Thursday 24/10/2013 Issue 15001 الخميس 19 ذو الحجة 1434 العدد
24-10-2013

نَشْرُ الأريج بعد الإرواء مِن الرَّحيق لِمُداخَلَة العتيق: (2 - 3)

والوقفة الخامسة: أن الموازنة بين القصيمي والدكاترة زكي مبارك ونيتشه مقارنة جائرة؛ فأما القصيمي ونيتشه فالموازنة بينهما موازنة بين أهل الإلحاد، وهم متفاضلون في العبقريَّة المُنحطَّة من جهة القُدْرة على التضليل، ومن ناحية السَّعة في تحصيل العلم (العلم النافع بالاعتداء عليه تضليلاً، والعلمِ الضارِّ بالحيف معه تلميعاً؛ ليكون بديلاً)، ومن ناحية البيئة والدين المأثور، ومن ناحية النُّواح.. ورذائل إلحاد القصيمي في سذاجتها لا تصل إلى مستوى رذائل إلحاد نيتشه من جهة الشَّيطَنة؛ فلنبدأ بقراءات نيتشه قبل التعرض لمنهجه في التأليف؛ فقد كان حاوياً ثقافة بيئته في الحسبانية والإلحاد بعمق، وكان مُقتضِباً من دينه المأثور اقتِضاباً، وكان على مَنْهج من أسلفتهم في السلوك الحُرِّ المُتَخَلِّي عن مسؤولية العقل تجاه الوجود الذي لا ندركه بالمعرفة الحسية في دنيانا؛ فكان سلوكه الحُرُّ التصميمَ على أن ما لا يُعرف (وأهمل مدلول يُعْلَم) أمرٌ لا يعنيه؛ فلن يعيش مسؤوليته، وبهذا السلوك الحرِّ غَيَّب براهين الواقِع المغيَّب من الحسِّ في الآفاق والأنفس، وأهمل إلحاح العقل على التزام ضروراته بعد التفكير العلمي الجادِّ، وأهمل قلق القلب الذي هو مصدر المشاعر؛ فلا طمأنينة له إلا على ضرورات العقل؛ فلم يبق أمامه حينئذ في التعامل مع الواقع المُغَيَّب إلا العنادُ والمكابرةُ وإخفاء نزوع العقل وطمأنينة القلب.. وجاء هذا الخلل عنده وعند أمثاله من التعامي عن بُنى لا تقوم التجربةُ، ولا معرفةُ الواقع المشهود، ولا إنجازات العلم الحديث - التي لا اختلاف فيها - إلا بها؛ وأهمُّ تلك البُنى أن معرفة المحسوس الركيزةُ للانطلاق إلى العلم به أو ببعض ظواهره؛ وذلك بالاستزادة من حِسٍّ مكرَّر؛ فطعم التفاحة ولونها معرفة، وقيمتها الغذائية علم حصل بعدد من التجارِب التي تضبط نَفْعَها، وتضبط الوضعِيَّات والأحوال التي تمنع من نفعها؛ فهذا أبسط إدراكٍ علمي.. ومن مجموع المعرفة البشرية الحِسِّية وُجدت ظواهر حسيَّة تدل على وجودِ أمورٍ مُغَيَّبة تشهد عليها آثارها؛ فما كان العلم البشري في طفولته يعرف شيئاً من عناصر الطبيعة غير أربعة عناصر عامة يسمونها باللغة اليونانية (الأَسْطُقْسات)، وهي الماء والتراب والهواء والنار؛ وَلِقيام العلم الحديث - وذلك هو فطرة العقل - على الانطلاق من المعرفة الحِسِّيَّة إلى العلم بما لم يكن معرفة بعد: أَحْدَثَتْ التجارب اكتشافاً واختراعاً؛ فتجلَّى للعقل والحس علمٌ بعناصر مشتقة ومركَّبة من العناصر الأربعة، وقد وصل ما عُلِمَ منها إلى عشرين ومئة عُنصر عُرِفت بالعناصر الكيميائية، وكانت علماً من المحسوس، وكانت أساساً في مُسْتَجِدَّات الكشف من الكون، ومُنْجزات الاختراع.. وقناعةُ نِيْتْشَهْ وأمثاله بسلوكهم الحرِّ عاندت وكابرت؛ بجعْلِ العلم الحديث المعروف مُشاهدةً حسبانياً؛ وذلك بالتعامي عن قيام العلم الحديث على الانطلاق من المحسوس إلى غير المحسوس؛ فهذه هي الركيزة الأولى للعناد والمكابرة.. ومِن تلك البُنى (وجُودُ هذا الكون) الذي نشاهد وندرك بكل الحواس أو ببعضها ما بدا لنا منه، ونحن جزء من هذا الكون، والعقل البشري المخلوق مفطور من خالقه على طبيعةٍ في الإدراك لا سبيل إلى تبديلها أو تحويلها؛ لأن العقل مسبوق بما هو موجود وليس صانعاً له، وقصاراه ونهايته أن يعرف ما التقطه حِسُّه تصوُّراً، وأن يعلمه حُكْماً، وأن يُفيد من مجموع تصوراته وأحكامه في ابتغاء معرفة ما غاب عنه لَمْساً باليد؛ لينطلق إلى علم به.. والعقل بفطرة السببية لحوح على معرفة سبب وجود هذا الكون ووجوده هو، وفي فطرته التي لا يستطيع تجاوزها قسمةٌ حاصرة هي في وجودها غريزة، وهي في حَصْرها مكوَّنةٌ من جميع معارفه وعلومه منذ بلغ التمييز؛ فلم يجد العقل في ضرورة القسمة سوى أربعة احتمالات لا خامس لها: فإما أن يكون الكون حدث بلا سبب، بل بمصادفةٍ غير مُعلَّلة، وإمَّا أن يكون أوجد نفسه، وإما أن يكون أوجده خالقون كُثُر دفْعةً واحدة أو بالتناوب، وإما أن يكون مُوْجِده واحداً؛ فأما أن الكون أوجد نفسه فكلمةٌ مُحالةُ المعنى لغة؛ لأنه قبل الخلق ما كان شيئٌ اسمه كون يَخْلُق، وبعد وجوده كان شيئاً بعد أن لم يكن شيئاً؛ فجملتا (شيئ) و(لا شيئ) تنفيان أن يكون (لا شيئ) كوناً يَخْلق، وأن تكون (شيئ) هي نفسَها (لا شيئ)؛ فيصحُّ أنه خلق نفسه.. وأما المصادفة فلا وجود لها في الكون ببرهان الاحتمال (بل اليقين) الرابع الذي سيأتي إن شاء الله الكلامُ عنه، وأما المصادفة في دنيا البشر فموجودة علماً وعملاً؛ فقد يجتمع الفرد بمن طال شوقه إلى لقائه من غير علمٍ وميعادٍ مُسبَق.. وقد يعمل عملاً يُنْتج مصادفةً ما لم يقصده، وهذه المصادفة العملية عمياء؛ لأنك لو ملأت فمك بالحبر ثم مججته رشاً على لوح لم تخرج لك حروف وسطور مقروءة قد قَصَدْتَها، وقد يوجد من الرش كلمة أو حرف أو صورة شيئو صورة بعض شيئ لم تكن قاصداً فِعلها.. وأما أن الكون وُجِد بلا سبب فلا سند له إلا ما مرَّ بُطلانه من كونه وُجِد مصادفة، أو خَلَق نفسه؛ ولهذا جمعتُ هذين الاحتمالين مع السبب في احتمالٍ واحد، ونفي السبب ليس في فطرة العقل ولا يقوى على تَصوُّره.. خذ مثلاً رجلاً سافر وبيته مليئ بالأوساخ وأجزاء من ثيابه وفراشه وَسِخَهِ، وكل ذلك مبعثر في الأرض، وليس عنده زوجة ولا ولد ولا خادم، ثم عاد فوجد بيته نظيفاً مكنوساً، وفراشه نظيفاً مطوياً، ولباسه نظيفاً مُعلَّقاً؛ فهل يقوى أي عقل أن يقول: حصل هذا بلا سبب؟!.. كلَّا؛ لأن السبب من يقينه، ولكنه قد يجهل من هو فاعلُ السبب.. هذا في دنيا البشر في أعمالهم، وأما ما يحدث في الكون ولو من فعل البشر أنفسهم فلا يكون سببه الكافي إلا إرادة الله وإقداره بعض مخلوقاته.. وأما الاحتمال الثالث، وهو أن خالق الكون أكثر من خالق فهذا غير مُتَصَوَّرٍ بأبسط عناصر الإدراك الحسي مَعْرفةً، وإدراك ما ظهر منه عِلْماً؛ بل العقلُ ينفي التعدُّد بإحالة تصوُّره، ويوجب الوحدانية بحتمية عقلية؛ لأن نظامه في أفلاكه الجامدة وأحيائه يدل على إرادة واحد، ونظام لا يحتمل التنازع، وقد أفضتُ عن هذا في غير هذا الموضع بهذه الجريدة عند تحليلي (برهان التَّمانُع)، وفي تحليلي (البرهان الأونطولوجي) كدلالته على أن أيَّ ظاهرة في الكون كالعظمة مُتحَتِّمةُ الدلالةِ على أن مُوجِد الكون واحد أعظم.. وأما اليقين الذي جعلته احتمالاً رابعاً على منهج التَّنَزُّل في الاستدلال ثقةً بحتميَّة البرهان فقد أظهره إحالةُ بقيةِ الأقسام التي لا يتصور العقل غيرها.. ويبقى الآن التساؤل عن سعةِ انتشار ظاهرة الإلحاد، ووجود الحَيْرة على الرُّغم من وضوح حتمية الوحدانية؟!.

قال أبو عبدالرحمن: هذا أمر يعترف به جهابذة المؤمنين، ويقولون: (العقلُ يأتي بِمَحارات العقول لا بِمُحالاتها)، وأُحَلِّل لكم الآن هذا الاعتراف بأمر واقعي مُظْهِرٍ أن حيرة العقل ليست شكَّاً فيما آمن به العقل، ولكنها رَغْبة في النفس بأن يحصل العقل على زيادة معرفة تجعل المعلوم معرفةً حسيةً مباشرة.. ومنها ما هو غفلة عما هو شرطٌ للعلم الذي حصل؛ فأما الحَيْرةُ الأولى التي هي زيادة رغبة فإن النفس البشرية تَوَدُّ أن يتحوَّل عِلْمها اليقيني بخالق واحد إلى معرفة حِسِّيَّة مُباشرة، وهي في الوقت نفسه تعلم أن الخالق ليس كالمخلوق ما دام عِلْمُها استقرَّ على الوحدانية في الكمال والتَّنَزُّه، والوحدانية التي كانت علماً ضرورياً لا معرفة حسية مباشِرة تأبى أن يكون في المخلوقات المُشاهَدَة شِبْهٌ من وَجْهٍ أو أَوْجُهٍ، وتأبى أن يكون للخالق ندٌّ مُماثل.. كما أن النفس البشرية تعلم بضرورة العقل أن العلم اليقيني حصل عن واقعٍ مغيِّب يقيني؛ فمُحالٌ أن يكون الواقع المغيَّب معرفة حسية مباشرة؛ ولهذا انطلق العقل الإنساني المشترك من طبيعته التي هي تسلسل رياضي؛ فلما حصل له العلم اليقيني بإله واحد له الكمال والتنزُّه بإطلاقٍ: أسلمه إيمانه إلى علم ضروري آخر، وهو أنه لا يصدر عن ذي الكمال والتنزُّه المطلق إلا ما هو كمال معصوم، ثم أسلمه هذا العلم إلى تحصيل العلم من نظر العقل فيما هو محسوس بحال هذا المنسوب صدوره إلى ذي الكمال والتنزه بإطلاقٍ كنصوص الشرع يَمْخضها - بالخاء المعجمة - ثبوتاً ودلالة؛ فلمَّا حَصَل له بذلك المخض أنه صدر عن ذي الكمال بإطلاقٍ ذلك الخَبرُ بأنه ليس كمثله شيئ (أي لا شِبْهَ لما هو ماثل من صفاته له بعلمه بنفسه جل جلاله، وما هو ماثل للمكلفين بالوصف لا بالتشبيه أو التمثيل.. والوصف جاء بلغة مفهومة قطعية لا احتمال فيها؛ فهذا شأن الخبر عن صفات الله)، وصدر عنه الخبر بأن الأبصار لا تدركه، وصح الخبر بأن الناس يوم النشور (الذي هو عالَم الشهادة بعد أن كان عالَم الغيب في الدنيا) سيؤمنون كلهم بما يرونه من واحدية المُلك بضم الميم والمِلك بكسر الميم لله وحده، وبما يسمعه الكافرون من حسابه لهم وتوبيخه إياهم، وبما يمنحه الله المؤمنين من رؤيتهم ربهم في الجنة رؤية لا يُضامُون عنها وليست رؤية إدراكٍ محيط؛ فصار ما سُمِّي حيرة مجردة هو حيرةَ العقل في تحصيل معرفة حسية مباشِرة في عالَم الغيب، وهي حيرة رغبة جمحة تريد أن يكون العلم في هذه الدنيا معرفة مباشرة، وليست حيرةً في صدق ما علموه؛ لهذا انطلق المؤمن من إيمانه الذي لا يعتريه أدنى شك إلى تحقيق ماهية العلم بالواقع المغيَّب من طبيعة العقل الرياضي نفسه الذي لا يُغيِّب برهان ما عَلِم، ولا يدَّعي عِلْم ما لا يعلم؛ فأحال تحويل العلم بالواقع المغيب إلى معرفة قياسية بما هو مشاهَد يكون منه التشبيه، والتمثيل، وبيان الكيفية، والتحديد، والمِقدار.. والبُنْيةُ الثالثة أنك تجد في يدك ما أحاطت به كلُّ منافذ حِسِّك بالمعرفة، ووصل علمك إلى شيئ أو أشياء فيه كما مَرَّ عن القيمة الغذائية في التفاحة.. وهناك أشياء أحاط بمعرفتها إدراكُك الحسيُّ، ولكنك تموت وتموت أجيال كثيرة بعدك لم تعلم بصيرورتها عن طبيعتها، وتعلم علماً مُجملاً أن التفاحة الذاوية في شجرتها المهملة سَتَتَفَتَّتُ في التراب وتكون جزءاً منه بعد أن كانت هشيماً تذروه الرياح، أو تذوب في الماء فتكون جزءاً منه.. وبمنطق الصيرورة تتشوَّف نفسك إلى معرفة الصيرورات التي تحوَّل بها ماء البحر إلى مِلْحٍ كثيف، ولكنَّ الخبرَ الشرعي المعصوم عن أيام خلْق الأرض يريحك بأن ماء البحر خُلِق بكثافة مِلْحِه بلا صيرورات؛ لأنه سَكَنٌ لأحياء لا تعيش إلا بمقدار من هذه الملوحة، وهذا لا يمنع من صيرورات تجعل بعض الملح البسيط كثيفاً، وبعض الكثيف بسيطاً؛ لأن الله فعَّال لما يريد، ولأن الله قال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (41) سورة الروم.. إلا أنك تعلم علماً يقينياً من صيرورة الملح في الماء إلى كثافة بتجرِبةٍ مشروطة بوضعيَّتها كأن تأخذ كَمِّيةً من الماء عذبة، وتجعلها في أرض أظهر الاختبار أنها غير سبخة لا مُلُوحة فيها، وتضعه في حاجز عن التسرب، وتمنع من تبخُّره بغطاء مدة عام أو عامين تستخرج مما بقي منه أو من طينته مقدار كثافة الملوحة فيه؛ فتحكم بأن مقدار هذه الكثافة، في هذه الوضعية، تتكون في هذا المقدار من الزمن، ثم تستغني عن التجربة وتبني على يقينها، فتضاعف مقدار الملوحة عشر مرات، وتضاعِف الزمن عشر مرات، وتُبقي الوضعية على حالها؛ فتعلم علماً حُكميّاً بأن هذه الكثافة المضاعَفة على تلك الوضعية تحصل في ذلك الزمن المضاعَف.. إلا أن منطق الصيرورة العلمي وَلَّد للسلوك الحُرِّ حيرةً عنادية في نظرية المعرفة واللم؛ فقال الحسبانيون: (لا نعرف ولا نعلم حقائق، وإنما عندنا ظواهر في صيرورة دائمة؛ فهذا الجسم الذي تحمله قوائمنا في صيرورة دائمة من موت خَلِية، ونماء خَلِيَّة)، وهذه الحسبانية افتراءٌ على المعرفة والعلم؛ لأن ما عرفناه وعلمنا به من ظواهر حقائقُ ثابتةٌ حالَ معرفتنا وعلمنا، وما يحدث من صيرورة متواليةٍ أو على مَهلٍ حقائقُ لم يَحِنْ زمنُ علمنا بها عن مشاهدة كفيئ الشمس بأقل من الثانية هو في علمنا، ولكننا لا نكتشفه بمعرفة مباشرة إلا بعد ظهور ظلٍّ نقيسه ولو بِعرض الشعرة من رؤوسنا.. فهذه البُنى الثلاث هي التي أنتجت حيرةَ النفس في التشوُّف إلى مزيد معرفة مباشِرة، ولا سبيل ألبتة إلى حيرتها في صدق ما عرفناه وعلمناه بضرورة العقل.

قال أبو عبدالرحمن: وسبب الحَيْرة الآخر الغفلة عن الاحتمال العقلي الذي نفاه المتعيَّن، فضرورة العقل حكمتْ بأن العقل يُحيل تَصَوُّرَ وجودٍ بلا سبب هو مُوجِدُه، ثم تنبعث الحيرة من تَصَوُّر العقل شيئاً لا أول له، وهو على امتداد (لا أَوَّلية) بلا نهاية.. فيقال: (هذا التصوُّرُ حَقٌّ في مجمله، وقد ألغاه المُتَعيِّن في تفصيله)؛ وبيان ذلك أن العقل الذي أحال الموجودات بلا مُوجِد علم أن المُوجِدَ واحد في الكمال المطلق والتنزُّه المطلق؛ فلو كان مسبوقاً بخالقٍ له لتناقض يقينُ العقل بواحدية الكمال؛ فهذا المتعيِّن أسقط احتمالَ (أن لكل خالق خالقاً)، ولم يُسقط تصوُّرَ (ما لا بداية له)؛ فالعقل يتصور زمناً سرمدياً متوالياً لم يوجد بَعْدُ ما يضبطه؛ ففي هذا صِحَّةُ تصوُّرِ العقل ما لا بداية له.. إلا أن الزمن السرمدي صورة عَدَمِيَّة لا تتصف بواحدية الكمال، فلما تعيَّن لنا من نظر العقل في المشاهدة الحسية أن الكون لا يصدر إلا عن خالق واحد له الكمال المطلق والتنزُّه المطلق، ومن كماله أنه أوُّلٌّ ولا شيئ قبله، وأنه حي باقٍ دائم فعَّال لما يريد فلن يكون له بَعْدٌ، ولن يكون شيئ بعده.. ولما كانت الأوليةُ بلا بداية والآخِرِيَّة بلا نهاية مُتَصَوَّرةً بالزمن السرمدي بلا بداية، وبالعدد بلا نهاية، وأوجب العلمُ أنه لا واحديةَ في كمال الصورة للزمن السرمدي، وصورة الأعداد غير المتناهية، وتعيَّن بمعرفة العقل وعلمه من الآفاق والأنفس أن الكون غير مفهوم وجوده إلا بخالق له الواحدية المطلقة في الكمال والتنزُّه: علمنا أن هذا المعيَّن نفى المتوهَّم من زمنٍ لا بداية له، وأثبت تصوُّر ما لا أول له على الكمال والتنزُّه؛ فكان الزمن الذي لا أول له مسبوقاً بذي الكمال الذي لا أوَّل له؛ فهو الذي أحصاه فلا سرمدية عنده جلَ جلاله غير مُحصاة، وهو الذي خلق ما يُحصيه كدوران الأفلاك.. ولقد شنَّع بعض الناس على الإمام ابن تيمية لما قال ما مُوجَزُ فحواه: (الأحداث لا أول لها إلا كونها مسبوقة بخالقها بإرادته وهو الأول بلا بداية، ولا نهاية لها إلا أنها تتعاقب وتتجدَّد بإرادة خالقها الآخِرِ بلا نهاية؛ لأنه الحي القيوم الباقي الدائم): قالوا: (هذا هو إلحاد ابن رشد الحفيد عن قِدم العالَم ومزامنته لخالقه)؛ فيا عباد الله: كيف تصح هذه الدعوى الآثمة والإمام ابن تيمية يقول: (مسبوقة بخالقها بإرادته) و(وتتجدَّد وتتعاقب بإرادة خالقها)؟؟!!، ويف تصح ولغتها من صريح النص الشرعي في القرآن الكريم والحديث الصحيح.. قال تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) سورة الحديد، وقال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (27) سورة الرحمن، وقال تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (16) سورة البروج، وقال تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (29) سورة الرحمن.

قال أبو عبدالرحمن: أطلتُ على الأخ سليمان العتيق باللُّبِّ الذي صرف اهتمامنا بأمثال عبث القصيمي، ولولاه ما حَرَّك مِنَّا ساكناً.. أطلتُ بذلك لأنني لست من كُتَّاب (ما قلَّ ودلَّ)؛ لأن هذه الجملةَ تعني قناعة صاحبها بلا برهان ومعاناة علمية وفكرية وهذا لا يعنينا؛ وإنما يعني طُلَّاب الحقائق ما أوجبت الضرورةُ كثرتَه؛ ليكون المدلولُ الوجيزُ يقينياً أو رُجحانياً؛ فكلُّ معارف البشر تنتهي إلى (ما قَلَّ) بمفردة أو مفردتين من الأحكام والتصورات مثل: هذا حلو أو حامض، نافع أو ضار، ممكن أو مُستحيل، عدل أو جورٍ، صحيح أو فاسد.. إلخ؛ فهذه المفردات اللغوية لا تكون معرفة أو علماً يقينياً أو رجحانياً إلا بعد عناء الاستقراء، وبَسْطِ التصوُّر بالتعريف والمثال الشارح والتقسيم والجمع والمنع، ثم التأسيس بالبراهين ودفْع الشُّبَه، وعدالة المعارضة.. وأُسْوتُنا كلام ربنا جل جلاله، فلم يُبيِّن للناس تفصيل الشريعة، ولم يكلِّفهم بمجملها إلا بعد مُضِيِّ زمنٍ أكثرَ في السُّورِ المكية؛ بإظهار براهين الله من خَلقه المُشاهَد في الآفاق والأنفس حتى قامت الحجة، وانتهت حرية التفكير بالتزام الضرورة؛ فلم يبق عند مَن تَبَيَّن له الحق في نفسه وجحده إلا حريةُ السلوك بالعِناد.

والوقفة السادسة: أن (نيتشه) مُقْتَضِبٌ من دينه المأثور غير مستوعبٍ ولا مُدَقِّق؛ فَشَغَلَه المأثور الخرافي الوضعي؛ فأخذ بالسلوكِ الحرِّ الذي أسلفته مستسهلاً التملُّص من مسؤولية ضرورات العقل والعلم عن الواقع المغيب، وربنا أخبر عن هذه الضرورة في أنفسنا على سبيل التنبيه إليها، والتحذير من التخلي عن مسؤوليتها؛ فقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء؛ فهذه الآية مع آيات الأمر بالتفكُّر، والتحذير من جحد ما هو معلوم حَدَّدت مسؤولية العقل (والخطاب للفؤاد؛ لأنه لا أثر للمعقول حتى يكون يقيناً يطمئن إليه القلب، وينفعل من أجله)،والحواس: بأن لا يفتري ما لاعلم له به، وأن لا يجحد ما علمه، وأن لا يُعَطِّل وسائل كسبه العلم بيقين أو رجحان أو توقُّف.. ونيتشه وأمثاله اقترفوا كل هذه الرذائل الثلاث؛ فما كلَّف نفسَه أن يكون جادّاً في دراسة الأديان بفقه مُقَارَن، وما كلَّف نفسه أن يفحص نسخ العهدين القديم والجديد بلغتهما التي وردا بها؛ فَيَسْتبين ما أعماه التأويلُ بتحْريف الكلم الذي هو صرف المفردات الثابتة عن معانيها؛ فهذا هو المفتاح الأَول، والمفتاح الثاني من دراسة الأديان المقارَنة بحضور العقل بكل ملكاته؛ فتظهر له عناصر الحق والخير والجمال الباقية المُشتركة بين الأديان، ويستبين له الدين الوضعي الذي هو افتراء كلام بمعانٍ مُوْبقة وليس هو تحريف الكلم عن مواضعه وحسب.. والقصيمي بخلاف كل ما أسلفته؛ فليس هو في سعة احتواء نيتشه لفكر عصره، وليس هو وارث دين وضعي مثل نيتشه، بل هو وارث دين صحيح، لكنَّ إيمانه به كان على حرفٍ لمَّا لم يجد مَن يُحْسِن التفاهم معه فيما استشكله من عُقْدة القضاء والقدر، والغيريَّات الأخرى تأتي في موضعها من الوقفات إن شاء الله.

والوقفة السابعة: أن نيتشه لمَّا انقاد لسلوكه الحرِّ، وأعلن كلمته القبيحة عن موت الإيمان، ولا أستطيع التفوُّه بنصِّ عبارته الكافرة: سلك في التأليف مسلك البرهان الشعري العاطفي؛ فلم يعبأ بالتأصيل الفلسفي كما عند (كانط)، و(هيوم) ، و(رسل)، و(مِل).. إلخ؛ بل اعتمد تأليف شذراتٍ متتاليةٍ منفصلٍ بعضها عن بعض على أنها حِكم؛ فكان بيكون شبيهاً به في حِكَمِه التضليلية المتناثرة في الأرغانون الجديد - وقد تُرجم لي بحمد الله ما ألَّفه منه - مع أنه ذو تأصيل فلسفي للمذهب الوضعي.. وجعل نيتشه حِكَمَهُ في دوَّامة (هيجل) الذي جاء بعده من جهة الغموض، وسَعةِ الاحتمال إلا احتمالَ الحق.. واسترحل نيتشه الرواية الأدبية في (هكذا تكلم زرادشت)؛ لتعميق الخطاب الشعري العاطفي.. وعلى الرغم من كل هذا الداء فلم يكن القصيمي في قامة نيتشه مِن جهة سعة الاحتواء للثقافات، وقدرته على التضليل؛ لأن ثقافة القصيمي تراثية تخلَّى عنها وهجرها، وعاد إلى أصداءَ منها في ذاكرته تصدَّى لها بتضليل هزيل، ولم يهضم ثقافة البشرية، فكان عطاؤه هذراً إنشائياً، ولا أعلم له مقالات بعد رِدَّته تتلقاها بترحيب فكري سوى مقالته عن طبيعة التفكير العربي بكتابه العالَم ليس عقلاً؛ فإنك تجد فيها ظواهر حقيقيَّة كالتواكل والقعود مع تجاوزات وتعميمات كثيرة، وهكذا مواضع من كتابه (العرب ظاهرة صوتية).. ونيتشه لم يَنُحْ ولم يتباك، بل كان كما قال الرئيس السابق حسني مبارك عن أحدهم: (أَتَرِيه عُقْر) بالألف المهموزة بدلاً من القاف.. والقصميي المسكين بَسْمَتُه من شِدْقيه إلى أُذُنيه، ولكنه زعم أنه يبكي، ودعا قطيع قرائه إلى البكاء والنُّواح، ولم يجد الواعون ما يبكيهم لبكائه؛ وإنما بكوا عليه من قراءة مُضْحِكٍ شبيه بالمبكي.

والوقفة الثامنة: - وهي الطامة الكبرى - مقارنة الأستاذ ِسليمانَ القصيميَّ بالدكاترة زكي مبارك!!.

قال أبو عبدالرحمن: الدكاترة عاشق من ناصيته إلى قدمه، وهو يبكي بكل جوارحه مِن جَرَّاء (ليلى المريضة في العراق)، وذِكريات (سنتريس وباريس)، وجمحتْ نفسه إلى التغزُّل بالشاعر (علي الجارم) عفا الله عنهما، وأظن ذلك في مقدمة زكي لديوان زكي نفسه (ألحان الخلود)، وزكي مطبوع على الفن وحب الجمال مع غير كبير التزام بمسؤولية دينه؛ فكان عنده شِبْهُ لوثة عقلية مع صفاء حِسٍّ جمالي؛ فكان أسلوبه مليحاً من أجل ذلك.. ولم يُكلِّف عقله مُهِمَّة التفكير في مسائل علمية فوق التسلية الجمالية؛ وإنما تناول التصوُّف عن عشقٍ فني بتسطيح الأدباء، ولم نعلم أن له بكاءً من نص صريح يقول فيه: (إني أبكي)،، ولم نجده داعياً إلى البكاء والنواح، ولم يشغل نفسه بمسائل الغَيْب؛ فأيُّ لقاء بين القصيمي والدكاترة زكي في هذه المقارنة العتيقية؛ وإنما وجدنا الدكاترة ضاحكاً مرحاً بصريح تدفُّقه الفني؛ فاستمتعنا ومرحنا معه وضحكنا وإن كنا غير مستطيبين طول المؤانسة؛ إشفاقاً على عزائمنا.. ووجدناه ثمِلاً بالعشق حقّاً فرحمناه، وعلمنا علماً حقيقياً أنه كُلَّما ثمل بلقاءٍ مُصادِف، أو ذكرى عابرة: بقي بعدها طريحاً هموم لقاءٍ لم يتم، وذكريات لم تَعُدْ؛ فأذاب همومه في قناة مداده يُسَطِّر منها مرحاً وحِسَّاً جمالياً يثير المتعة معه والإشفاق عليه.. والقصيمي يؤانسك بأخلاق وضعيَّة استمسك بها؛ فهو وفيٌّ بالعهد والوعْد، شكور للجميل، عَفٌّ عن الرذيلة من غير تديُّن، ممتع بالنكتة، مع حلاوة أسلوبٍ يفسده الإملال بالتكرار، والفراغ من المضامين العلمية والثقافية، وهو مدرك ذلك كله؛ لأنك إذا قلت له: (هذا حققه (كانط) في نَقْدِيَّته، و (العقل صفحة بيضاء) بَلْوَرَها (جون لوك) وهي من المسلَّمات عند أمثال ابن حزم والغزَّالي وابن تيمية) : لَمَّ جبهته بأطراف أصابعه وطأطأ، وقال ما معناه: (أنا أتحدث بعقلي.. بتجربتي.. بهمومي.. أنا في خصام مع الآلهة والمتألِّهين).. ثم يسرد عدداً من المصطفينَ الأخيار، ومن حوارييهم، ومن ملوك العدل والجور.. ووراء كل ذلك التظاهر بالمعرفة، والتَّسَتُّر عن الفراغ الفكري والثقافي والعلمي.. والقصيمي لم يُفتن بالحب، ولم يَعْلَق بمتبرِّجة أو مُتَحَجِّبة، ولم ينادِم بآهات الحب لا غزلاً ولا تغزُّلاً؛ فمن أين أتيتَ بهذه المقارنة يا سليمان؟!.

والوقفة التاسعة: أنه ليس عند القصيمي هموم تُبْكيه؛ وإنما عنده تهالُكٌ على شعبية يريد التبوُّأَ على عرشها؛ فتظاهر للقطيع بحرية الفكر وتوسَّل إليهم بدموع كاذبة.. وهو مرتاح محبور في دنياه.. تمسك بولائه للمملكة العربية السعودية - مع أن بلده الأصليَّ الصعيد - وطنيّاً وسياسياً؛ فكان هذا سبب سعة رزقه، ثم لما وجد الحفاوة عند (كمال جنبلاط) لوى ذيله، وأصبح يكتب عن عودة هارون الرشيد بما يؤذي تصريحاً وتلميحاً، وقد تفطَّن لذلك الملك فيصل رحمه الله تعالى؛ فقطع عنه (العادة) ، وربما استعمل بعض الضغوط السياسية، وقد ذكرتُ في هذه الجريدة ما حدثني به من استغلاله طِيْبَةَ معالي الشيخ حسن آل الشيخ بخطابه الذي حمله إلى الملك فيصل.. وكنتُ فاتحتُ معالي الشيخ عبدالعزيز التويجري رحمهم الله تعالى بكلِّ جُرْأَة: كيف يكون القصيمي رمزاً وطنياً بعد مقالات عودة هارون الرشيد الذي لم يُطبع المهمُّ منها بعد؟.. فذكر لي معاليه أنه في مرافقته خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز قبل أن يكون ملكاً (ولطول العهد نسيت هل هذا في بيروت، أو في القاهرة): لَقِي القصيمي، ودعاه إلى زيارة الأمير عبدالله والسلام عليه.. فقال القصيمي (وذلك في فورة لَوْيِ الذيل): لا أُحِبُّ أن أرى الآلهة!!.. فقال له معالي الشيخ عبدالعزيز: اِصبر هذه المرة على رؤية الآلهة، لعلك تزداد بهم معرفة!.. فحصل اللقاء؛ فوجد القصيمي بساطة ً وإصغاءً ونفحةً سخيَّة؛ فعاد إلى الولاء، وكتب مقالات لم يُتح لي إلى هذه اللحظة الاطلاع عليها: أشاد فيها ببساطة من سمَّاهم آلهة، وتوقع خيراً عميماً للشعب إن تولى الأمير عبدالله الأمر!.

قال أبو عبدالرحمن: فاستنبطتُ من كل ما مضى، ومن محادثةٍ لمعالي الشيخ أبي عبدالمحسن لم أُسَجِّلْها بنصِّها في حينها: أن الولاء الوطني أو القومي مجرَّداً من الولاء الديني لا يظل على الصفاء حتى يبقى الضرع على إدراره، وأدركتُ أن التويجري ذو لوذعيَّة في الاحتيال على الأقلام المُعادية؛ لتكون موالية أو محايدة.. لقد اجتذب سليم اللوزي ومجلة الحوادث، ومَهَّد لاجتذاب محمد جلال كشك، ووجدتُ وجوهاً صحفية مُرْتزقة لا أحب ذكر أسمائها اجتذبها إلى الجنادرية؛ فغيَّر ما بأنفسها ولو إلى حين، وأتاح لي اللقاء بالفيلسوف زكي نجيب محمود - في حلقتين أو ثلاث.. نسيت -، وحضر بعض اللقاء، ولم يكره صراحتي، ولكن لصغر سني وأُبُوَّته ورعايته همومي صار له إدلالٌ عليَّ في توصيته لي بالتأدُّب مع الكُبار؛ فشطبتُ كثيراً من عجرفتي، وإلى مسك الختام يا سليمان إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب