Saturday 19/10/2013 Issue 14996 السبت 14 ذو الحجة 1434 العدد
19-10-2013

استراحة داخل صومعة الفكر

الحصاد (2)

عبدالرحمن بن إبراهيم الحقيل

350 صفحة من القطع المتوسط

**

تمتد بنا جميعاً الرحلة مع شاعرنا الراحل عبر نتوءات ومسالك متقاطعة حادة.. بل واتهام ذاتي مليء بالصراحة الصارخة، وهو يعرف نفسه بالغبي:

ولدت والقيد في يدي

وتطلعت للحياة صبيا

فإذا بي مع الحياة غبي

لم أر في دنياي شيئاً سويا

اتهام.. أين هي الشواهد كي نصدقه؟!

راعني في الوجود بعض أناس

نهجوا في الحياة نهجاً دنيا

نهجه في الحياة دس وكيد

كي ينالوا مناصبا ورقيا

شرعة الحق عرفها نفوس

تئد الحق واضحا وجلياً

تعبت أنفس وشاهت وجوه

تخذت من ذواتها الكل شبا

لم يعد هو الغبي.. كان الشاهد عليه.. والشاهد لحاله.. حالة مرضية متجذرة في حياة الانسان لا تحجبها العين ولا تخطئها الملاحظة.. إنه طموح الجنوح الذي يدفع الواحد منا للعبور عبر بوابة النرجسية والذاتية والايذاء للغير دون اكتراث بأحقية الغير.. المصلحة أولاً وأخيراً.. وبعدها الطوفان!

ومن طوفان المكيدة والنكد يأخذنا معه نحو زورقه المفقود عله يعود إليه سالماً:

زورقي على درب الحياة لفه الموج

وألقى بشراعيه شريد

يتلوى غير قادر يتهادى ويحاذر

عائم ظل وعيد

يسائل عن زورقه الرواسي.. وما يكابده من مآسي.. والرواسي لا تجيب لأنها كزورق عجماء لا تنطق.. يتذكره قبل أن يلفه التيه المائج والهائج..

كان بالأمس قريباً شامخاً

هادراً يعلو الجليد..

يمخر البحر عبابا.. وبيسر يقهر اليم عنيد..

زورق شاعرنا ككل زوارق الحياة يأخذها الموج تارة إلى أعماقه.. ويسالمها ثانية ويسلمها نحو شطر الأمان.. تماماً كالأعمار في وجه الاعصار تتهاوى.. وتماط على صفحة الماء المسالم تتهاوى.. لا غرابة تستدعي الحزن.. ولا نهاية تستمطر الدموع.

ذات ليلة موحشة بحلها تمثل الشيخ أمامه فأفزعه.. أكثر من مرة عاوده.. فأيقظ لديه حاسة الشعر:

شبح كان مر بي في منامي

قال خذه.. ولا تسل عن مرامي:

وأنت من أنت تنشد المستحيلا

وتروم البقاء جيلاً فجيلا

ذاك وهم وعناء وخيال

فدع الموهم فالحياة سجال

ولتنظر يومك القريب فإني

رحت نصحا وليس ذا بالتجني

نصيحة شبح اقمته مذعورا.. ومبهوراً.. وأسلمته إلى المرء.. بيات وأبيات بأبياته:

ايها الشيطان غادر ارضنا

فخرافي مراعيها هنا

وكلاب الصيد في قطعاننا

تحرس الحي كذا جيرانها

وانا الباقي على مر السنين

بعنادي رغم أنف الحاقدين

قابل الصياح بصياح املاً في السلامة.. ولكن البقاء لله وحده.. لا أحد يبقى على مر السنين.. الشواهد بينه.. المهم العربي واحد من اهتمامات شاعرنا وشؤونه وشجونه أفرد له أكثر من عنوان اصطفى من بينها مقطوعته عن (القدس):

يا أمة عصفت بها هوج الرياح

وتناثرت اشلاؤها فوق البطاح

اين العمالقة الأولى شاكي للسلاح

كالغافقي وعقبة وأين أيوب صلاح؟!

ذهبوا وعشنا للتمزق والنواح

وتعطلت قدراتنا فتكسرت كل الرماح

القدس قدس الله اثخن بالجراح

يا امتي دعي الوتر الحزين مع الصباح

عودي إلى النهج القويم حي على الفلاح

وزراعة للنفط بها التكامل في النجاح

غضبة مضرية أطلقها تقول: لا يفل الحديد الا الحديد لا حرية مع الضعف ولا تكامل مع التشرذم.. ولا تحرير مع الاستكانة..

وكما له صوت مع القدس (كان له تساؤل مع الشمس) حين الضياء والنهار والابهار.

أتراها قد أذنت بالمغيب؟

وكوارث خلف الضباب الرهيب؟

أم ترانا في حمأة الرجس بتنا

نعشق الشمس في دياجي الخطوب؟

منذ كان الموعود كانت ذكاء

قبس الكائنات عبر الدروب

هي رمز الحياة في كل فجر

وفناء لكل جسم غريب

ملاحظتان.. مفردة (ذكاء) الانسب منها بهاء ثم في كل فجر الأصح في كل صبح ويختتم قصيدته مناشداً شمسه:

أشرقي يا ذكاء لا تحرمينا

واغمري بالضياء دنيا القلوب

للصراحة والوضوح في شعره مكانة ومكان هذا ما عبر عنه بقوله:

ما للصراحة قد ضاعت معانيها

واصبحت لعنة تؤذي مريديها

فكل نذل بهذا العصر مفترس

لكل ذي عفة لو كاد يخفيها

وألبس الحق اثواباً منمقة

من الأباطيل حكت في معانيها

سحقاً لقوم يعيش اليوم أكثرهم

زوراً وخبثاً واغراء وتمويها

انها أخلاق العصر الذي يرى في الصدق جانب ضعف وفي الأمانة وجه غباء لا ذكاء..!

انزوى شاعرنا في كهفه وقد أبصر عالمه دون دليل يسوق نحو مرفأه السلامة والأمان.

يا شاعر الأرض خفف نغمة الوتر

وانع الاباة أباة الضيم من حضر

لم يبق من مجدهم ذكر سوى أثر

داست عليه رعاة البغي الوتر

تقمصوا حللاً ليست لهم أبداً

وضيعوا قيماً في الأصل والأثر

يريد أن يعيد لنا مقولة شاعرنا القديم:

أضاعوني.. وأي فتى اضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر

كلاهما ينعي حاضره الذي تخلى عن ثوابته التاريخية وتحول إلى تابع قابع في الضوء لا متبوع ولا حتى متلقي.

يعود بنا إلى الشعر العذري حيث الصبابة والهوى.. وحيث الصبايا التي شبهها بالدرر.. هكذا أعمل فكره وشعره غزلاً فاتناً:

قلبك الخفاق دوماً بالرؤى

جعل الذكرى على كل لسان

ونزيف القلب يشفي أنفسا

عافت الدنيا وضاقت بالهوان

قلبك المعمر مديداً بالعطاء

ولك الغيد تداعت في ثوان

كان حبه أقوى، من دقات قلبه لأنه حب روح لا جسد.

(القدس) عنوان.. فهل أعطى القوس لباريها؟!

ليله طال لم ينم

لا عن سهاد أو سقم

عن ماذا يتحدث وقد استبعد السهر والضجر من هواجسه؟!.. ان هاجسه الغامض الذي لم تبن ملامحه بعد:

اكتشفه أخيراً يلوع في مخيلته:

هو عنقاء مغرب

أو شادن بذي سلم

حاول جهداً صيده

حتى توارى في الأطم

سهمه طاش.. وتاه.. لم يعد له فائدة حطمه وارتمى كعاشق لم يبق له الا بعض ذكريات رمادية ذرتها الرياح.. راح يبحث بشعره ومشاعره عن صيد ثمين يعوضه عما فات فهل نجح؟!

غنى الهزار فصاحت جارة الوادي

ما للهزار يغني للهوى الغادي؟!

أما رآني والأيام تعركني؟!

وان تغريده رجع لانشادي؟!

رغم كل تساؤله عاد يخفي حنينه لم يبق للحونه منزلة لقد تاهت هي الأخرى.. وحده اليوم الذي كان رفيقه في حمى واديه.. راحلنا الحقيل بينه وبين المادة المتسلطة جفاوة بل عداوة.. هكذا أعلنها في ساحة نزاله:

لا تجعل المال في دنياك صومعة

ووازن الأمر إن المال شيطان

إن كان في قلب عبد المال متسع

لبائس هده جوع وحرمان

فإنه سيصالحه.. وينسحب من معركة خصومته.. هكذا يرى الثروة قيمة اطارها نفعي انساني لا ذاتي يحكمه البخل.. ويتحكم فيه الجشع والاحتكار.. والاختصار لمن لا يملكون فما يجدون.

ومن جشع المادة يأخذنا إلى النفس الأمارة بالسوء.. وما أسوأها:

النفس امارة بالسوء فانابها

عن كل ما قد يمس النفس من وصم

فإن في ضعفها موتا لصاحبها

وان بدا في ثياب الخز والنعم

فمسلك المرء مخبوء بجوهره

والجوهر الحق في الأخلاق والقيم

هكذا يرى الثروة سلوكا وعطاء ومشاركة.. وقبل هذا وذاك مدخل شريف للثروة لا تبهة فيه ولا استلاب معه:

أحاول جاهداً مع شاعرنا النقلة من محطة إلى أخرى في خيار صعب بين عناوينه المتعددة متجاوزاً الكثير والمتشابه منها (الغجرية) عندها توقف الركب للتعرف على قصتها:

أي سر قد توارى

في عيون الغجرية؟!

جيدها جيد غزال

بقوام سمهرية

تتحلى بسوار

وبقرط أمهرية

توصيف وتوظيف لمفردات الوصف.. ماذا بعد؟!

تقرأ الفنجان لكن

لقلوب حجرية

قلت ان يا هذي هلمي

انت بالشعر حريه

أعرضت عني وقالت

هي ليست بعذريه

هي صنف يتغذى

بدماء بشرية

هي رمز الظلال

نسمات حضرية

حسناً قال عنها.. إنها بائعة هوى لا تستحق أكثر من أبيات شعر همجية.. وصمت..

تتلاحق أبيات وعناوين الشعر كحبات المطر المنهمر لا يتوقف.. نقف سوياً معه أمام تلك الملهمة التي اجتذبته إليها:

استلهم الحرف في أحضان ملهمتي

لكن ملهمتي تلهو بمرآت

أودعتها خلجات القلب في صور

ما بال جوهرها عني بمنآت

تهاب كل أفين في محبتها

وتستجيب لداع المكر والذات

لكن..! وماذا بعد لكن!

لكن أرومتها تنبيك عن خبر

معزز بكرام الأصل رايات

لذا فصورتها في القلب باقية

فحبها ليس مرهوناً بأوقات

تستحق عنواناً آخر غير الملهمة مثلاً (المخادعة) أو (عاشقة المرأة)..

أخيراً اختتم الحلقة مع راحلته الشاعر عبد الرحمن الحقيل عبر ديوانه (الحصا) بمقطوعته الجميلة عن هتاف الليل والحراق والوحدة والوحشة وبقايا العمر:

وهاتف في الليل يهتف لي

إلى متى تبدد بوجه حزين؟

قلت استمع مني فلي قصة

في سالف الأيام عبر السنين

اردت من سني أغلى المنى

فطوقتني بالمنى والأنين

تريد عمراً همه نفسه

أو قميئاً مع التعالي المشين

يا هاتف الليل إلى الملتقى

فربي الأوحد أقوى معين

هتاف ليل... أو هاتف ليل طرق مسامعه متسائلاً أسباب حزنه.. وكأنما الحزن في الحياة وجه غريب عنها.. حدق الأسباب دون تفاصيل.. والتفاصيل معروفة.. ومألوفة في حياة كل واحد منها لخصها شاعرنا العربي في بيت شعر واحد:

كل من لاقيت يشكو دهره

ليت شعري هذه الدنيا لمن؟!

وجه ربيع نعيشه ونتجاهله.. ووجه صقيع نعاني منه ونعنيه.. شباب سرعان ما يمر دون حساب وشيخوخة بوهنها وعجزها ومللها تحملنا على الشكوى ونحن ندفع الضريبة.. ونتلقى الضرب الموجع لنهاية مرحلة..

ألا ليت الشباب يعود يوماً

فأخبره بما فعل المشيب

والشباب لا يعود.. لأن العمر ذهاب دون اياب ينقله إلينا هاتف الليل بنبرة تذكير ونحن نجتر الأحلام المزعجة بكل كوابيسها.. إنه عمر لا مفر منه ولا مهرب في يسره وفي عسره.. نهاية قبر.

الرياض ص.ب 231185 - الرمز 11321 - فاكس: 2053338

 
مقالات أخرى للكاتب