Friday 25/10/2013 Issue 15002 الجمعة 20 ذو الحجة 1434 العدد
25-10-2013

شخصيات ومواقف: بديع الزمان الهمداني

غلب لقبه على اسمه، فقد ولد أحمد بن الحسين الهمداني، في بلاد أفغانستان عام 358هـ وسكن هراة، ولذكائه المفرط وقوة حافظته، وسرعة بديهته، فقد سمي بديع الزمان، ولأنه من همدان فقيل الهمداني، ولذا فإن شهرته قد ذاعت، وبضاعته الشعرية واللغوية قد انتشرت،

ومكانته العلمية عند العلماء والحكام قد ارتفعت، وزاده مكانة مناظراته المتعددة مع الخوارزمي، الذائع الصيت ثم تغلبه عليه، وقد خلا له الجو بعد موت الخوارزمي، فزادت شهرته، وعلت مكانته، يقول عن نفسه: في رسالة كتبها إلى معلمه: وإني وإن لم أكن خراساني الطينة، فإني خراساني المدينة، والمرء حيث يوجد، لا من حيث يولد، والإنسان من حيث يثبت، لا من حيث ينبت. فإذا إنضاف إلى تربة خراسان ولادة همدان، ارتفع القلم وسقط التكليف، والجرح جبار، والجاني حمار فليحملني على هناتي أليس صاحبنا يقول:

لا تلمني على ركاكة عقلي

إن تصورت أنني همداني

تقول عنه كتب الأدب: أحد الأئمة الكتاب، كان يقيم في هراة بأفغانستان، وكان شاعراً ولغوياً، واشتهر على الخصوص، بقوة الحافظة، إذ كان يسمع القصيدة، التي لم يسمعها قط، وهي أكثر من خمسين بيتاً، فيحفظها كلها، ويؤديها من أولها إلى آخرها، لا يغير عرفاً، ولا يخل بمعنى، وينظر في الأربع والخمس أوراق من كتاب لم يعرفه نظرة واحدة خفيفة، ثم يتلوها عن ظهر قلب.

بلغ هذه الشهرة والمكانة العلمية والأدبية في سن مبكرة حيث مات عام 398هـ وعمره أربعون سنة.

يقول عنه ابن خلكان: الحافظ المعروف ببديع الزمان، صاحب الرسائل الرائقة، والمقامات الفائقة، وعلى منواله نسج الحريري مقاماته، واحتذى حذوه واقتفى أثره، واعترف في خطبته بفضله، وأنه الذي أرشده إلى سلوك ذلك النهج، وهو أحد الفضلاء الفصحاء.

روى عن أبي الحسن أحمد بن فارس، صاحب المجمل في اللغة، وعن غيره وله الرسائل البديعة والنظم المليح، ومن رسائله: الماء إذا طال مكثه ظهر خبثه، وإذا سكن متنه تحرّك نتنه، وكذلك الضيف يسمج لقاؤه، إذا طال ثواؤه، ويثقل ظله إذا انتهى محله والسلام.

وقد كان أكثر من تتبع أخباره، وكتبها الثعالبي في يتيمة الدهر، لأنه عاصره، قال عبدالرحمن بن عبدالجبار الفامي في تاريخ هراة: وقد رأيت ذلك البديع، في عدة تصانيف من كتب العلماء، فلم يستقص أحد خبره أحسن مما اقتصه الثعالبي، وكان قد لقيه وكتب عنه، فنقلت خبره من كتابه، ولخصته من بعض سجعه.

فكل من كتب عن بديع الزمان الهمداني يقول: كان الثعالبي قد استقصى أخباره في الإبانة، عن البديع، بكتابه يتيمة الدهر، ثم جاء بعده كتاب ومورخون، فكتبوا عنه وأعجبوا به، منهم ياقوت الحموي، الذي أورد عنه في الجزء الثاني من معجم الأدباء، الذي حوى أخباره أو أغلبها في أكثر من ثلاثين صفحة.

وقد ورد البديع (دنيابور) سنة 392هـ، وفيها أملى أربعمائة مقامة نحلها بطل مقاماته - أبا الفتح الإسكندري - في الكدية - أي الاستجداء - وغيرها وقد ضمّن مقاماته هذه التي تعتبر باباً أدبياً فتح بديع الزمان به ما استهوت أذهان الكتاب والنقاد في العالم العربي والغربي، حيث حوت، ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، وقد جمعت في كتاب يعتبر من عيون الأدب العربي، وقد تأثر به الحريري فأنشأ مقاماته، مستفيداً من نهج بديع الزمان.

وقد أخذ بديع الزمان، لقبه إما لذكائه وإبداعه، وإما لأنه اهتم بالبديع، وهو فن من فنون البلاغة، فأبو الفتح الإسكندري جعله الهمداني بطل مقاماته كما هو الاصطلاح عند القصصيين، وجعل سمته الكدية، حيث يحكي حالة العوز والفقر، وجعلها على لسان عيسى بن هشام.

أما الحريري فقد اختار بطله الذي ينحله المقامات، وسماه أبا زيد السروجي، على لسان الحارث بن همام، وقد أتى بخمسين مقاماً على منوال مقامات البديع، من الأمثال واللغة والنوادر والأحاجي.

فالمقامة حكاية قصيرة، تشتمل على حادثة لا تستغرق أكثر من جلسة، وتنتهي بنكتة أو ملحة، وكان مجلس الراغبين فيها يسمى مقامة الفيا، فهي تحكي واقعة اجتماعية، تدور أحداثها بين اثنين، ولكثر ما روي عن البديع من المقامات، إلا أنه لم يعثر على أكثر من ثلاث وخمسين مقامة.

وقد انتشرت المقامات بعد البديع ثم الحريري، ولكنها لم تبلغ المنزلة التي كانت لهذين، وخاصة بديع الزمان الذي أصبحت المقامات سمة له.

وقد شرح مقامات بديع الزمان الأستاذ محمد عبده، وللنقاد فيها آراء متباينة، باعتبارها فناً جديداً، في الأدب العربي، حرص فيه بديع الزمان على أن يكون محلياً بالمحسنات اللفظية المعروفة، ومنها السجع كما يتضح من النموذج التالي:

يقول بديع الزمان في إحدى مقاماته: حدثنا عيسى بن هشام: قال لما بلغت بي الغربة باب الأبواب، ورضيت من الغربة بالإياب، ودونه من البحر وثاب بفارية، ومن السفن عساني براكبه، استخرت الله في القفول، وقعدت في الفلك؛ بمثابة الهلك، ولما ملكنا البحر، وجنّ علينا الليل، غشيتنا سحابة تمدّ من الأمطار حبالاً، وتحوز من الغيم جبالا، بريح ترسل الأمواج أزواجا، والأمطار أفواجا، وبقينا في حين الحين بين البحرين، لا نملك عدّة غير الدعاء، ولا حيلة إلا البكاء، ولا عصمة غير الرجاء، وحويناها ليلة باغية، وأصبحنا نتباكى ونتشاكى، وفينا رجل لا يختضل جفنه، ولا تبتل عينه، وفىّ الصدر منشرحه، نشيط القلب فرحه، فعجبنا والله كل العجب، وقلنا له مالك تأمن العطب؟

فقال: حرز لا يفارق صاحبه، ولو شئت أن أمنح كلاً منكم لفعلتُ، فكلّ رغب إليه.

فقال: لن أفعل حتى يعطيني كل واحد منكم ديناراً الآن، ويعطيني ديناراً إذا سلم، قال عيسى بن هشام: فنقدناه ما طلب، ووعدناه ما خطب، ومدّ يده إلى جيبه فأخرج قطعة ديباج، فيها حقة يماج.. وهكذا يسير في سجعه في هذه المقامة.

قال عنه ياقوت الحموي في معجمه: كان أحد الفضلاء والفصحاء، متعصباً لأهل الحديث والسنة، ما أخرجت همدان بعده مثله، وكان من مفاخر بلادنا، كان في الحديث ثقة، وكان يعرف الرجال والمتون، وقد شجر بينه وبين الخوارزمي ما كان سبباً لهبوب ريح الهمداني، وعلوّ أمره إذ لم يعرف في الحساب أن أحداً من العلماء ينبري له، فلما تصدى له بديع الزمان في المبارات، وجرت بينهما مقامات ومبادهات، ومناظرات على أثرها غلب قوم هذا وغلب آخرون ذاك، فطار ذكر الهمداني في الآفاق، ودرّت له أخلاف الرزّق، فلما مات الخوارزمي خلا له الجو، وتصرمت به أحوال جميلة وأسفار كثيرة.

وكان من عجائب ما يروى عنه: أنه كان يقترح عليه، إنشاء رسالة في معنى غريب، فيخرج منها عفو الساعة والجواب عنها فيها، كما قال الزيات، وربما ابتدأ بآخر سطر من الرسالة، وانتهى بها إلى أولها فيخرجها بلفظ مرتبط، ومعنى منسق، وكان يترجم ما يقترح عليه، من الشعر الفارسي، إلى الشعر العربي، فيؤدي ذلك في الحال جامعاً بين الإبداع والإسراع.

وقد أراد أن يجبر الخوارزمي، الذي أنكر من شدة المناظرة، فقام كما قال الحموي وقبل رأس الخوارزمي وقال مستهزئاً اشهدوا أن الغلبة له، فلما قام الخوارزمي، أشار إلى البديع وقال: لأترنك بين الميمات؟ فقال: ما معنى الميمات قال: مهدوم مهزوم ومفموم محموم، مرجوم محروم، فردّ عليه لأترنك بين: الهيام والسقام والسآم والجزام، إلى آخر سلم هذه الكلمات. وأخباره كثيرة.

فرحم الله بديع الزمان الذي كان مدرسة يستقي من ينبوعها الأدباء في الشرق والغرب حتى اليوم، حيث أبدع في ضروب من اللغة العربية: لفظاً وبلاغة وفكراً وتجديداً في المعنى، إلا أن شعره أقل جودة من نثره، وقد ذكر جرجي زيدان، أن له من المؤلفات ثلاثة، منها المقامات عرفت باسمه - وهي أول كتاب وصل للقارئ العربي.

mshuwaier@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب