين من المتأخرين من ذلك الاختلاف ما حققه ابن خاتمة من أن الفرق بينهما أمر اعتباري وهو أن علم الجنس موضوع للحقيقة الذهنية ليميزها عن غيرها من الحقائق الذهنية واسم الجنس موضوع للحقيقة باعتبار وجودها في أفرادها الخارجية ولذا كان الأول جزئياً والآخر كلياً والجزئي الحقيقي يكون علماً بالإجماع والعلم قسمان علم شخص وعلم جنس وهكذا يستمر الحوار العلمي والنقاش الفكري والحقائق العلمية والمطارحات الشعرية شأن لكل رحالة عالم وعظيم الشأن ويقابل كل سؤال بما يناسبه من جواب: فكان رحالة ينشر العلم في طريق ذهابه إلى الحج.

ولله أسأل له المغفرة والرحمة وأن يجزيه أحسن الجزاء عما بذله من علم وجهد، ورحم الله أسلافنا من الرحالة الذين كانوا ينشرون العلم والدين والمعارف والآداب والفضائل خلال رحلاتهم وما زالت آثارهم باقية خالدة في تاريخ الحضارة الإسلامية.

عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية

 
مقالات أخرى للكاتب