Saturday 11/01/2014 Issue 15080 السبت 10 ربيع الأول 1435 العدد
11-01-2014

من التَّمَزُّق اللغويِّ إلى التَّمَزُّق الاصطلاحي

امتداداً لما أسلفته في هذه الجريدة عن الشتات اللغوي أنني وجدتُ في كتاب (تكملة المعاجم العربية) لرينهارت دوزي النَّقْلَ عن معجم بوشر، وقد عَرَّف الدكتور محمد سليم النعيمي مترجم تكملة دوزي بمعجم (بوشر) في مقدمته 1-22 : بأنه معجم فرنسي من أكبر المعاجم

الخواجية ألَّفه اليوسي بوشر المصري سنة 1852م، وأنه موجود بمكتبة ميونيخ، وبوشر ينقل عن معجم الأب (يدرودى الكالا) الذي طبعه في غرناطة عام 1505 م، وقد ذكر دوزي في مقدمته ص 21 أنه يريد به تيسير رِدَّةٍ المسلمين إلى النصرانية بعد الاستيلاء على مدينتهم، وهو معجم عربي بحروف قشتالية، وذكر دوزي في مقدمته ص 57 - 59 كلمات مشكوكاً في صحتها .. مع عِلمي أن غير الصحيح يقيناً لا شكاً أكثر؛ فَمِمَّا ذكره في مادة (الفكر) وحدها جملة (افتكر القديم) بمعنى (تذكر الماضي، وطعن فيه، وسَبَّه)؛ فمعنى التذكر صحيح، وما عدا ذلك فليس معنى للمادة عند العرب، بل هو معانٍ زائدة في نتيجة التذكر، وهي معانٍ غير حتمية؛ فقد يذكر ما ضيه ويمدحه ويلتذُّ به، ووصف الكالا (الفكرة) بأنها خيال وقلق ووهم وانشغال بال، وقد كذب على العرب وعلى الواقع في ذلك؛ فالفكرة ما انتهى إليه الفكر صواباً أو خطأ من الأشياء الواقعية، والخيالُ فكرةٌ من أنواع الفِكَر بفتح الكاف، وهي لا تكون إلا بنظر الفكر في أجزاء من الواقع؛ لإيجادِ صورةٍ مُتَخَيَّلَةِ التركيب، ولا قدرة للعقل على التخيُّل إلا من أجزاء الواقع؛ لبلوغ الغاية في تصوير الحسن، أو تصوير القبح كالدَّمامة أو البشاعة كما نجد في الكاريكاتير بالصحافة، ولقد رأيت صورة لكافكا بآذان حمار.. والقلق وانشغال البال ليس معنى للفكرة، ولكنه حالة قد تعرض للمفكر حال تفكيره؛ فيوصَف بها، وليست حتمية؛ فقد يكون في غاية الارتياح والانسجام مع تفكيره، وما أراد (كالا) النَّذْلُ إلا وضع لبنات الحسبانيةِ في حجب النتائج الخيِّرة من حصيلة التفكير الذي أَمَرتْ به الأديان؛ لتغييب الحقائق عن المؤمنين، وهكذا وصف في موضع آخر المُفكِّر بالخيالي، وبأنه مُفَكِّر الشَّرِ المرتابُ الظَّنُونُ (بالظاء المُعجمة المفتوحة المُشَدَّدة والنون المضمومة) الحذِرُ المحترِس؛ فبربكم كيف يرتفع الارتياب بغير تفكير؟ .. ثم إن معاجم الخواجات لا تكون استدراكاً على معاجم العرب إلا ما كان نقلاً أميناً عن مصادر عربية من استعمال فصيح غير عامي لم يرد في متون كتب اللغة، لأننا لا نتلقَّى لغتنا من ترجمة الخواجات الأعاجم؛ ففيهم من ساء فهمه، أو ساء قصده، أو ساءت ترجمته في صحة الأداء.. ثم اذكروا ما أسلفته عن الجذر الثنائي، فالكرف هو مبالغة الحصان في شم عورة الفرس استعداداً للسفاد، ثم أضافت العامة الكرف إلى بلوغ الغاية في الجماع، ثم استعاروه أضاً لبلوغ الغاية في خدمة العُمَّال واستهلاك جهدهم في العمل؛ فيقال: (فلان يكرف عُمَّاله) والركف أهمله الليث وليس بحجة، وقال شَمِر: (ارتكف الثلج إذا وقع فتيتاً على الأرض)؛ فهذا بلغ الغاية في انحلاله منذ وصوله إلى الأرض، والعامة تقول: (ركفتُ فلاناً) بمعنى بلغت الغاية في إفحامِه بالتعنيت والتعنيف عليه .. وكفر بمعنى بلغ الغاية في إخفاء الحق وجحده .. وفرك بلغ الغاية بأصابعه في تفتيت شيئ، أو تنعيمه، أو تطهيره وإزالة ما علق به.. ونقل الراغب الأصفهاني -رحمه الله تعالى- عن بعض الأدباء أن (الفكر) مقلوب عن (الفرك)، وليس هذا بصحيح، بل هو دعوى على لغة العرب بلا برهان، بل الصواب أن الفكر والرفك من حروف جذرية واحدة تَدُلُّ مُجْتَمِعَةً على بلوغ الغاية في امتحان الشيئ؛ فالفكر إذن هو بلوغُ الغاية في فحص ما هو موضوع نظره من كل وجوهه، وبلوغُ الغاية في لمِّ شتات أحواله علاقات وفروقاً، وبلوغُ الغاية في استخراج أحكامه .. والتذكر مرادف للتفكُّر لا من جهة المطابقة، ولكن من جهة جزئية من جزئيات عمل المتفكِّر.. قال تعالى عن صاحب يوسف عليه السلام: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [سورة يوسف/ 45] أي ذكر ما نسيه من وصيَّة يوسف، وكان ذِكْره بعد حين من الزمن، وقد بيَّن الإمام ابن جرير -رحمه الله تعالى- في تفسيره سورة القمر أن (مُدَّكر) بالدال المهملة على وزن (مفتعل) بمعنى (مذَّكر) بالذال المعجمة؛ لأن عادة العرب [لتقارب المخرج] أن يجعلوا التاء ذات الثنتين من فوق بعد الذال المعجمة دالاً مهملة مشدَّدة .. ووجه الترادف أن من أحوال المفكِّر أن يبلغ الجهد في استذكار ما تصوَّره؛ ليقرنه بالحاضر الذي يشاهده؛ وليُعْمِل فيه نظره؛ ولهذا الترادف سُمِّيت الكُرَّاسة التي تُودِع فيها معلوماتٍ تخشى نسيانها مُفَكِّرة .. هذا شيء من الشتاتِ اللغوي امتداداً لما نشرته في هذه الجريدة في الأسبوع الماضي، وأما التمزُّق الاصطلاحي فهو أكثر شتاتاً، وأعد إن شاء الله بجولة أخرى مع التمزق الاصطلاحي في حال فراغ ونشاط ذهني، وأكتفي ههنا بنموذج من الفلسفة الحديثة، وهو قول (جاك ماريتان): ((إن إحساساتِنَا وصُوَرَنا الخياليةَ تُقَدِّم لنا مباشرة ما هو فرديٌّ وجزئي بينما تُقَدِّم لنا أفكارنا ما هو كُلِّي)).

قال أبو عبدالرحمن: هذا النص من ترجمة جلال الدين سعيد في كتابه (معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية)؛ فإن صَحَّت الترجمة فكلام هذا الفيلسوف شبيه بكلام السِّكِّير الطافح حينما يرى الديك حماراً؛ لأنه جعل ثُنائيةً بين الأفكار والإحساسات والصُّور، ولم يُعَرِّف بالفكر نفسه؛ فالفكر اسم للقوة التي نصل بها (إذا حصلت رؤية الفكر بالتفكير) إلى إدراك صُوَرِ الأشياء سواء أكانت مُتَعَدِّدةً أم فردية، وسواء أكانت جزئية أم كلية؛ فالصور هي مُدْرَكات الفكر من الحس التي هي نتائج التفكير؛ فلا ثنائية بين الفكر ونتائجه؛ فهذا أوَّل خباله الفلسفي.. وخباله الثاني أنه جعل الإحساساتِ والصُّوَرَ شيئين بينما الإحساسُ نفسُه ظاهرياً أو باطنياً هو صورتُه التي التقطها العقل في ذاكرته بملكة التفكير .. وخباله الثالث قوله: (صورنا الخيالية) مع أنه محال أن يكون في العقل صورة إلا لما هو موجود بأجزائه في الواقع: إما بالتجريد من عموم أجزائه كالمعاني الموجزة التي نعرف بها معنى (البيت) من صفات جميع البيوت المُخْتَلِفة التي شاهدناها، وإما بتركيب تخيَّلْناه من أجزاءَ في الواقع؛ فحصلتْ صورةٌ لا نملك إثباتَها أو نفيها بذلك التركيب في الواقع؛ فلم نشاهد بشراً بآذان حمار كما في الكاريكاتير عن (كافكا)، ولا نملك إحالة وجوده، فالصورة الخيالية صورةٌ من أجزاء الواقع.. وخباله الرابع زَعْمُه بأن الإحساسات والصور تُقَدِّم لنا مباشرة ما هو جزئي وفردي!!.. بينما الإحساسات التي هي صورٌ في العقل لا تُقَدِّم جزئياً ولا فردياً ولا كُلِّياً، بل هي نفسُها في وجودها: إما كذا، وإما كذا؛ وإنما تُمِدُّ أحكامَ العقل في نظره بفكره بالعلاقات والفوارق بين الأشياء؛ لتحقيق مبدأ (الهُوِيَّة) لكل شيء أدَرَكَتْه عقولنا.. وخباله الخامس أنه جعل الكُلِّي من تقديم الأفكار!!.. والواقع أن الكُلِّيَّ والفردي والجُزئي كلها من تقديم الأفكار إذا حصلت لها الرؤية، وهكذا الصور الخيالية والإحساسات هي من تقديم الأفكار بعد الرؤية الفكرية، والعلاقات والفوارق بينها إدراك عقلي منها مُجْتَمِعَة في التصَوُّر .. ثم إن إدراك الكلي نسبي بالنسبة للمخلوقين؛ فالكُلِّي هو ما أحصاه تاريخُ الفكرِ البشري من جوانب الشيء التي أدركها البشر بالمعرفة والعلم، وأما الإحاطة بحقيقة الشيء من كل جوانبه فلا يملكها إلا خالقها جل جلاله كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [سورة الروم/ 7]، وأقرب مثال لذلك مُنتهى الصيرورة لبعض الأشياء التي تفنى القرون البشرية ولم تدركها، أو لم تدرك إلا قليلاً منها.. وأما تعريف الفكر في تراثنا فمنه تعريف الجرجاني -رحمه الله تعالى- بأنه (ترتيب أمور معلومة لِتَّأدِّي إلى مجهول)؛ فهذا ليس تعريفاً للفكر، بل هو بيان لبعض وظائف التفكير في انتقاله مما عَلِمَه إلى ما يأمل أن يعلمه، ووظيفة التفكير أعم من ذلك؛ فهي تبدأ بالمعلوم نفسه، ليأخذ من جوانبه الأخرى زيادةَ علمٍ أو مَعْرِفة.. وفي تعريف الكفوي أن الفكر هو (حركة النفس نحو المبادئ والرجوع منها إلى المطالب).

قال أبو عبدالرحمن: المبادئ هي المرادف للمعلوم في تعريف الجرجاني، والمطالب تُرادفُ المجهول.. ثم إن النفس أعمُّ من الفكر؛ فهي جسد وروح ومشاعر وعقل من قُواه الفكر والتفكير، والتعريف بعد ذلك بيان لبعض وظائف الفكر إذا حصلتْ له رؤية بالتفكير، وليس تعريفاً للفكر نفسه، والتقصي للشتات اللغوي والاصطلاحي في مادة واحدة فقط كالفكر يطول جداً، ولا تتحمله سبتيتي؛ وإنما ذلك لأسفار الكُتب، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب