03-09-2014

سكان المدن.. بين رخاء التحضر ورخاوة الصحة 1-2

العيش في المدن يكاد يكون أمنية من أماني الحياة للأغلبية من سكان الكرة الأرضية، بل هو في النهاية مصير هذه الأغلبية، كما تدل على ذلك إحصائيات منظمة الصحة العالمية. ففي أول القرن العشرين كانت نسبة

سكان المدن في العالم (20%)، وفى عام 1990 ما يقارب (40%)، وفى وقتنا الحاضر أكثر قليلاً من (50%)، وفى عام 2030 يتوقع أن تبلغ النسبة (60%) وفى عام 2050 (70%). المملكة في تطورها الحضري لا تختلف عن بقية بلدان العالم - إن لم تكن أسرع. فقد ذكر الدكتور محمد الربدي في كتابه (سكان المملكة العربية السعودية) الصادر عام1426هـ أن:

(ما تحقق في المملكة خلال الخمسين سنة الماضية من معدلات التحضر يعادل ما تحقق في بعض البلدان الأوربية خلال مائتي سنة). في عام 1394هـ كانت نسبة سكان المدن التي تبلغ خمسة آلاف فأكثر (47.5%)، وفى عام 1413هـ (74%). أما في عام1431هـ - حيث بلغ عدد السكان (27.137.000) نسمة - فقد بلغت النسبة (82%)، والبقية تعيش في الأرياف (النسب مستخرجة من نتائج تعدادات السكان). على أن طبيعة المعيشة في المدن ليست واحده، بل لا بدّ من اعتبار عوامل الاختلاف الكبير بين المدن من حيث الموقع وعدد السكان والأهمية الاقتصادية والإدارية. وحيث أن العامل السكاني هو موضوع هذا المقال، فإنه يمكن تقسيم مدن المملكة - حسب نتائج تعداد 1431هـ - إلى ثلاث مجموعات :

-- الأولى من -5.000 إلى -100.000نسمة، وعددها 218 مدينه مجموع سكانها: 4.130.000 نسمة، أي (15%) من السكان.

-- الثانية من -100.000 إلى-500.000 نسمة وعددها 18 مدينه، مجموع سكانها:

4.263.540 نسمة، أي (16%) من السكان.

-- الثالثة من -500.000 - فما فوق، وعددها ثماني مدن مجموع سكانها: 13.910.500نسمة - (51%) من السكان.

ما يتبقى هم سكان المدن الصغيرة الأقل من خمسة آلاف نسمة والقرى والهجر، وعددهم 4.833.000 نسمة (18% من السكان).

ويتبيّن من ذلك أن حوالي ثلثي سكان المملكة يعيشون في مدن كبيرة (أي سكانها أكثر من مائة ألف نسمة)، يتمتعون فيها بخدمات متكاملة صحية وتعليمية وبلديه، ويوجد بها شبكات الماء والكهرباء والهاتف، وسلسلة من المتاجر والمجمعات التجارية الكبرى، ومن الفنادق والمطاعم والمقاهي، ومن المدن الترفيهية والنوادي والمتنزهات، مع الوفرة والتنوع في أصناف الأغذية وما يعرض للاستهلاك والرفاهية، وتتوافر بها فرص العمل، وفى كلٍّ منها جامعة واحدة أو أكثر أو فرع من جامعة، ومستشفى واحد أو أكثر بسعة 300 سريرا على الأقل.

باختصار تتوافر في هذه المدن وسائل العيش والرفاهية والحركة الدائبة التي تجذب معظم الناس لسكنى المدن، وتهيّئ للمستطيع عيشة رخيّة راضية. هذا النعيم الذي يظن سكان المدن الكبيرة أنهم يرفلون فيه تعكر صفوه ظواهر اجتماعية واقتصادية وأمنية وصحية، تفرزها طبيعة الحياة في المدن الكبيرة - كما في أيّ مكان في العالم ؛ لكنها تتفاقم إذا كان تضخم المدن عشوائياً بلا ضوابط تنظّمه وتخطيط يحدد مساره. ومنذ عشر سنوات قوِيَ الاتجاه في مملكتنا العامرة إلى إيجاد مراصد حضرية في مدن المملكة بالتعاون مع المعهد العربي لإنماء المدن؛ إذ أنشئ أول مرصد بالمدينة المنورة عام 1425هـ، ثم أنشئت مراصد حضرية مماثلة في أغلب مناطق المملكة. مهمة هذه المراصد متابعة وقياس مؤشرات الواقع الحضري للمدينة المعنية، ووضع المعلومات المستخرجة من هذا الرصد أمام متخذي القرار لمعالجة المشكلات القائمة ومنع ظهور مشكلات مستجدة وتنظيم مسار التنمية الحضرية. وتُمثّل مشكلات الواقع الصحي نموذجاً لذلك. وليس بالإمكان تفصيل المخاطر الصحية التي قد يتعرض لها كل ساكن بمدينة، إنما تكفي الإشارة إلى أعمِّها وأهمّها:

أولا-: التلوث البيئي: هو من أهم المخاطر الصحية، وترجع أهميته إلى عاملين: الأول هو أن التلوث يصيب مجموعة كبيرة من السكان في آن واحد بسبب الكثافة السكانية العالية، والثاني تنوع التلوث وتعدد مصادره. من ذلك مثلاً:

-- تلوث ناتج عن تسربات شبكات الصرف الصحي أو طفح المجارى، ويكمن الخطر الصحي في انتقال أمراض فيروسية أو طفيليه بواسطة الحشرات أو مياه الشرب.

-- تلوث الهواء الذي يحدث من انبعاث غازات المصانع والورش الموجودة في المدينة أو حواليها، أو من عوادم الآلاف من السيارات التي تكتظ بها شوارع مدننا في معظم أوقات النهار والليل، ويكون سبباً في إثارة أغشية الجهاز التنفسي والربو والصداع، واحتمال الإصابة بأمراض أشدّ على المدى الطويل.

-- تلوث الأطعمة أو فسادها قد يحدث في المدن الصغيرة والكبيرة والقرى - كما هو معروف - بسبب رداءة النظافة، أو التخزين، أو الإعداد أو مواد كيميائية تدخل في عملية التصنيع والتغليف، أو أسباب أخرى. لكن الآثار الناجمة عن التلوث كالتسممات الغذائية تُمثّل مشكلة صحية في المدن ذات الكثافة السكانية لأنها تصيب أعداداً كبيرة، بسبب كثرة محلات الأغذية والمطاعم ذات المستوى المتواضع وكثرة المستهلكين ومن ثمّ تكرار حوادث التسمم. وأظهر مثال على ذلك حوادث التسمم بميكروب (السالمونيللا)، التي تكثر في المدن ذات الكثافة السكانية، والتي بلغ معدل المبلّغ عنها سنوياً على مدى أربع سنوات (1430-31-32-33)-حسب إحصاءات وزارة الصحة - خمس حالات لكل مائة ألف نسمة.

....يتبع

مقالات أخرى للكاتب