Tuesday 01/04/2014 Issue 15160 الثلاثاء 01 جمادى الآخرة 1435 العدد
01-04-2014

الوضوح البناء

كانت زيارة الرئيس أوباما، ولقاء القمة في روضة خريم الذي تم بينه وبين خادم الحرمين مفيدة جداً لإعادة العلاقة التاريخية بينهما إلى مجاريها وتأكيد مصالحهما المشتركة وتقريب رؤاهما حول كثير من قضايا المنطقة والعالم. وكان حجم البعثة المرافقة للرئيس ملفتاً للنظر حيت ضمت جميع أعضاء إدارته الفاعلين. ورغم ذلك، لم يكن في

التغطية الإعلامية للزيارة أي ذكر أو إشادة بهذه الخطوة المهمة التي أقدم عليها الرئيس الأمريكي لترميم العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية فهو زعيم دولة عظمى، وهو أيضاً ضيف على دولة عرف عنها كرم الوفادة.

وكلما تذكرت العلاقة بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية، تذكرت معها عبارة للأمير بندر بن سلطان، الدبلوماسي السعودي المخضرم الخبير في الشؤون الأمريكية حيث قال لمذيع أحد القنوات التلفزيونية ذات مرة عندما سأله عن سبب حرصه على علاقة متميزة بين المملكة وأمريكا: أمريكا لم تسئ للمملكة في أي أمر كان، ومعظمنا تعلم في أمريكا، وأمريكا هي أكبر شريك تجاري لنا. ولا شك أن المنطق والواقع يتفق مع ما ذكره سموه، فمعظم من درسوا في أمريكا يذكرون مثلاً أنهم كانوا يمنحون فيز شبه دبلوماسية، ويعملون معاملة متميزة، بل إن بعضهم كان يتظاهر بكل حرية في أمريكا ضد أمريكا ويبث دعايات للدول اليسارية، أو للخميني في بداياته في الجامعات التي يدرسون بها، ولم يتعرضوا لأي مضايقات.

وكان سموه يقصد أن الخلافات مع أمريكا كانت دائماً حول قضايا متعلقة بدول أخرى شقيقة ندخل طرفاً فيها إما للوساطة أو الضغط من أجل الحصول على مكاسب تهم هذه القضايا، وتهم غيرنا وتضر بمصالحنا. وما لبث كل من اتهمنا بصداقة «عدوة العروبة والإسلام»، أو «الشيطان الأكبر» أن هرول لأمريكا في أقرب فرصة ساعياً للتقرب لها و للإضرار بعلاقتنا التاريخية بها، وتحولت الدولة الإمبريالية بقدرة قادر إلى منقذ للثورات العربية!! وما أقدم عليه بعض شبابنا من أعمال أضرت بعلاقتنا بأمريكا أسوأ بكثير مما فعله أعداؤنا، وجميعها أيضاً كانت فزعة لدول وشعوب كانوا أول من باعهم لأمريكا ذاتها مقابلة حفنة من الدولارات.

كانت أمريكا شماعة، بل دولاب شماعات، تعلق عليه كثير من الحكومات خفاقاتها، ويبرر بسببها كل ظلم تسوم بها شعوبه، فكان كل ما يحدث يصنف على أنه مؤامرة من أمريكا، وسجن الأبرياء يكون إما لعمالتهم أو نيتهم للعمالة لأمريكا. وأمريكا هي من يقمع الحرية، ويمنع الديمقراطية، ولكنها لا تصادر الحريات، ولا تقمع الديمقراطيات في دول أخرى صديقة لها!! بل إن من هذه الدول مثل كوريا، واليابان، وتايوان من هي أكثر الدول حرية وديمقراطية ونمواً اقتصادياً. والواقع كما اتضح هو أنه بالنسبة لمنطقتنا هناك أمريكتان أحدهما أمريكا حقيقية تتصرف كأي دولة أخرى وفق مصالحها، وأخرى متخيلة بقرني شيطان هي سبب مشاكلنا وويلاتنا. فنحن نعيب أمريكا والعيب في أحيانٍ كثيرٍ فينا.

وأول بوادر فتور للعلاقات الأمريكية السعودية كانت بسبب دفاع المملكة عن إيران، نعم إيران، وكان ذلك بعيد تفجير الخبر في 25 يونيو 1996م الذي نفذته مجموعة من عملاء إيران في السعودية، وربما كانوا أول خلية نائمة لحزب الله في المملكة، فقد منعت المملكة أمريكا من المشاركة في التحقيقات في التفجيرات رغم الحاح منها بحجة أن المجمع أمريكي وأن ضحايا التفجير الضخم مواطنون أمريكيون، ورفضت المملكة كذلك تسليم أمريكا نتائج التحقيقات حتى لا تتخذها أمريكا ذريعة لضرب «الشقيقة المسلمة» التي خرجت للتو من حرب طويلة مع العراق شبه محطمة. ومن ذلك الوقت وبعيد أحداث 11 سبتمبر التي ورِّط فيها بعض شبابنا، وأمريكا تتبنى مع المملكة ما وصف بسياسة «الغموض البناء». أما إيران فهي تهادن الشيطان الأكبر وتعاديه حسب مصالحها، و تمنح ملاذاً آمناً لقادة القاعدة في أراضيها لتستخدمهم بين الفينة والأخرى لإضعاف صورتنا في أمريكا والغرب، وإضعاف علاقتنا معها. وبعد أن دخلت إيران طرفاً صريحاً في معارك ضد الشعوب العربية في العراق وسوريا أصبحت تتهمنا هي صراحة «بدعم الإرهاب» التي تصنعه وتؤويه لتتهمنا به!!

والكاتب يعتقد أنه من أحسن محاسن ما سمي بالربيع العربي جلاء صورتنا العربية واختفاء المواربات والتقيات، وتبين أن الكثير منا في غفلة من أمرهم بينما إيران وحلفاؤها الطائفيون يشعلون الكراهية والانقسامات في كل مكان، وعرفنا أن هناك مصادر أخرى لمصائبنا وويلاتنا غير أمريكا «الإمبريالية»، والغرب المستعمر. واتضح لنا أن من يعادي أمريكا في النهار والعلن يشاركها المخدع في الهجيع والسر. واتضح أن بعضاً ممن ضحينا بكثير من مصالحنا مع أمريكا من أجلهم أول من قلب ظهر المجن لنا. وهنا مرة أخرى يتبين ما قصده سمو الأمير بندر الخبير بأمور المنطقة وعلاقات أمريكا مع أطرافها.

وعندما حانت ساعة الصفر، وآلت علاقتنا مع أمريكا إلى مآلات قد لا تتفق مع ثوابتنا ومصالحنا كانت مواقفنا واضحة وثابتة. وشاهد العالم أجمع بأم عينيه أنه عندما تتخذ أمريكا مواقف تضر بأصول علاقتنا وصداقتنا معها ومصالحنا أننا لا نتردد في اتخاذ أي مواقف كانت في سبيل الحفاظ على ثوابتنا.

الفتور القوي جداً في العلاقة بين أقوى حليفين استراتيجيين في المنطقة كان واضحاً ومعلناً وضوح الشمس في رابعة النهار، والسعودية هي من أوضحه وليست أمريكا. وأثبتت المملكة أن لها خيارات استراتيجية أخرى وأنها لا يمكن أن تكون رهينة لأي طرف حتى ولو كان حليفاً استراتيجياً بحجم أمريكا. وربما كانت فترة الفتور ضروريةً، ضروريةً من أجل معرفة كل طرف خياراته وتقييمها دون الطرف الآخر، واتضح في نهاية المطاف أن الفتور يضر بالطرفين، وأن علاقتهما الاستراتيجية لفترة عقود طويلة ضرورية ومفيدة لمصالحهما مجتمعين، وأثبتت أن كل منهما في حاجة ماسة للآخر، فكانت زيارة الرئيس أوباما بالأمس وعلى رأس وفد ضخم من إدارته مهمة، وهي ربما تدشن مرحلة جديدة من العلاقات أقوى وأوضح من ذي قبل، مرحلة هي أقرب «للوضوح البناء»، فقد اتضح للطرفين أن الصراحة والود والوضوح هي السبيل الأوحد للمضي قدماً.

وأصبحت أمور المنطقة اليوم في غاية الوضوح، وانتهت مرحلة الإبهام والشعارات الإيدلوجية الفارغة، وقد يسهم هذا الوضح في تهيئة ظروف موضوعية تساهم في حل كثير من قضايا المنطقة وإسعاد شعوبها. فهناك تحديات أكبر من ذي قبل وهناك مخاطر جمة ولكن المثل يقول: عدو تعرفه ولا صديق تجهله». وأصبحت المملكة ومصالحها خارج نطاق تجارب واختبارات أصدقائها وحلفائها، واتضح أن هزيمة الأعداء الوهميين أصعب من هزيمة الأعداء الحقيقيين. والتوقعات أن تشهد المنطقة إثر هذه الزيارة تطورات مهمة، و قد تكون الأيام القادمة حبلى بالأحداث المصيرية، والله أعلم.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب