Tuesday 17/06/2014 Issue 15237 الثلاثاء 19 شعبان 1435 العدد
17-06-2014

الطائفية: عرض أم مرض؟

تعاني منطقتنا من تخندق طائفي خانق، ونزاعات طائفية قد تأتي على الأخضر واليابس فيما لم يتم تداركها والقضاء عليها: فالمنطقة تعج بالجيوش والميلشيات ذات الصبغة الطائفية البحتة، بعضها بات يتحكم بدول بأكبرها يهدد أمنها ويعطل تنميتها.

ولا تقتصر الطائفية على أي دين أو مذهب فهي ظاهرة تاريخية تبرز كلما توافرت الظروف المناسبة لها. وهناك سمات مشتركة للبعد الطائفي تتجلى في مظاهر معينة تجتمع حولها الطائفة عبر التاريخ. وتاريخ الأمم جميعها مليء بالأمثلة على النزاعات الطائفية، فهناك صراعات مسيحية طائفية في عموم الدول المسيحية، وقد تجلى ذلك في صراع كاثوليكي بروتستانتي في إسبانيا، وفرنسا، وأيرلندا، بل وفي أمريكا ذاتها. وكان الإسبان يرون أن البروتستانت يهود متخفون، وبعض المسيحيين مسلمون متخفون، ونشطت محاكم التفتيش المذهبي في إسبانيا لأكثر من نصف قرن. وقد دمر فرانكو مناطق بروتستانتية في إسبانيا بالأسلوب ذاته التي يتبعه الأسد اليوم في سوريا. وقد دمر العنف الطائفي مناطق كثير في الهند، ولعب الإنجليز بالتوازن الطائفي هناك واستطاعوا من خلال التقسيمات الطائفية استدامة حكم هذا البلد العملاق. وما نراه اليوم من صراع طائفي عربي/عربي تغذيه جهات خارجية للسيطرة على خيرات المنطقة العربية، جهات تتفق مصالحها حول ضرورة تقسيم الأمة العربية بتعميق الخلافات الطائفية فيها. ولم نعد اليوم نسمع عن طوائف شيعية وسنية فقط، بل أصبحنا نلحظ صعودا مستمرا لطوائف أخرى داخل الطوائف كداعش، وجماعة النصرة، وفيلق القدس، والحوثيين وغيرهم.

وتستند الطائفية على ما يسمى بالتخندق العقدي الذي يبدأ بعزل الطائفة عن محيطها بشكل تدريجي أيديولوجي يبدأ بتكوين تصورات خاصة للعالم مقصورة على الطائفة، ترى أن العالم مهدد بالضياع والفساد وأن الطائفة هي الفرقة الناجية المنقذة لهذا العالم وهي الوحيدة التي ستتصدى لإنقاذ العالم من الانحلال الأخلاقي، والتشويه الديني.

ويعد الدين المرتع الخصب لأي تخندق طائفي لوجود إمكانية كبيرة للاختلاف حول بعض النصوص الدينية، أو حول تفسيراتها، فالصراع الكاثوليكي البروتستانتي يدور حول الموقف من اليهود، وهل هم من قتل المسيح أم لا؟ ويدور الصراع السني الشيعي حول روايات تاريخية لصراع حول الخلافة يتم تضخيمه ونسج الروايات التاريخية حوله كلما دعت هناك حاجة لذلك.

وتوجه كل طائفة اتهاماتها لفئة أخرى معينة تصورها على أنها تهديد خطر محدق لوجود طائفتها، الفئة الصالحة أو الفرقة الناجية وأن هذا الخطر ألم يتم التصدي له سينتهي بتدمير الفئة الصالحة وسلبها حقوقها، فيتم تحوير أساطير تاريخية أو نصوص عقدية وتوجيهها وجهات سياسية مختلفة يكون هدفها الأسمى إصلاح المسار التاريخي والنجاة بالأمة، ثم تبدأ مرحلة عزل الطائفة نفسها عن محيطها بأمور مظهرية كالزي الموحد، والراية الخاصة، والتنظيم المحكم.

وتحتاج الطائفة لدعم كبير تحصل عليه عادة من أطراف سياسية تستغل وجود هذه الطائفة وتستفيد من دعمها، وعندما تكون الطائفة أقلية نافذة تستفيد القوى الخارجية من دعم نفوذها واستغلاله بضمان ولائها، فبريطانيا تدعم أقلية بروتستانتية في أيرلندا الشمالية بالمال والنفوذ. ودعم الفرنسيون العلويين في سوريا، كما دعمت أمريكا التطرف السني في حربها ضد الاتحاد السوفيتي.

فالطائفية حقيقة واقعة في كل المجتمعات والديانات، وهي كالتكوينات البركانية الموجودة في مختلف التضاريس الأرضية، ولكنها تختلف عنها في أن البراكين الطائفية تبقى خامدة حتى يتم تحريكها وتثويرها حسب الحاجات والظروف السياسية، فالطائفية أساسا تجنيد للانقسام وإذكاء للصراع في الأمة الواحدة. وإذكاء الطائفية يتطلب خلق استعداد لدى شعوب دول واحدة للاقتتال فيما بينهم حول خلافاتهم العرقية أو الدينية بدلاً من السعي لحلها بالتعايش السلمي والتفاهم والتفهم المشترك.

وإذكاء الطائفية يكون أسهل في ظل توافر عوامل اقتصادية واجتماعية معينة من أهمها الفشل التنموي، والركود الاقتصادي، وتدني التعليم.

وقد يعقب النزاع الطائفي النزاعات العسكرية الكبرى التي توفر هذه العوامل بتعطيل التنمية وتدمير الاقتصاد ونشر الجهل فيسهل تجنيد واستقطاب الأجيال المحطمة والمهمشة التي حرمت من التعليم خلال هذه الحروب، أو فيما يتبع فشل الخطط التنموية الكبرى من انتشار للبطالة والفساد، فالطائفية انتشرت في لبنان بعيد الحرب وبعد فقدان الكثير من الحركات السياسية السابقة بريقها، وحزب الله مثلاً ظهر بعد انهيار الأحزاب اليسارية والقومية في لبنان وهو حزب استند إلى خلق ولاء لقومية جديدة «قومية دينية» تروج لها قوة خارجية على أنقاض القومية العربية، فالطائفية تعيد أحيانا صياغة الهوية السياسية بتغيير ولاءاتها بدلاً من إيجاد هوية جديدة.

فحزب الله وغيره من الميليشات الشيعية تدين بالولاء لقومية متخيلة تمتد للحسين ونصرة أهل البيت، «قومية الولاء للحسين»، تتزعمهما دولة لا صلة حقيقية لها بأهل البيت وهي إيران. وإيران ذاتها، إيران ما بعد الشاة، لم تكن تستطيع الاستمرار بدون أيديولوجية انعزالية طائفية، فإيران تحتاج دائما إلى تهديد خارجي لضبط أوضاعها الداخلية، وقد قدمت لها حربها مع العراق سببا رئيسا للاستمرار كحكم ديني طائفي يستند لانتخابات صورية لأحزاب الطائفة التي تختلف في الأسلوب فقط وليس في الطروحات الأساسية. والغريب أن هناك أحزابا سياسية مسيحية في لبنان متحالفة مع حزب الله تحت شعار هو أشبه بالشعار الطائفي وهو شعار «المقاومة» أي نحن المقاومون والآخرون المعتدون. وعند إجالة النظر في هذه الفئة من المسيحيين نجد أنهم في غالبيتهم من سكان القرى والمزارعين من محدودي التعليم والمهمشين.

والسؤال الأساس هنا يدور دائما عن الأسباب التي جعلت الطائفية، والعرقية والمناطقية تنتشر في عالمنا العربي؟ كيف استبدل الولاء للأرض والأمة لولاءات هامشية بعضها متخيل وبعضها الآخر يستند لأساطير تاريخية موغلة في القدم يتم إذكاؤها اليوم لإيجاد هويات بديلة؟ هل هي حركات حقيقية تفرضها الحقائق التاريخية أم أنها أعراض لأمور أخرى؟ والأرجح هو أن الاستقطاب الطائفي عرض وليس مرضا، هو عرض من أعراض أمراض فشل التنمية، وانعدام العدل، وتفشي التسلط في الأقطار العربية التي انتشرت فيها الطائفية. ويمكن إرجاع ذلك لسقوط البرنامج النهضوي العربي إثر هزيمة إسرائيل للدول العربية في عام 1967م، فبعد هذه الهزيمة تم تهجير الملايين من العرب إما لدول مجاورة كما حصل مع الفلسطينيين، أو لعمق دول كبرى كسوريا ومصر، ثم تلا هذا الانكسار تباطؤ اقتصادي، تبعه انفتاح غير محسوب غير من المعادلات الاجتماعية والاقتصادية فنشر الفساد والمحسوبية، فالفلسطينيون خاضوا حربا في الأردن في عام 1970، ثم في لبنان بعد خمس سنوات، وانقلبت الأقلية العسكرية في سوريا على الحكم، وبدأ توظيف الدين في السياسة في مصر في السبعينيات وخارجها في الحرب ضد السوفييت في الثمانينات. وإذا أضفنا لذلك زيادة أعداد السكان وبالأخص الشباب، وفشل المشروعات الاقتصادية التنموية في احتوائهم لأمكن فهم تطور المشهد الطائفي في العالم العربي، فالطائفية هي أكثر أعراض الفشل التنموي بروزاً، لاسيما وأن البعض منها له ولاء لخارج حدود الدول لكيانات خارجية بعيدة قوميا وأيديولوجيا عن تاريخ الأمة العربية، أما علاج هذه الأعراض فيكون بالقضاء على مظاهر الفساد، وانعدام العدل، والبدء في مشروعات نهضوية حقيقية تفتح آفاق الأمل في مستقبل المنطقة خاصة وأكثر من نصف سكانها من الشباب، ونسبة البطالة فيها هي الأعلى عالميا.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب