Friday 04/04/2014 Issue 15163 الجمعة 04 جمادى الآخرة 1435 العدد
04-04-2014

شواهد ابن زيدون

في الرسالة الجدية لأبي الوليد أحمد ابن زيدون شواهد شعرية استعارها في رسالته المشهورة التي أرسلها من سجنه الذي دام نحو من 500 يوم على يد أبي الحزم بن جهور، وهذه الشواهد تحفل بالكثير من المعاني الرائعة التي نمت عن وضعه واستعطافه أبي الحزم لعل شيئا من كلماته توافق حالة عطف أو ضعف لدى حاكم قرطبة، ولعل ذلك يخرجه مما هو فيه، لاسيما أنه ابن الأكرمين الذي حدا به طموحه السياسي إلى أن يقع في وحل السياسة، الذي استطاع فيما بعد الخروج منه على يد ولي العهد الذي أصبح حاكما لقرطبة فيما بعد.

أول تلك الشواهد قوله:

كل المصائب قد تمر على الفتى

وتهون غير شماتة الأعداء

يا لهُ من بيت بليغ أصاب به قائله كبد الحقيقة واستعارهُ ابن زيدون في محنته تلك، فإن أصعب ما يكون على المرء الكريم الذي يذبُ عن أصله أن يشمت به الأعداء، فما بالك برجل ساهم في رحيل الدولة الأموية بالأندلس، وساعد في تقليد ابن حزم زمام قرطبة عاصمة الخلافة الأموية الأندلسية، واستخدم مواهبه الأدبية، وحنكته السياسية في تماسكها في بداية نشأة عصر الطوائف الذي أحال الدولة الإسلامية إلى الأندلس في طريق الانهيار المتتابع على مراحل حتى الوصول إلى النهاية المحزنة بخروج المسلمين منها ومن بعدهم طرد من تنصر منهم.

فشماتة الأعداء على مثل ذلك الرجل النبيل أقسى عليه من وقع السهام، وأمرُّ عليه من أنواع السقام، وهو الخبير بأعدائه، العالم بخفايا صدورهم .ومنابع شرورهم وهو الذي وصفهم لنا في قصيدة أخرى:

ما على ظنى بأسُ

يجرح الدهر ويأسو

وكذا الدهر إذا ما

عز ناس ذل ناس

إلى أن قال:

أذؤب هامت بجسمي

فانتهاش وإنتهاس

كلهم يسأل عن حالي

وللذئب اعتساس

وأردف قائلا في رسالته: وهل أنا إلاٌ يد أدماها سوارها، وجبين غص به إكليله، ومشرفي ألصقه بالأرض صاقله، وسمهري عرضه على النار مثقفه، وعبد ذهب به سيده مذهب الذي يقول:

فقسا ليزدجروا ومن يكن حازما

فليقس أحيانا على من يرحم

إن استشهاده بهذا البيت دلالة ذلك التوافق الكبير الذي كان بين أبيه وجده لأمه مع آل جهور، الذين كانوا يملكون نحواً من ثلث قرطبة، كما يزعم القائلون بذلك، والقوة بالزجر دلالة الحزم، ويمكن للمرء أن يمارسها مع أبنائه، أو تلاميذه إن كان معلما، أو إخوانه الصغار إن كانوا في رعايته، أو زملائه في العمل، لكنه مع هذا يرحمهم ويبحث لهم عن الخير أينما كان، لكنهُ في الغالب لا يستطيع أن يقسو على زوجته رغبه في رحمتها، وإنما يرحمها دائما دون قسوة، فيشرع لها الأبواب، حتى وإن جانبت الصواب، فذلك نابع من تناغم الألباب، ولله في خلقة شؤون.

ويعود ابن زيدون، ليذكر ابن حزم بأن أفعاله الجميلة كثيرة حتى وإن أساء في مرات، فقد أحسن في مرات عديدة، فيقول:

فإن يكن الفعل الذي ساء واحد

فأفعاله اللآتي سُرِرْن ألوف

فها هو يلتمس له العذر لعله باعترافه بإحسانه السابق يجعل قلب ابن حزم يرق عليه، لكنه لم يفعل، ويبدو أنه كان مصبباً من رأيه، فقد مرت الأحداث في قصة طويلة، وعاد أبوالوليد و ابن زيدون مع ابن عباد إلى قرطبة واستولوا عليها بعد أن قتلوا حاكمها حفيد ابن حزم، وابن ولي عهده.

وبيت آخر استشهد به بقول:

أللا يكن ذنب فعدلك واسعُ

أو كان لي ذنب ففضلك أوسع

وهو يقول قبل هذا البيت: ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوك، والجهل الذي لم يأت من ورائه حلمك، ولا أخلو من أن أكون بريئآ فأين العدل, أومسيئآ فأين الفضل.

ويستمر في تبيان ما ناله من ألم معنوي وانتصار أعدائه عليه فيقول:

وحسبك من حادث بامرئ

ترى حاسديه له راحمينا

يا له من بيت عظيم، فما أقسى على المرء أن يرحمه حساده، جعلنا الله وإياكم أبعد ما يكون عن هذا الموقف المؤلم حقا، والمملوء ذلاً ورقاً.

وسار في نعت أعدائه، فيقول عنهم:

وهم الهمازون المشاؤون بنميم، والواشون الذي لا يلبثون أن يصدعوا العصا، والغواة الذين لا يتركون أديماً صحيحاً، والسعاة الذين ذكرهم الأحنف ابن قيس، فقال: ما ظنك بقوم الصدق محمود إلا منهم، ثم استشهد ببيت قال فيه:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبةٌ

وليس وراء الله للمرء مذهب

هذا جزء من استشهاد ابن زيدون، وفيه من العبر الشيء الكثير، لاسيما من رجل شأنه كبير، لكنها الدنيا، تسعد وتحزن، وما على المرء إلا الصبر والاحتساب، ورحمته واسعة الأبواب، ولكل أجل كتاب.

فقد مات ابن جهور وابن زيدون قبل الف عام، ومازلنا نتذكر أفعالهم، ونروي قصصهم وأشعارهم، للتسلية تارة، وللعبرة تارة أخرى.

مقالات أخرى للكاتب