Sunday 03/11/2013 Issue 15011 الأحد 29 ذو الحجة 1434 العدد
03-11-2013

«عنيزة» .. في ليلة عرسها الرابع ..؟

كانت مفاجأتي الأولى.. في هذه الرحلة الخامسة أو السادسة لعروس القصيم: (عنيزة).. التي أحببتها وأحببت أهلها قبل زيارتي الأولى لها.. هي في تلك الأعداد غير المتوقعة من الركاب الذين امتلأت بهم حافلات الخطوط السعودية الثلاث أو الأربع..

وهي تنقلهم إلى الطائرة تباعاً ليملؤوا درجاتها الثلاث، فلا يبقى مقعد خال.. عليها دون إشغال!! لأسأل نفسي.. وسط دهشتي: أكُلُّ هؤلاء يريدون الذهاب إلى (عنيزة)..؟! أم أنهم قصيميون عائدون بعد (الحج).. تعثرت بهم حجوزات (السعودية) كل هذا الوقت..؟ أم أن بعضهم يريد الذهاب إلى (بريدة) أو (الرس) أو (البدائع) أو (البكيرية) أو (المذنب).. وكلها مدن قصيمية يخدمها مطار واحد؟ لتتلقفني مفاجأتي (الثانية).. في السادسة والنصف من صبيحة اليوم التالي عندما استيقظت بعد (نومة) هادئة عميقة - لم تزد عن ثلاث ساعات ونصف الساعة - في نشاط وحيوية من نام لست أو سبع ساعات متصلة.. حتى ألحق بطائرة التاسعة صباحاً نظراً لارتباطات عائلية وشخصية لم أستطع الفكاك منها، ليفسِّر لي الزميل العزيز والصحفي الشاب (عارف العبيد).. الذي فرَّغ نفسه - ذاتياً - لمرافقتي مشكوراً طوال ساعات هذه الرحلة الستة عشرة.. (سر) ذلك النشاط والحيوية التي وجدتني عليهما في ذلك الصباح عندما أخبرني بـ (فوز) مدينة عنيزة بلقب المدينة الصحية (الأولى) في المملكة لعام 2013م بحسب قياسات وزارة الشؤون البلدية والقروية، ولم أكن أعلم ذلك.. لأفهم سر ما حدث لي، فتزداد فرحتي لـ (عنيزة)، وغبطتي لأهلها..!!

***

بين هاتين (المفاجأتين).. مضت ساعاتي القليلة والجميلة بسرعة البرق في (عنيزة): مدينة الحرية والريادة والنخيل والغضا على طريق حجاج العراق وفارس المعروف بـ (طريق زبيدة) منذ القرن الثالث الهجري.. للمشاركة بالحضور في حفل افتتاح مركز الأميرة نورة بنت عبدالرحمن الفيصل الاجتماعي لخدمة المرأة والطفل ثقافياً واجتماعياً ورياضياً، والذي سيتزامن معه الإعلان عن بدء فعاليات (بينالي) مهرجان عنيزة للثقافة الرابع.. في اليوم التالي، والذي تلقيت دعوة كريمة مبكرة لحضوره من رئيس مجلس إدارة الجمعية الخيرية الصالحية - معالي الشيخ عبدالله العلي النعيم - أمين مدينة الرياض الأشهر والأسبق.. أتبعه بهاتف لا يفعله إلا الكبار من أمثاله قيمة ومكانة، ليتأكد من وصول دعوته وحضوري.. لأقول له: سأكون - بإذن الله - بين مدعويِّه.. في الثامنة من مساء يوم الأحد - الماضي -، ولذلك.. فقد كان عليَّ أن أخفف من جلستي مع قهوتي و(غليوني) بعد وصولي إلى فندقي في (عنيزة) قرابة الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم.. حتى أصدقه وأصدق وعدي له.. لتأخذنا العربة - التي وضعتها الجمعية الصالحية - في خدمتي وخدمة الأديب الطائفي المعروف والزميل العزيز على صفحات الرأي في أيام الآحاد من كل أسبوع في صحيفتنا (صحيفة الجزيرة): الأستاذ حماد السالمي.. من غرب (عنيزة) إلى شمالها حيث كان يسطع مبنى (مركز الأميرة نورة) بواجهته الجميلة الوقور وأدواره الثلاثة تحت الأضواء.. وقد اصطف رئيس وأعضاء مجلس إدارة الجمعية الصالحية على مدخله في انتظار قدوم أمير المنطقة (الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز).. بينما كانت إحدى فرق (السامري) تنشد على طبولها أناشيد البهجة والفرح بليلة الافتتاح..!! وتلك هي (عنيزة) حيث يعيش الأدب والفن فيها توأمان.. يكملان أو يؤكدان تلك الصور الباذخة التي كتبها الأدباء والرحالة والساسة والمستكشفون البريطانيون عن (عنيزة): من “فورستر سادلر” إلى “شارلز داوتي” إلى “جون فيلبي”.. فالأديب المهجري اللبناني الأمريكي الأشهر (أمين الريحاني) الذي حُفظ عنه قوله (إنها باريس نجد)، ولم يُحفظ عنه استدراكه الأجمل والأكثر إبهاراً.. عندما قال (بل هي أجمل من باريس حين إشرافك عليها. لأنها صغيرة وديعة خلابة بألوانها.. كأنها صورة صورها مانيه (رسام فرنسي مشهور) لقصة من قصص ألف ليلة وليلة، وكأنها لؤلؤة في صحن من الذهب مطوق باللاذاورد، بل قل إنها السَّكينة مجسدةقد بنت لها معبداً بين النخيل.. زانته بإفريز من ذهب الرمال)!؟

***

مع وصول الأمير.. تعالت أصوات المنشدين وطبولهم.. ترحيباً بمقدمه، ليبدأ سموه بـ (إزاحة) الستار عن اللوحة التذكارية لـ (المبنى)، فقص الشريط فالسلام على رئيس وأعضاء مجلس إدارة الجمعية ومَن كانوا يقفون على مدخل المبنى في انتظاره من كبار الشخصيات والأعيان والوجهاء والإعلاميين.. ليقف عند الزميل السالمي، فيسأله مداعباً: أمازلت سالماً؟ ليضحك.. ويضحك الزميل والآخرون.. وينطلق الجمع خلف سموه.. إلى داخل المركز، حيث تولى أمين الجمعية الأستاذ صالح الغذامي.. شرح أروقته وقاعاته وأقسامه من (الإرشاد الأسري) إلى (التدريب) و(التطوير) إلى المكتبة، فالمركز الرياضي النسائي إلى قاعات العروض التشكيلية إلى حديقة الأطفال وروضتهم، فـ (الممشى) النسائي.. إلى المسرح بـ (قاعته) الرحبة التي تتسع لما يزيد عن السبعمائة شخص، والتي يمكن استخدامها للمحاضرات والندوات.. بل والعروض السينمائية!! وكما حدث.. عندما انتهت بنا جولة الافتتاح والتعرف على موجودات المركز إلى (المسرح)، حيث بدئ (حفل الافتتاح الخطابي بآيات من الذكر الحكيم.. فعرض (سينمائي) لمراحل بناء المركز.. منذ أن كان (فكرة) دعت إليها الكاتبة الدكتورة منيرة الشملان.. إبان احتفالات المئوية إلى أن أصبح حقيقة بفضل جهود رجالات عنيزة ونسائها وأبنائها، الذين يحملون حباً جارفاً لـ (عنيزة).. يذكِّر بحب اليابانيين لـ (بلدهم)، والأسكتلنديين لـ (إقليمهم)، واليمنيين لـ (صنعائهم).. وقد فعل ذلك (الحب) الكثير لـ (عنيزة) ومجتمعها، والكثير لحراكها الثقافي والاقتصادي، والكثير لعمرانها وتجارتها وأسواقها ومواسمها.. بل ولميادينها وشوارعها.. بفضل عطاء وسخاء أبناء (عنيزة) غير المحدود، والذي إذا ذكر.. لابد وأن يذكر في مقدمته اسم ذلك النجم.. ذلك العلم: سفير الكرم والجود.. الدبلوماسي السعودي الأشهر (محمد الحمد الشبيلي) الذي أحسن محافظ عنيزة المكلف والطموح (فهد بن حمد السليم).. بوضع اسمه على ثالث أكبر شوارع عنيزة. لقد أقام في النهاية حب العنيزيين لـ (عنيزتهم) - من بين الكثير الذي أقامه - هذان المشروعان الاجتماعيان الكبيران: (مركز صالح بن صالح) و(مركز الأميرة نورة).. اللذان يمثلان ريادة حقيقية لمؤسسات (المجتمع المدني).. في شمال شرق الوطن.

لقد توالت.. بعد كلمة رئيس الجمعية الشيخ عبدالله العلي النعيم الموضوعية الدقيقة والشاملة.. كلمات الافتتاح التي استهلها محافظ عنيزة المكلف الأستاذ فهد السليم بـ (كلمة المهرجان)، ثم تبعه الشيخ الفاضل والمؤرخ الكبير (فهد بن ناصر العبودي).. بـ (كلمة المكرمين) الذين اتسعت دائرتهم - ربما بأكثر مما يجب - إلى تسعة، إلا أن الملفت والمبهج معاً في تلك القائمة.. تصدر اسم الشاعر المبدع والفنان.. فقيد الثقافة (محمد بن فهد العيسى) لها، وتضمينها للدكتورة منيرة الشملان صاحبة فكرة إقامة مركز الأميرة نورة، وتختيمها بتكريم مدرستي (ثانوية عنيزة) وابتدائية (سعد بن أبي وقاص).. إلى جانب المتفوقين من طلبة مدارس (عنيزة) على المستويين الوطني والخليجي، والمتفوقين من أندية عنيزة الرياضية: ناديا (النجمة) و(العروبة)، ليلقي أمير المنطقة (الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز) كلمة ما قبل ختام الحفل الخطابي.. والتي راعى فيها بحصافته عامل إطالة وقت الحفل الذي لم يكن مسؤولاً عنه، لتكون كلمته هي الأجمل بموضوعيتها واختصارها.. حتى يعطي سموه ما يكفي من بقية الوقت لـ (اللوحة) الإنشادية الوطنية الغنائية الجميلة التي قدمها صوتان شابان ماتعان من المواهب (العنيزية) بمشاركة (كورال) من شبيبة عنيزة لا يقل في إمتاعه عنهما.. وكأنهما يذكران الحضور بأن الفن -تراثياً وغير تراثي- لا يغيب عن عنيزة وثقافتها ومجتمعها، ويذكرني في ذات اللحظة.. بما استوقفني عند تسلمي لـ (فاكس) دعوة الحضور لـ (مهرجان عنيزة الرابع للثقافة).. حيث غابت كلمة (التراث) عن العنوان، وهو ما استحثني للسؤال عن غيابها.. إن كان سهواً - كما أتمنى - أو قصداً - كما لا أرجو! -، فقد حافظ (بينالي) هذا المهرجان.. على أن يكون لكل دورة من دوراته (شعار) جامع لفعالياته: ابتداءً من شعار (الثقافة تواصل) في أول دوراته.. إلى شعار (نختلف ولا نفترق) في ثانيها.. إلى شعار (ثلاثون عاماً وفاءً وعطاءً) في ثالثها.. إلى (أبناؤنا.. بناؤنا).. وهو ما يحمد للجمعية الصالحية والقائمين على الإعداد لهذا (المهرجان) البينالي، ويدعوني.. للمطالبة بـ (عودة) اسم المهرجان إلى ما كان عليه عند انطلاقته: (مهرجان عنيزة للثقافة والتراث)..؟

***

مع مغادرة (جمعنا) لمركز الأميرة نورة، وقد أوشك الليل على الانتصاف.. كنا أحوج ما نكون إلى فنجان من الشاي أو القهوة، ليفاجئنا مرافقنا.. بدعوتنا - وقد رتب لذلك دون علمنا - لبيت من بيوت الكرم والسخاء العنيزي وما أكثرها في (عنيزة).. هو بيت (الشيخ فهد الفهد)، لنجد الشاي والقهوة وتمور السكري بأنواعها.. إلى جانب بسمات وقفشات أبنائه وأصدقائهم، وأحاديث ذكريات منه - لا تقدر بثمن - عن (آل العماري) العنيزيين وتاريخهم ومساكنهم.. و(الحي) الذي ما زال يحمل اسمهم، ويترأس بلديته أحد أبنائهم: (حي العمارية) في شرق جدة القديمة.. إلى يومنا هذا، بما يشكل في مجمله فصلاً في تاريخ أحياء جدة لما يكتب بعد.. وستأتي لحظته حتماً ذات يوم.

وهكذا..

بعد ساعات من تلك النومة العميقة الهادئة القليلة الساعات.. كنت أجد نفسي في الطائرة على ذات المقعد الذي قدمت عليه، والذي حرمني من رؤية (عنيزة) من فوق السحاب قادماً.. ليحرمني منه مغادراً، فلا أجد عوضاً عن النظر إليها من فوق السحاب.. إلا أن أحمّل صباها.. سلامي إليها وإلى أهلها العزاز.

مقالات أخرى للكاتب