Sunday 08/12/2013 Issue 15046 الأحد 04 صفر 1435 العدد
08-12-2013

الضويان في ضيافة الرحمن

إنه صاحب الفضيلة الشيخ عبدالله العبدالرحمن الضويان، الذي غادر مع الراحلين عن الدنيا في السفر (البعيد البعيد.. الطويل الطويل...) يوم 3-1-1435هـ. توفي بالرياض ودفن في ديرته (الرس) وعمره (إحدى وثمانون سنة).

وما أن ذاع خبره حتى أقبل الناس إليه للصلاة عليه.. ولقد فاضت بهم المقبرة، ثم ضاق بهم بيته وبعض الشوارع من حوله.

وقد أحزن موتُه القلوب، وأدمع العيون (ليس من آله وأصحابه فحسب) وإنما من كل الذين يعرفونه ويعلمون مقامه العزيز.

وأنا في كلمتي هذه لم أَتَناوش - بالتفصيل - سيرته (نشْأَةً ودراسةً وعملاَ) فلقد كفانيها صديقُنا - معاً - المربي الفاضل الأستاذ محمد الدخيل المالك (خليلُه الوفيُّ وحبيبه الصفيّ) بكلمة له في الجزيرة، قال فيها: - إنه تلقّى أُوْلَياتِ العلم في المدارس الأهلية بالرس.. ولما أنشئت الحكومية كان (من أول داخليها) فأتم الابتدائية، ثم واصل في المعهد بالرياض، فكلية الشريعة حتى تخرّج.. ثم إنه طُلِبَ للقضاء (فاعتذر) واشتغل في (التربية والتعليم) حتى بلغ نهاية الخدمة المتاحة له نظاميّا.

نعم.. أنا لم أدون - هنا سيرته - بل أقْصُر كلامي على بعض صفاته (الأخلاقية والعلائقية).. ثم إشارة إلى شيءٍ من مواقِفَ بيننا قد أظنها مستطرفة.

أنا والشيخ تعارفنا أيام صِبانا في المساجد للصلاة، والبيوت للتزاور، والشوارع للعب.. ثم جمعتنا (مدرسة الرس السعودية).. وبعد ذلك في الرياض للمواصلة.. ومع أن رفقتنا دامت (سبعين سنة) فإن أزمنة التلاقي بيننا (قد تقطّعَتْ) بسبب اختلاف بلد الإقامة.. حيث بقيت أنا في الرياض.. وأما هو فإنه - بعد التخرج - عاد إلى الرس، وظل فيها حتى فارق الدنيا.. ومع هذا فنحن لم نفتأ بين تلاق وفراق حتى (وداع النهاية).

وأول ما بلينا به من (لوعة الشتات) بيننا وبين كل الأقران والأخدان في ديرتنا هو هجرتنا منها إلى الرياض.. فقد كان خليقاً بكل منا أن يردد قول الشاعر:

وكنا في اجتماٍع كالثُّريّا

ففرّقَنا الزمان بناتِ نَعْشِِ

ولا بأس من أن أشير إلى أننا كنا (خمسة أصدقاء أخِلاّء) تضمّنا منذ أيام شبابنا صحبة أظن أنه (قلَّ نظيرها) وهم:

شيخنا هذا، ومحمد الدخيل المالك، وصالح العبدالله المالك، وسليمان الجاسر الحربش، (وأنا يامحاكيكم) ولقد بدأت بنا (المنيّة الحتمية) تأخذنا إلى المقبرة بلا ترتيب في السن.. فقد نزعت الثالث ثم (الأول.. موضوع الحديث).. وها نحن الباقين ننتظر في (محطة القطار).. وكل منا يردد مع الشاعر القديم قوله:

لعمرك ما أدري وإني لأَوْجَلُ

على أيّنا تَعْدو المنيّةُ أوَّلُ

وهو من (شواهد النحو) على أنّ لفظ (أوّل) إذا لم يُضَفْ يجب بناؤه على الضمّ.. أما أنا فلطالما ردّدت هذا البيتَ للادِّكار والاعتبار:

وإنّ افتقادي واحداً بعد واحدٍ

دليلٌ على أنْ لا يدومَ خليلُ

أيها القراء الأفاضل!! إن شيخنا عبدالله الضويان - الذي تركنا وجاور ربه - أنا قد أظنني ما رأيت له ضريباً (شبيهاً) في الدهاء والحكمة.. فهو حصيف العقل، ذكيّ الفؤاد، سريع الفهم، حاضر الجواب، طليق اللسان.. قد اكتنز علماً متنوعاً بأحوال الدنيا وطباع أهلها.. وهو كذلك دميث الخلق، رهيف الحس، حلو المعاشرة.. بل إني أرى مجلسه (روضة من روضات الأُنس).. حتى لقد سميته في نفسي (خلاّب الألباب) لما أرى من براعته في تعاطي الحديث.. سواءً حين يتكلم (بداءة) أو يتحدث (تعقيباً).. أجل، إنه قلما ضمني به مجلس، ثم افترقنا بعده إلا وأنا (على غير شِبَع من لقائه).

هذا، وإن سبيله في معاطاة الكلام (غاية في التأدّب والتهذّب) فلا يقاطع المتحدث ولا يعترض مستدركاً عليه حتى إذا فرغ وأمسك عن القول.. شرع يظهر ما لديه.. وهو لا يَجْبه أحداً أو يعيبه على ما سمع منه.. وإنما شأنه التنبيه بما (يُعَلّم ولا يُؤَلّم).

وكان شيخنا (رحمه الله) صبّاراً على المكاره، جَليداً عند الخطوب والكروب، لا يشكو إلى قريب أو بعيد.. بل إنه كان عَيوفاً أَنوفاً لا يسأل أحدا معروفاً حتى ولو عَضّتْه الحاجة ومسَّه الضُرّ.. فهو لا يُرَى إلا حامداً شاكراً.. حتى لكأنه الشاعر القائل:

وما نبا لي إذا أرواحنا سلمت

بما فقدناه من مال ومن نَشَبِِ

فالمال مكتسَبٌ والعزُّ مُرْتَجَعٌ

إذا اشتفى المرءُ مِنْ داءٍ ومن عَطَبِِ

فهو بذلك يقتدي بالسنة النبوية، وبشيمة الصِّدّيق (رضي الله عنه).. فقد كان إذا سقط خطام دابته ينزل ليأخذه.. فيقال له: لو أمرتنا بأنْ نناولَه لك!!.. فيقول: (أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بألاّ نسأل الناس شيئاً).. وكذلك فإنه مع رأي الشاعر الطُّغَرَائي إذ يقول:

وإنما رجل الدنيا وواحدها

مَنْ لا يُعَوِّل في الدنيا على رجل.

وقول الآخر:

مَنْ عفّ خفَّ على الصديق لقاؤه

وأخو الحوائج وجهه مَملُولُ

هذا.. وإن الشيخ عبدالله (مُقِلٌّ من الأصدقاء والخلطاء).. حتى إن عددهم لا يبلغ مقدار أنامل اليدين.. وأنا أظنه في هذا قد تأثَّرَ بابنَ الرومي في قوله:

عدوّك من صديقك مستفاد

فلا تستكثرنَّ من الصِّحابِ

فإن الداءَ أكثرُ ما تراه

يكون من الطعام أو الشراب

لكنه - مع هذا - لزّامٌ للصداقة إذا عقدها مع أحد، مستمسك بِعُراها، لا يبدأ صاحبه بالقطيعة أبداً أبداً.. فلو أنه ابتلي من أحدهم بمن يتعمد المصارمة بلا موجب، فإنه يعالجه بالأناة وطول الصبر.. فيعفو عنه ويغفر له (مرة.. ومرة.. ومرة).. حتى إذا استيأس، نزع منه يده (نزعا باتّا) وصدّ عنه صدوداً.. فلا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً.. وإنما هو - في هذا - يلزم قول الشاعر:

إذا انصرفَتْ نفسي عن الشيءِ لم تكدْ

إليه بوجهٍ آخر الدهر تُقبل

وكذلك مع الآخر:

صِلْ مَن دنا وتناسَ مَنْ بَعُدا

لا تُكرهنَّ على الهوى أحداً

قد أكثرتْ حَوّاءُ ما وَلَدَتْ

فإذا جفا ولدٌ فخذ ولدا

وهذا بيطار الأشعار عبدالله بن سْبَيّل (راعي نِفِيْ) يقول:

المقفي اقفى عنه ولو كان مملوح

والمقبل ارفعْ له شْراعَ السفينهْ

نعم.. إن هذه هي حال صاحبنا عبدالله في (باب الصداقة والأصدقاء).

وإليكم شيئاً قليلاً من حكايات كانت لي معه:

في أول السبعينيّات هجريّا، كنت - في الرياض - أسكن أحَد بيوت الاخوان، وكان يزورني فيه، وكان الاخوان -وهم من تلاميذ المعهد العلمي- يَتَجَمَّعُون للمؤانسة في غرفة أحدهم، وربما تساجلوا الأشعار - على قلّة ما يحفظون منها لأنهم صغار، وحُدثاء العهد بالتعليم - ولم أكن أنا وصاحبي أحسن حالاً منهم فيها، ولهذا قلما يكون الجواب في التساجل حاضراً في الأذهان.. فعند مطالبة الخصم ببيت أوله آخر حرف من البيت الذي قاله، فإنك قد لا تسمع الجواب حالاً.. ولكن يؤخره التفطّن وطول التذكّر.. وكنت وصاحبي في (فريق واحد).. وقد بدا لنا أنْ لا سبيل إلى الجواب (الناجز) إلا بحيلة تَنْشِلُنا من مأزق الحيرَة والفشل.. فلجأنا إلى أن نتخذ من حرفي (الفاء والواو) متنفساً يُعجّل الجواب (ظاهراً) وإن خالف الصواب (باطناً) فصرنا نراوح بين هذين الحرفين بأن نجعل أحدهما مكان الآخر كلما ألْجَمَنَا العجز.. فإذا كان البيت المطلوب أوله (الفاء) وهي غائبة عن الذهن - ساعة العُسْرة - قذفنا في وجوه الأخصام (الواو) بدلاً منها (والضد بالضدّ) في كل كربة تغشانا.. لأن علمنا بجهل أصحابنا يجرّئنا على الإيغال في التدليس.. وسبب اقتصارنا فيه على هذين الحرفين أنهما (شقيقان) وكلاهما للعطف، وتناوبهما لا يختلّ به الوزن، ولا ينكشف تأثيره على المعنى لدى السامعين من قوم (كُبّْ لُهْ ياْكِلْ) وإنما الذي يدرك الفرق بين الفاء والواو هو العليم بقواعد العربية.. وأين هو - يومئذ - بين أولئك الغِلْمة؟؟.

وهذا مثال على ذلك التدبير الذكيّ:

(ولُبْس عباءةٍ وتَقَرُّ عيني) نقول: فلبس.. وعكس ذلك (فلا تكتُمنّ اللهَ ما في نفوسكم) نقول: ولا تكتمن.. وهكذا دواليك ما دام (مافي الحمْضْ أَحَدْ).

ومهما يكنْ، فإنَّ هذا النوعَ من التساجُل، هو إلى مهارشة المزْح، أقربُ منه إلى رصانة الجدّ.. ذلك أن الفريقين صبيانٌ أسنانهم (دون العشرين) وهذه المطارحات الشعرية المحفوظاتية جديدة عليهم وليس بينهم فيها (عِوضٌ مالي) وإنما يكفي المنتصرَ منهم (لذةُ الفرحة).. فلا تثريبَ - إذنْ - إن شاء الله.

ومن المواقف التي جرت بيننا: - أننا حلّتْ علينا إجازة الربيع - في المعهد - 1374 فسافرنا - نحن الرسِّيين - لقضائها مع أهالينا في الدِّيرة.. وكنا في غاية السرور والحبور بعد هَمّ الدراسة ومكابدة الغُرْبة والعُزبة، فخرجَتْ بنا السيارة من الرياض، وكان الجوّ في رَيْعان الجمال، والأمسياتُ الليليةُ صافيةُ السماء، عَذِيّةُ الهواء، ذهبية القمراء.. وقد استدعى ذلك فينا (الرغبةَ في الحُداء والغِناء) إما بالقصيدِ الشعبي، أو بما ظهر علينا -تلك الأيام- من أغاني الراديو.. فصرنا - ونحن على ظهر الفورد 1952 - كلما أقبل الليل، وبَلَعَتِ الأرضُ الشمسَ ولفَظتِ القمر ثم تربَّع على هامة (الزرقاء) نصطفي الطَربياتِ الجديدةَ.. مثل (على بلد المحبوب) و(ع اللُّوْما اللُّوْما) و(جينا وْجينا وجينا جِبْنا العَروسْ وْجِينا).

وبينما نحن في (أحسن حالٍ وأنعم بال) والسيارة في السكة الرملية تجري وتَسري.. إذْ أحَسَّ بعضُ القوم أن عزيمتَها فَتَرتْ، وهمتَها برَدَتْ.. فأوقفها رَبُّها، وأخذ في الفحص وتحريك أجزاء في المكينة، ولم تظهر له العلة المستظلة.. حتى استفحل العطب فربضتْ ربضة (اللائي يئسنَ من المسير)، وكان ذلك طلوعَ الشمس، وقد بقي من الدّرب دون (30 كم) وفوق (20كم) فرأى الجماعةُ أن ننقسم قسمين.. أحدهما يواصل (على رجليه) والآخر يبقى مع راعي السيارة (حتى يزول البأسُ واليأس).

فأما أنا وصويحبي فكنا (مع الظاعنين) وعددنا (خمسة) فانطلقنا نراوح بين الإسراع والمَهَل، فلما انقضى الثلثان مما بقي من الطريق ساءت حالُنا وتلفت نعالًنا.. فجعلنا نتخفف منها ونمشي (حفاة) لكن أقدامنا على الشوك والحصى لا تقوى.. فاستغاث كل منا بثيابه، وصار ينزع منها ما يزيد على ما يواري العورة.. ثم يقطّعه مِزقاً مِزقاً، ويلفّ على قدميه وما يليهما من ساقيه، ثم استأنفنا (نضرب في الأرض) مهطِعِين (مسرعين) حِراصاً على الوصول قبل الغروب.. وهكذا كان (ولله عظيم المنّة) فقد بلغنا (الرس) وكانت - ساعتئذٍ - تزدهي بـ(شمس الأصيل) وقد ذَهَّبَتْ خوصَ النخيل، كما يقول (بيرم التونسي).

أما إخواننا فقد ألفيناهم قد وصلوا قبلنا بنحو ساعة (من غير بأس ولا مكروه) فالتأم الشمل بهم وبأهلينا (على الحال السارة) بفضل الله وسوابغ نِعَمِه

وبعد أن (راحت السَّكرة وجَتْ الفَكرة) خَطر ببالي ما أَمْسَينا فيه

- الليلةَ الماضيةَ - من الغِناء والهَناء.. ثم ما أصبحنا عليه من (العَناء والشقاء) فذكرتُ بيتَ المتنبي يمدح (سَيْفَ الدولة) وما فعله بأعدائه حيث قال - وكأنه يعنينا في تلك الرحلة المباركة:

فمسّاهُمْ وبُسْطُهمو حَريرٌ

وصَبّحَهمْ وبسطهمو تُرابُ

وهذا من أمثلة البلاغِيّين (للمقابلة) في فنّ البديع، وهي: أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب.

أيها الإخوان القراء الأكارم: لقد كان لصديقنا - موضوع المقالة- دَوْرٌ باهر في ترفيهنا وتمتيعنا أثناء الهرولة في الطريق حين كنا (ننتَعِلُ الخِرَق)..إذْ كان يُفِيضُ علينا أشكالاً من الدُّعاباتِ التي تُضحك الثَّكَالَى.. بل تبهج (الوزيرَ المعزول).. فهو بهذه التسالي (إنْ لم يكن أجْدانا فقل ألهانا) وكأنه قصَّرَ علينا المسافة (فزالت عنا الكلافة).

وأختم حكاياتي بهذه الواقعة:

كان مدرس الأدب في المعهد هو الأستاذ (محمد علي العَبْد) وهو على ما أعتقد (سوريّ) وكان يبدو لي أن الشاميين ينطقون (الجيم) معطّشة غارقة بالتفخيم حتى لكأنها (حرف الشين).. فلو أني سمعت أحداً يُنشد (فُرِجَتْ وكنتُ أظنها لا تُفْرجُ) توهّمته يقول: (فُرِشَتْ وكنت أظنها لا تُفْرَشُ).. لكنْ سياقُ الكلامِ يُفْهِمُ السامعَ مُرادَ المتكلم (بلاشك).

وكان من المقرر علينا في الشعر قصيدةٌ لحسَّانَ.. ومنها:

لله دَرُّ عصابةٍ نادمْتُهمْ

يوماً بِجِلَّقَ في الزمان الأوّلِ

وفي ذات يوم كنت أغني بها عند زميلي وأقول (يوما بشِلِّقا) فانفجر بِضِحْكة فزَّعَتْني وجعلته ينكفئ على قفاه ويفحَصُ الأرضَ برجليه (مَبْهوتاً).. فلما سُرِّيَ عنه وزالت الغاشية نقزَ مُنْتصِباً على قدميه.. وصَرَخَ بي (ياشيخ.. اسْتَحْ.. استح لا يوحِيك احَدْ) ما هِيْبْ شِلِّقا!! هي (جِلَّقَ) يا مسيكين!! ثم لا تسألوني عمّا دهاني لحظتئِذٍ من رَجْفَةِ الفضيحة.

نعم.. أنا كنت أظنُّ حسّان يريد (شِلِّقا) وهي الحارة المعروفة عندنا في الرياض بين شارعَي الوزير والظهيْرِة (في الجهة الجنوبية) وأن هذا المكان كان معروفاً بهذا الاسم (قبل البِعْثَة)، وذلك على نحو ما قال زهير عن (الرس): «فهنّ ووادي الرس كاليدِ للفم» فظل اسمها هكذا (خالداً مُخَلّدا) على الدهور والعصور.. ولم أدْرِ أَن مراد ابن أبي سُلمَى هو (ديرة أستاذنا محمد علي العبد) التي هي (دمشق).

وكنت حين أدركتُ ضَيْعَتي في الفهم (حمدت الله) على أني ما سمعت من معلّمنا هذا قصيدةَ شوقي التي أَوّلها: (قم ناجِ جِلَّق وانشُدْ رَسْمَ مَن بانوا) وإلاَّ لكنتُ مَسْخَرَة للضاحكين حيث أتلفّظ (بالجِيمَينِ) متواليتين.. هكذا: (قُمْ ناشِ شِلِّقا).

أيها الإخوان القراء: إنّ لي مع هذا المرء الفاضل سنينَ طِوالاً ملآنةً بالقصص المستظرفة.. لكني عاجز عن أنْ أزيد جملة واحدة فوق ما ذكرت هنا.

وبعد، فإننا بموته لفي حزن شديد ما عليه مزيد، ولا نملك غير الآهات وتذرِيف الدَّمعات.

أجل.. ما الحيلةُ في أمر كتبه الله على خلقه أجمعين؟..

وهل يأْبَق الإنسانُ من مُلْك ربِّهِ

فيخرجَ عن أرضٍ لهُ وسماءِ

ثم هل من سبيل إلى العزاء والأجر، غير الاحتسابِ والصبر؟.. فلا تَسَخُّطَ ولا جزع.. ذلك أنّ المصيبةَ للصابر (واحدةٌ) وللجازع (اثنتان).

إذا حَلَّ بك الأمر

فكنْ بالصبر لَوَّاذا

وإلاّ فاتك الأجرُ

فلا هذا ولا ذاك

وشاعرٌ آخرُ يقول:

هو القدَر المحتومُ إنْ جاء مُقبلا

فلا الغابُ محروسٌ ولا اللَّيثُ واثِبُ

هذا، على أن الهلعَ الذي يتغَشّى الإنسانَ أوّل حُلول المصيبة، سيزيله - حَتْماً - مَرُّ الغَداةِ، وكَرُّ العَشِي، فإذا هو (يسْلُو كما تسلو البهايِمِ).. تقول ليلى الأخيلية:

ومن كان مما يُحْدِثُ الدهر جازعاً فلا بدّ يوماً أن يُرى وهو صابرُ

ويقول الشيخ الرئيس (ابن سيناء):

غاية الحزن والسرور انقضاء

ما لحيّ من بعد مَيْتٍ بقاءُ

لا لَبيدٌ بأرْبَدٍ ماتَ حُزْناً

وسَلتْ عن شقيقها الخنساءُ

مِثْلَ ما في التراب يَبْلَى الفتى فالْ

حُزْنُ يَبْلَى من بعده والبُكاءُ

هذا، وإنّ آخر قولي في تأبين صديقي في الطُّفولِيّةِ والشبابِ والشُّيّوخَة (الحبيب اللَّبيب) الشيخ (عبدالله العبدالرحمن الضويان) أن أسأل السميعَ المجيب أن يرحمَه ويعفوَ عنه، ويرفعَ مقامَه في الفردوس الأعلى، وأن يجمعنا به (في جنّات ونَهَر.. في مَقْعَدِ صِدْقٍ عند مليكٍ مُقتدر) وأن يحسنَ العزاءَ فيه لأهليه وذويه، وأقربائهِ وأحِبائهِ، ومشايخه وتلاميذه.. وأخُصُ من أصحابه (جليسَهُ وأنيسَه) ندِيْمَهُ وحمِيمَه (على طول الأيام وتوالي الأعوام) المربي الكبير، الأستاذ (محمد الدخيل).

أمّا أنا - أخاكم ناصراً - فكأني أرى الشاعرَ أبا السَّعاداتِ الحُسيني قد ناب عني هنا إذْ يقول:

وعجيبٌ أني أُعَزّيِ مُحبّيه في

يهِ وحظي من العزاءِ قليلُ.

مقالات أخرى للكاتب