Saturday 05/04/2014 Issue 15164 السبت 05 جمادى الآخرة 1435 العدد
05-04-2014

وَدَاعَاً يَا أُمَّنَا... هناء محمد عبد القادر المغربي .. المرأة التي استنبتت الحلم في أرض المستحيل

أكتب مقالي اليوم السبت 8-2-2014م، والأم هناء المغربي قد توفيت يوم الثلاثاء 4-2-2014 م في الشميساني في الأردن الشقيق قبل أربعة أيام حسب ما أعلنته جريدة السرايا وقد سردت الوفيات وكان قدر الأم هناء أن تكون قريبًا من الوسط، وكثير من القراء مرّوا عليها دون تمعن في هذا المسمى وما تحمله حروفه من تاريخ ومشاهد وتضحيات رسمت لجيل بأكمله نورًا ومعرفةً وإصرارًا وحلمًا، ولم يتم رثاؤها ولا إعلان خبر وفاتها -رحمها الله- إلى هذه اللحظة، ووحدها الأرض احتفلت بها على طريقتها، فقد اكتست بصقيع الثلوج حزنًا يليق بهناء البياض والأم الرؤوم، وربما كان القدر منصفًا أكثر من الناس حينما وافق يومها يوم افتتاح وعد الشمال في ذلك اليوم الذي جمع علينا المتناقضين الفرح بوعد خادم الحرمين بحجم الأحلام الكبيرة التي تملأ ذاكرة الشعوب الطموحة، والحزن عليها بحجم المجرات والمعرفة الإنسانيَّة ابتداءً من الأبجدية وانتهاء بثورة التكنولوجيا والتقنية والاتِّصالات...

الأم هناء من أسرة سعودية عريقة من أسر الشمال الحبيب ولم يكن لها أبناءٌ استحقاقًا بأن المجتمع بأكمله أبناؤها، وبخاصة أنها هي التي وضعت اللبنة الشعبية الأولى لتعليم المرأة في المنطقة الشماليَّة بعدما اتخذت الدَّولة آنذاك قرارها وكان يصطدم بالثقافة الشعبية التي ترى تعليم المرأة عيبًا آنذاك، فاستعانت إمارات المناطق آنذاك بشرفاء لتصحيح هذه الثقافة وكانت الأم هناء المغربي من أوائل من تولى زمام المبادرة، وبعد كل هذا العمر المعطاء ماتت بالأمس بصمت وغادرت بعد رحلة استثنائية دون ضجيج، وقد كسرت هذه المرأة الشماليَّة في تلك المرحلة كل القيود المزيفة لتخرج المرأة الشماليَّة إلى عالم المعرفة الأرحب وتكون أساسًا في التنمية البشرية التي تعتمد عليها الأوطان التي تقدّر قصص التضحية لأبطالها وما هناء إلا بطل من أبطال الوطن في وقت الحاجة، فما قصتها إذن وما قصة هذا المشروع المعرفي؟

استقبلت 35 طالبة في السبعينات الهجرية ابتداءً وكان عمرها لا يتجاوز الرابعة عشرة ودرست تلك الكوكبة القرآن والتفسير والحساب والعلوم والمطالعة والإملاء والقواعد، وكانت قاعات التدريس على الأرض، وصنع نجار طاولات من خشب من تبرعات الأهالي، وكانت تجمع الكتب القديمة وتجمع الطالبات يوم الجمعة لترميمها لتكون صالحة للمطالعة، وفرضت عليهن زيًّا موحدًا، ونتيجة لقلة الإمكانات أقفلت المدرسة وتدخل سمو الأمير عبد الله بن عبد العزيز بن مساعد أمير المنطقة -حفظه الله- بشكل مباشر، الذي كان الداعم الحقيقي لتعليم المرأة لتكمل مسيرتها التعليميَّة وبرعاية من القيادة الحكيمة، وتكلَّلت جهوده -حفظه الله- بضم مدرستها إلى الرئاسة العامَّة لتعليم البنات آنذاك، وقدمت كل ما يحقق نجاح ذلك المشروع الإنساني وبدعم من الدَّولة وتنسيق مع الحكومة في الشمال حتَّى تحوَّل بيتها إلى فندق للمتعاقدات اللاتي حضرن للتدريس...

إلى روح هناء الطاهرة في مرقدها الأخير الأشبه في مشروعها الإنساني والاستثنائي بعبارة جان جاك روسو في اعترافاته، إِذْ يقول: «إنني مقدم على مشروع لم يسبقه مثيل، ولن يكون له نظير. إِذْ ينبغي أن أعرض على أقراني إنسانًا في أصدق صور طبيعته.. وهذا الإنسان هو: إنا.. أنا وحدي.. فإني أعرف مشاعر قلبي، كذلك أعرف البشر، ولست أراني قد خلقت على شاكلة غيري ممن رأيت، بل إنني لأجرؤ على أن أعتقد بأنني لم أخلق على غرار أحد ممن في الوجود.. وإذا لم أكن أفضل منهم، فإنني - على الأقل - اختلفت عنهم.

نعم يا أمنا هناء... تختلفين أيتها الخالدة والمرأة التي استنبتت الحلم في أرض المستحيل التي مضت بصمت وهدوء كما يمضي عظماء البشر والذين لا يحتاجون إلى ضجيج يكمل نقصهم ويملأ فراغات حياتهم، وإن كان الفيلسوف الفرنسي ساتر- رغم اختلافنا معه - يقول رغم كل ما كان يعجّ به عصره من أحداث، ما من شيء أهم من موت طفل، لأن جزءًا من المستقبل يذهب معه... فإننا نقول كذلك لا يقل عنه موت امرأة بحجم الأم هناء؛ لأن جزءًا من التاريخ يذهب معها، ولولا التاريخ ما رسم الشرفاء مستقبلهم أيضًا...

نعم يا أمنا هناء... إن كان شاعر فرنسا العظيم فيكتور هوغو قال قصيدة رائعة يقارن فيها ألمانيا مع بلده فرنسا. وأغلب أبياتها في مديح ألمانيا بشعبها وعراقتها وتاريخها.. مديح تراثها الفني والموسيقي والفلسفي والشعري والتقدم العلمي المذهل.. وتنتهي القصيدة بالمديح العالي لألمانيا، ولكنه ختم السطر الأخير بقوله عن وطنه: «أما فرنسا فهي أمي»، كذلك نقول في ذلك الشمال حينما نقارنه بكلِّ جهات الأرض: «فيه كانت هناء أمنا، ومشروعًا معرفيًّا كبيرًا يؤمن أنها القصيدة التي عجزت كل الجهات عن صياغتها واستعصت على البكاء والعزاء»...

يا أمنا هناء... للدنيا أن تملأنا ضجيجًا وليالي لا ينتهي سوادها ولنا أن نكون أحلامًا فيها وصباحات تحتفل بالشموس على طريقتنا العفوية وطقوسنا الفطرية، لها أن تكون مستحيلاً ومربعات ومستطيلات لا نتجاوز حدودها ولنا أن نقفز خطوط الطول ودوائر العرض ولو برجل واحدة كأطفالنا الذين يركضون ويركضون على حدود خريطة الوطن دون إيمان بكلِّ الأشكال المنحرفة والمُعيَّنة والمستطيلة، لها أن تكون بحارًا مالحة ومحيطات من عجائب ولنا أن نكون نورسها المملوء بالبياض، وشواطئها التي تنتظر قبطانها الحالم وهو أنت في غربتك الأخيرة بأن يعود يومًا لمسقط رأسه بعد أن عجز عن الدوران حول هذا العالم على الأقل ليموت في مقابرها التي امتلأت برفاة أصدقاء الأمس، لها أن تكون صحاري ومفازات ولنا أن نكون ربيعها الذي يزورها ويتربع على ذاكرتها المهترئة كل عقد من الزمان، لها أن تعلو المنابر وتتصدر الصفحات الصفراء واللوحات السوداء من الحياة إلى الموت ولنا أن نكون من صاغ أبجديتها ورسم في تلك اللوحات بطابشير بيضاء كنّا نسرقها من مدرستنا الابتدائية أجمل الشموس خلف الجبال والطيور تملأ الأزرق والفراشات المزركشة والحشرات المنقطة بألوان قوس قزح والقطارات والسفن التي لم نرها واستوحيناها من كتب المدرسة التي كنّا نعتقد أنها ضرب من المستحيلات وعجائب الدنيا في صندوقها الذي حمله الأديب المازني على ظهره وحمل معه آماله وهي لوافح...

يا أمنا هناء... أنت تينة صفراء ابتسمت حينما قسمتها أصابع المواجع ونهشتها أنياب الغربة، وأنت النور الذي أنار دروب العتمة ودهاليز الحياة، وأعلن حروبه على الجهل والظلام والفيروسات التي فتكت بنا وما تراكم علينا من غمّ وحزن وغربة حتَّى أصبحنا مرغمين على إعادة تأهيلنا كمجموعات...

أنت زهرة الجاردينيا البيضاء التي رأتها عيون المهاجرين إلى حدود الحياة، ونصف الكأس المملوء بالحرية والمعرفة في حياة غير المتشائمين، الذين رأوا كيف تستقر طوابير النحل على بتلاتها وصبرت على لسع شوكتها من أجل أن تمنح الإنسان العسل ليشفى، ورأوا كيف تسرق صغار العصافير لتسجن في قفص يستمتع به ذلك الإنسان ليسعد، ويرون كيف تولد الأزهار في غير تربتها وتربط مع أخواتها بشريط في إناء من أجل هدية لإنسان ليرضى ويفرح، ويرون كيف يختطف حمل صغير من تحت أمه ليسلخ جلده ويصنع منه الفراء الثمين من أجل الإنسان ليدفأ، ويرون كيف تزهو السنابل في حقولها ليأتي من يحصدها بفوضوية ليخبز منها رغيف لإنسان ولا يمسه، وهكذا أنت عطاء كان لنا نحن الإنسان بلا حدود...وسأعتذر لك للحديث عنك بضمير الغائب وليس الحضور، وكل ضمير حي يدرك أن موت الأم هناء بعيدًا عن عرعر ولم يسعفها اللَّيل في الشميساني كي تتجاوز جمر الغربة في زمن هربت فيه أمانيها الصامتة، ولم تكن مُجرَّد اسم ومسمى ينشر في صفحة وفيات أردنية لتثبت هناء أنها غريبة حية وميتة أيْضًا ولكن الذي حضر في ذاكرتي على الرغم من حجم غياب الوطن والأهل والأصدقاء والتلاميذ أنها الوشم العتيق على اليد الشماليَّة الذي لن يطمس آثاره الخضراء كل محاولات التهميش والعزاء الذي لا يليق بإنسان يعد في نظري أصدق تجربة إنسانيَّة تؤكِّد حقيقة المثل الفرنسي: «ما يستحقُّ أن يولد من يعيش لنفسه»، وأجمل محاولة لتعليم الأطفال الخطوة الأولى على أهازيج الجدات الحزينة التي ربَّما تقودهم تلك الخطى فيما بعد إلى قدرهم المؤلم وحتفهم المنتظر هناك، ويكفي هناء أنها غنت لنا حتَّى مشينا إلى نور المعرفة والوعد الجميل حتَّى وإن كانت النهاية لا تختلف، ويكفي هناء أن دفنت شبابها لنحيا وضحت لنفوز وصبرت لننال، ويكفي هناء أنها حملت شمعتها لتجوب اللَّيل الحالك وعتمات السحر بحثًا عن الصباح والحقيقة والمعرفة بينما حمل ديوجنيس الحكيم اليوناني شمعته في النهار ليكشف الحقيقة، وثمة فرق بين من يبحث عن منافذ النور ودهاليز العهد القديم، ويكفي هناء أنها أوقدت شموع عمرها ولم تكتف بلعن الظلام في مرحلة معقدة بكلِّ تفاصيلها، ونزفت ثقة بعروقها التي استعصت على التدجين والجهل والتخلف فكانت أجمل ما نطقت به تأتأة طفل تناسى النهايات والحروب والوجع وإرهاصات الموت واكتفى عن كل ذلك بحضن أمه الدافئ ولذلك كان الفقد بحجم هذه القامة ولغياب بحجم السماوات، وحق لهناء أن تكون امرأة بأمة لتصحح حتَّى في موتها احتكار الرجولة لمقولة كان رجلاً بأمة...

كنت أتمنَّى أن تدفن في عرعر الشمال، وأن تفتح كل الصدور لقبول العزاء في هذه المرأة ذات الإرادة الحديدية، وأن تزفها في رحلتها الأخيرة كل النساء بكفنها الأبيض لتكون طقوس دفنها عرسًا ومشهدًا يعلن من جديد فيه تسديد جزء من حق أولئك العظماء الذين علمونا دروس الكفاح الأولى وأبجدية الثورات على الجهل والتخلف والظلام، أولئك العظماء الذين لا نستطيع أن نختزل موتهم بمقال وهم كانوا يختصرون مرحلة من تاريخنا الوطني ويسدّدون فواتيرها منهم شخصيًّا، والمؤلم أن واحدًا منهم كهناء أصر أن يختلي بنفسه في نهاية العمر وينسحب من المشاهد كلّّها ويموت في غير أرضه التي سقاها من دمعه ذات يوم، والأكثر ألمًا أن يموت بصمت في يوم احتفالهم بمشروع وعد الشمال العملاق ذلك الحلم الذي كان أحد أدواته... إنها هناء محمد عبدالقادر المغربي كما عرفها الشماليون، وإلى جنات النعيم، والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com

عميد الموهبة والإبداع والتميز البحثي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

مقالات أخرى للكاتب