Saturday 12/10/2013 Issue 14989 السبت 07 ذو الحجة 1434 العدد
12-10-2013

أَظُنه عادَ إلى ينابيعي

الشاعر السوداني محيي الدين فارس مليح الشعر، ولكنَّ شعرَهُ اليومَ عزيزُ الوجود، ومنذ عِقْد وأنا أبحث عن دواوينه - وقد سبق لي تصفُّح بعض أشعاره في الدوريات، وقرأتُ أنه قال قصائد على أوزان الشعر العامي في جنوب السودان -، وإلى الآن لم أحصل على دواوينه،

وقصيدته (العودة إلى الينابيع) قرأتها في مجلة الفيصل العدد 264 ص 21، وقد أهداها إلى الشاعر محمد الفيتوري ويظهر لي أنه كان يعظه، ولعله لا يعلم حقيقةَ هذه الينابيع إلا الشاعر والمُهْدَى إليه ومن عايَشَ همومهما.. إلا أن سياقها المتدَفِّق يتناسب مع الينابيع التي عُدُّتُ إليها مناسبةَ المُطابقة؛ لهذا أستعير بيانه العذب في التعبير عن وجداني منذ أدلجتُ إلى الينابيع الصافية.. وما دمتُ استعرتها فإنني أقول: (قلتُ) بدلاً من (قال محيي الدين فارس).. لقد استعبدتني أحلامُ الهُيام في مرحلة الأشدِّ التي يَشُدُّ فيها أهل المدينة المنورة وسائر الأتقياء المِئزرَ للعبادة قبل أن ينتهي إعذارُ الله إليهم منذ شابٍّ ليست له صبوة.. إلى الأَشُدِّ، إلى الأشيمط الذي تقاعس إلى الستين أو ما بعدها.. إلا أن مَن بلغها وهو على صفاء الإيمان، والقيام بالواجبات، والعفاف عن الكبائر: فهذا على ما عنده من تقصير وهفوات سيكون -إن شاء الله- (شيبة حمد) شاخَ في الإسلام؛ فهو حَرِيٌّ أن يرحم الله شيبتَه، ويُحَرِّمها على النار، ويُحسن خاتمته.. تذكَّرتُ استلاب (الطير المسافر) وأمثاله فقلت:

لا تُوقظي في دمائيْ النارَ واللهبا

فما خبا قلبيَ المشبوبُ أو نضبا

أجل والله إنه كذلك لا يحتاج إلى إيقاظ، فالقلب لا يَشيب، والحسْنُ لا يذوبُ الكَلَفُ به.. حدثني الشيخ أبو تراب: أن الشاعر حَمام -رحمهما الله تعالى- قال أشعاراً نَحَلها بعض معاصريه من شعراء السعودية، وقسمها بينهم قسمةً عادلة من بيتين أو ثلاثة أو واحد، وجعل الأبيات كلها على معاني أشعارٍ في التراث منذ الجاهلية إلى أحمد شوقي.. مع أن هذا الشعر الذي نسبه إلى شعراء التراث لا يُؤْثَر أيضاً عن واحدٍ منهم، وبعض مَن سمَّاهم لا وجود لهم في الدنيا.. ثم نشرها في الصحف بعنوان: (أيها الشعراء إنكم لسارقون)، وكانت المقارَنةُ مطابقة، ولكن الوسط الأدبي ضجَّ؛ لأن الشعراء السعوديين برآءُ من ذلك الشعر؛ وذلك من مِزِّيحياته رحمه الله تعالى، وهو صاحب (مقالِب).. وحرصتُ عدداً من السنوات أن يبحث لي الشيخ أبو تراب عن هذه المقالة؛ فمات رحمه الله ولم يُحقِّق وعده؛ فلا أدري هل القصة حقيقية، أم هي من بنات خياله؟!.. وأنا بحمد لله لم أسرق؛ وإنما كنت مستعيراً أو مُغيراً علناً: أُعَبِّر بقريحة محيي الدين فارس عن أشجاني:

وما تركتُ على الأمواج أشرعتي

للريح يأخذها التيارُ إن غَضِبا

إني سمعتُ تراتيلاً تُحذِّرني

وتستحثُّ خُطَايَ: الوْقت قد قربا

أجل إنني لا أعيش اليوم همومَ أشرعتي في الموج العاتي؛ وإنما أعيش الآن ذِكْرياتها وحسب، واستبعدت (النواقيس)؛ لأنني إنما سمعتُ تراتيل أهل القرآن، وليس عندي البديل من مُفْردةٍ تُغْنيني عن صرف ما لم ينصرف، فيا أحبائي من الشعراء الذين عايشتُ زمنهم: فيئُوا إلى ربكم.. إن الوقت قد قَرُبا.. قلت:

فكم تَبِعتُ سراباً لا ضِفافَ له

وكم بنيتُ على شِطْآنِه القُبْبا

إنَّ هذا لحقٌ؛ فكم شَرِقْتُ بدموعي عند مثل (أسهر وأنشغل أنا)، وهذا أطلق لساني بثورة غضبيةٍ من أجل عَجْرفَة الحُسْنِ على الضعفاء.. إنَّ لِلْحُسن طغياناً على النفوس.. أَوَ لم يقل الدحداحُ المسكين: (لا تكذبي إني رأيتكما معاً)؟!.. أجل إن الذِّكريات لا تذوب مع صِدْقِ الإنابة؛ فإما أن تثير مُتعةَ الطرب، وإما أن تثير حَوْباء الحِقَب، وإما أن تثير حَيرةَ العجب؛ فقلتُ - وأظنُّ أنني غير جادٍّ -:

هَدَّمتُ عرشك في قلبي فلا تَقِفي

على جداري فبالي لم يَعْد طرِبا

ودفِّقي كلَّ سُمٍّ قد ملأتِ به

أقداحَ عُمري ولُمِّي المِزْهرَ التَّعِبا

هيهات آوي إلى ناديكِ ثانيةً

وإنْ نثرتِ على أقداميَ الذَّهبا

غَنِّي لغيري فأذني معطلة

عن السماع وقيثاريْ القديمُ أبى

قال أبو عبدالرحمن: ذو الشجن في لحظة الغَضب لا يُحقِّق واقِعَهُ؛ فربما يكون غير صادق مع نفسه؛ فالعرش الأليم لا العظيم لا يزال جائياً أو جاثماً في الذكريات، وقل مثل ذلك عن (طِربا)، والمِزْهر يوم ودَّعْتُهُ لم يكن تَعِباً، وودَّعته وفي ريقي بلل، ولكنني استبدلته بمثل من أوتي مزماراً من مزامير داود عليه السلام؛ وذلك يُبارك العمر ويُزكِّيه.. والعَوْدَةُ لن تكون أبداً؛ وذلك برحمة ربي ومشيئته وعصمته، وهو المُستعصم فيما بقي، وقد غَنِيت عن الذهب، ولعلها الآن لا تملكه؛ إذن أذني لم تعطَّل من الذي هو خير وأبقى.. ثم عُدْتُّ إلى التَّغني بالإنابة؛ فقلت:

فقد سئمتُ حروفاً لا نُخاع لها

مُلوَّناتٍ تُغطِّي وجهَنا الكذِبَا

وعُدْتُ من سفر الأزْمان مُثخنةً

منِّي الجراحُ ودمع العين ما انسكبا

وهِمتُ في ملكوتِ الله مُرْتَقباً

يوم الموازين حيث المرءُ ما كَسَبا

فالطَّيبون عيالُ الله ما انخدعوا

بالمُغريات وساروا نحوها خببا

أين الذين أقاموا في مناكبها

مرَّوا سِراعاً.. وخلُّوا ربعها الخربا

ربي أعنِّي عليها إنها شَرَكٌ

للخاطئين ومهواة لمن هربا

وليس ينْجو من الأقدار إن وقعت

من لازَم الحِصنَ أو من ساكن السُّحبا

إني خشيتُ من الدنيا وملءُ دمي

نور اليقين يُزيل الشك والرِّيبا

لا تُضْحِكِيني فإنَّ الدهرْ علَّمني

ألا أغنِّي وإن غنَّى وإن لعبا

قد عُدتُ للنَّبع ظمآناً ألوذ به

وليس يَظْمأ منه كلُّ من شربا

قال أبو عبدالرحمن: منذ عقود عاب عليَّ بعض الخيِّرين استعمالي جملة (الخلق عيال الله)؛ لأنه لاب بباله معنى الوَلَد، وبغضِّ النظر عن توثيق المأثور فإن الخلق عيال الله بدليل توحيد الربوبية؛ لأنه جل جلاله يعولهم بما أنعم عليهم {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (18) سورة النحل، وقال تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا} (20) سورة الإسراء.. واعذروني أنْ عَدَّيتُ (الكذبا) مباشرة بغير حرف الجر؛ فإن الشعر العموديَّ عَصِيٌّ.. وحروف صَنَّاجتي ذات نُخاع ولا كالنخاع، وألوانها زاهية تُمتع الأعين ولا تخطف الأبصار، ولكننا لا نستطيع حيازة معانيها الأبيَّة.. اللهم عفواً قد طغت أقلامنا.. إلا أن إدلاجة الإنابة على الرغم من تأخُّرها، وأنها في بداية أعراض الشيخوخة، وأن عمرها قصير جدّاً بالنسبة إلى ما مضى: إلا أنها أثْرى بياناً وعلماً وفكراً، وثمار هذه المفردات الثلاث مباركة الإخصاب في السلوك: وهب الله القلب بها قوة، والوقتَ دقة، والتفكير زكاء، والعلم مخضاً [بالخاء المعجمة].. ومع قوة القلب أُنسه وطمأنينته ومكين الرجاء في حُسْن المُنْقَلَب، والرضا المريح الذي ضيَّعه مَن لم يوق شُحَّ نفسه؛ فكدَّس الملايين والمليارات، وكان نعيمه في جحيمه أنْ جمع مالاً وعدَّده يحسب أنْ ماله أخلده، وما وقع في هذه الورطة إلا لأنه تناسى الموت، وغيَّب براهينَ يوم تشخص فيه الأبصار وليس له إلا ما أبلى في واجب رعيته، ووجوه الخير في غير سَرَفٍ ولا مَخْيلَةٍ، وما كدَّسه صفائحٌ يُكوى بها في الآخرة، ويرثها مَن عساه يدعو عليه.. فإن كانت كسباً حراماً من الربا، أو غسيل أموالٍ، أو نهْب عقارات المسلمين وأكل حقوق الناس، أو التحكُّم في مواردهم بما لا يحلُّ من المعاملات: فهي شَتات بتات لدى الوارث، أو كما تقول العامة (بَقٍّ وْ يِطير).. والمال الحلال لا يفنى بالبذل الواجب أو المُسْتَحَبِّ شرعاً، بل يزكو وينمو كالضرع أيامَ الربيع يَحْتبِس ثم ينْبَجِس في اليوم مَرَّتين.. قال الإمام الحبر ابن حزم رحمه الله تعالى: ((لذة العاقل بتمييزه، ولذة العالم بعلمه، ولذة الحكيم بحكمته.. ولذة المجتهد لله عز وجل باجتهاده: أعظم من لذة الآكل بأكله، والشارب بشربه، والواطئ بوطئه، والكاسب بكسبه، واللاعب بلعبه، والآمر بأمره.. وبرهان ذلك أن الحكم والعالم والعاقل والعامل ومن ذكرنا واجدون سَائِرَ اللذات التي سمَّينا كما يجدها المنهمك فيها ويُحِسِّونها كما يحسها المقبل عليها، وقد تركوها وأعرضوا عنها وآثروا طلب الفضائل عليها.. وإنما يحكم في الشيئين من عرفهما، لا من عرف أحدهما ولم يعرف الآخر)).

قال أبو عبدالرحمن: أحمد الله على تجارِب انتفعتُ بها في مراحل عمري؛ فعرفتُ بالممارسة واقع الشيئين؛ فاستجلبتُ ما غَيَّبتُه من براهين الخير.. ولما أسهب الإمام في عرضه فلسفة (طَرْدِ الهمِّ) قال: ((فاعلم أنه مطلوب واحد، وهو طرد الهمِّ.. وليس إليه إلا طريق واحد، وهو العمل لله تعالى؛ فما عدا هذا فضلال وسخف))، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

 
مقالات أخرى للكاتب