Friday 17/01/2014 Issue 15086 الجمعة 16 ربيع الأول 1435 العدد
17-01-2014

ابن داود وابن حزم

ابن داود وابن حزم كلاهما ظاهري المذهب، وهما غنيان عن التعريف، وقد ألفا عدداً غير قليل من الكتب، وتقاربا في الكثير من الفكر رغم بعد المسافة بين العالمين، فأحدهما عاش في المشرق والآخر عاش في الأندلس.. وكان لكل منهما متاعبه، لاسيما ابن حزم الذي كان في صراع مع معاصريه سواء في المجال السياسي أو المجال الفكري، حتى أدت به الحال وتقلبت الأحوال إلى النفي، ثم حرق كتبه، ولهذا فلم يصلنا منها إلا القليل، ومن ذلك القليل (طوق الحمامة) الذي انتشر وترجم إلى العديد من اللغات؛ وأما كتاب (الزخرة) لابن داود فلم يجد ذلك الانتشار الواسع بالمقدار الذي كان عليه كتاب الطوق.. ودعونا نبصر في الفرق في ما كتبه في مجال الحب، وقد سبقني غيري إلى ذلك.

قال ابن داود عن الحب من أول نظرة «رب حرب جنيت من لفظة، ورب عشق غرس من لحظة».. وقال ابن حزم: «وكثيراً ما يكون الحب من نظرة واحدة».. وعن «وقوع الحب بالسماع» ذكر ابن داوود تلك العبارة مدللاً عليها بحديث للرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».. وقال ابن حزم «ومن غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة».

وعن التقاء روحي المحبين، باعتبار اللقاء أمراً مقدوراً يقول ابن داود: «إن الله جل ثناؤه خلق كل روح مدورة الشكل على هيئة الكرة، ثم قطعها أيضاً فجعل في كل جسد نصفاً.. وكل جسد يلقي الجسد الذي فيه النصف الذي قطع من النصف الذي معه؛ كان بينهما عشق للمناسبة القديمة. وتتفاوت أحوال الناس في ذلك على حسب رقة طبائعهم».

وقد علق ابن حزم على هذا النص ناسباً إياه إلى مصدره للمرة الأولى والأخيرة؛ معارضاً مقولة ابن داود، يقول ابن حزم: «الأرواح أكر مقسومة، لكن على سبيل مناسبة قواها في مقر عالمها العلوي، ومجاورتها في هيئة تركيبها».

وعن أنواع الحب وضروبه، يقول ابن داود: «يكون على ثلاثة أضرب، إما لاتفاق الأرواح، فلا يجد المرء بداً من أن يحب صاحبه، وأما للمنفعة، وإما لحزن وفرح». ويمثل لذلك يقول الشاعر:

ثلاثة أحباب فحب علاقة

وحب تملاق وحب هو القتل

وفي المعنى نفسه قال ابن حزم: «ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوتر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس»، ويدلل على ذلك بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن «الأرواح المجندة».

وعن وقوع الحب نتيجة وجود صفات مشتركة بين الطرفين؛ يقول ابن داود: «إن المحبة قد تقع من العاقلين من باب تشاكلهما في العقل، ولا تقع بين الأحمقين من باب تشاكلهما في الحمق، لأن العقل يجري على ترتيب فيجوز أن يتفق فيه على طريق واحد، والحمق لا يجري على ترتيب فلا يجوز أن يقع به اتفاق اثنين».

وفي المعنى نفسه ذكر ابن حزم: «إنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكل واتفاق الصفات الطبيعية.. وكلما كثرت الأشياء زادت المجانسة، وتأكدت المودة».

وعن الآثار السلبية للحب من طرف واحد، يقول ابن داود «إن العشق طمع يتولد في القلب، وتجتمع إليه مواد من الحرص، فكلما قوى ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدة القلق وكثرة الشهوة.

وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته إلى السوداء، والتهاب الصفراء وانقلابها إلى السوداء، ومن طغيان السوداء، فساد الفكر، ومع فساد الفكر تكون العدامة ونقصان العقل، ورجاء ما لا يكون، وتمني ما لا يتم حتى يؤدي ذلك إلى الجنون، فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه، وربما مات غماً، وربما نظر إلى معشوقه فيموت فرحاً أو أسفاً، وربما شهق شهقة فتختفي فيها روحه أربعاً وعشرين ساعة، فيظنون أنه مات، فيقبرونه وهو حي»؛ وفي هذا المعنى ذكر ابن حزم: «وهو ضرب يكون متوليه المحب،وذلك عندما يرى من جفاء محبوبه، فيرى الموت، ويتجرع غصص الأسى، فينقطع وكبده تنقطع». ونلاحظ عمق ما قدمه ابن داود من تفسير سيكولوجي وفسيولوجي، على عكس طرح ابن حزم الذي يحفل بالتشبيهات والكنايات اللفظية.

ومهما يكن فإن العالمين قد أبحرا في نفوس المحبين، وتصيدا رقة قلوب العاشقين وبواعث نفوس المتيمين، وحاولا جاهدين وصف ذلك وإظهاره من خلجات النفس إلى حكمة العقل .. لعل العاقل يعود إلى رشده إن كان لديه عقل، وإلا هلك في مزالق الهوى.. -أعاذنا الله وإياكم من ذلك-.

مقالات أخرى للكاتب