24-09-2014

في الربيع ضيعت اللبن

لئلا نكفر بنعمة العقل ولا بنعمة القدرة الإنسانية بإرادة الله على التسبب في إحياء الأرض بعد موتها علينا أن نقاوم العمليات المنظمة لفقدان ذاكرة الربيع العربي ولمحاولات تحويلها إلى ملامات مؤلمة على المآلات السياسية المائلة التي أنهيناه بها بما أصبح اليوم يهدد وجودنا الحضاري والبشري معاً.

ولئلا ننسى ولئلا نفقد قدرة التفكر وواجب طرح الأسئلة يجدر بنا أن نتذكر ونتذاكر لنحافظ على الحد الأدنى من لياقة الأمل ومن ضرورات مقاومة التردي. وبغض النظر عمن يرضى أو يسخط، يكابر أو ينكر من متضرري الحرية والعدل والكرامة والجمال علينا أن نعترف:

لقد شكل الربيع العربي اللحظة التاريخية المنتظرة التي ردت الاعتبار لأحلامنا المتشظية بما كان قبله قد تحول إلى زجاج جارح يتنشب في حبالنا الشوكية منذ أن كانت أجيال الخمسينات والستينات والسبعينات في ريعان العمر وشرخ الشباب تهتف للحرية وتموت دونها.

لقد جددت تلك اللحظة بزخمها الجماهيري الواسع وبسلميتها الرومانسية حس الانتماء الوطني لدى أجيال من الشباب العربي الذين ظنوا قبلها أنهم ولدوا في أوطان مطبقة ليس لهم فيها من حق سوى التقلب على موائد الاغتراب والإقصاء باسم الولاء تارة وباسم البراء أخرى, فيما حقهم الوحيد هو الاستسلام طوعاً أو كرهاً لتلك السقوف أو السيوف التي تحك الرؤوس قبل أن تينع خشية وتحسباً من الخروج على سلطاتها المطلقة.

لقد أخرجت تلك الومضة التاريخية المختطفة العالم العربي بأسره من عار الجبن الجماعي وأنانية الخلاص الفردي بانتهازيتها ودسائسها إلى عزة الانتفاضة في وجه الذل. هذا ما قاله وقتها الشعب العربي رمزياً في عدد من العواصم العربية بلسان القوى الناعمة من الشباب والنساء والمستضعفين في الأرض عبر المدونات الإلكترونية وعبر مواقع التواصل الاجتماعي على الفيسبوك وتويتر وعبر عقود الياسمين مطلع الربيع العربي. وهذا ماقاله الشعب العربي تطبيقياً في عدد من العواصم العربية من ميدان التحرير بمصر إلى ساحة الحرية بصنعاء.

ولهذا يجب ألا يضنينا البحث ولا يحرجنا السؤال وإن جرحنا من ثورة تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا في ضوء ما يحدث اليوم من تراجعات مريعة تهدد الفكر الحر والعدل الاجتماعي والرشد السياسي وتضع الحالة الوجودية للمجتمع العربي ككل وليس نظامه السياسي فقط موضع التفتت الفنائي. أين نشوة الشباب والشعوب بالربيع العربي من حالة غيبوبة السكْر والسكّر التي أخذ يدخلها النظام العربي دولة تلو دولة ويراد أن تدخلها معه وتدفع إليها حثيثاً القوى الوطنية الفتية فيه فوجاً بعد فوج في محاولة غير جادة لتفادي تلك السكرة بما لن يؤدي بالطريقة المتبعة إلا إلى المزيد من الولوغ فيها.

فاليوم يلام علماء الدين، والشعب يلوم الشباب, والشباب يلوم تلجلج المثقفين, والمثقفون لا يدرون من يلومون؟ الأنظمة المتخلخلة؟ المصالح الضيقة؟ الرؤى الأحادية؟ القوى الخارجية؟ أو يكتفون بالتغني بغياب الحرية وباتساع الرؤية مع ضيق العبارة.

يقلقني لا..لا..لا.. هذه كلمة باردة في حق الحرور الذي تنحدر إلى جحيمه بعض أوطاننا وتهوي معها إلى قاعه الحارق أرواحنا.

الكلمة الأقرب وليست الأدق أن أقول يخلع طمأنينتي الشخصية كما يخلع أمن الأوطان وسلام الشعوب النفسي والسياسي في الأرض والعرض، في النفس والنفيس ما يجري بعالمنا العربي أمامنا من تحولات مرعبة لا يكمن رعبها في جنونها ووحشيتها فقط بل في إننا ننجرف فيها ونتهاوى وكأننا لا نملك من أمرنا شيئاً غير أن نتحول إلى رماد في حرائقها الماحقة.

من منا اليوم على امتداد الوطن العربي بجميع دوله، حكاماً ومحكومين، مستقويين في الأرض ومستضعفين، أو ممن يحاولون التماسك حياء وليس رباطة جأش، لا يخشى على أطفاله؟ على والديه؟ على سقفه؟ على شارعه؟ على حياته من انتقال مشاهد الشاشات المريعة في سوريا والعراق وليبيا واليمن وفي ميدان رابعة وعلى أرض غزة إليه؟! لا شك عندي، بأن أياً منا لا يعيش يومياً توجس القتلة على غير قبلة، بل إنني أراهن أننا لا نعيش هذا التوجس كهواجس ذهنية تطرح الأسئلة على ما يحدث ودورنا في تأجيجه أو دفعه بل نعيشه كحالة تصفوية شديدة الاحتمال قد تطال الجميع في أي لحظة. وهذا في رأيي أقسى حالات الاستسلام والعجز عن مواجهة التحولات والإحساس الفادح بانفلات زمام مصائرنا من أيدينا.

ومع ذلك ولذلك أيضا يغرق بريدنا الإلكتروني والوتساب وقنوات تواصلنا الاجتماعي الأخرى بتلك الآراء التي لا تستطيع من شدة هلعها البحث عن بارقة ضوء في آخر السرداب أو التفكر فيما يمكن أن يكون بأيدينا بقدر ما تقوم به من دحرجة لكرة النار ومحاولة تقاذفها أو تقاذف اتهامات إشعالها بين الأطراف المعنية أو غير المعنية دون أمل أو بالأحرى دون عمل إلا لوم أمريكا على خروجها من العراق ولوم تردد أوباما لعدم تدخله عسكرياً في سوريا أو في اللجوء إلى سيناريوهات أسوأ كالتزام الصمت الانتهازي للصف في آخر لحظة مع كفة الميزان الراجح أو الشعبة الناجية ولو كانت الشيطان. قرأت من يلوم التراث الفقهي والسياسي على ظهور (داعش) دولة العراق وبلاد الشام ومشتقاتها السابقة من القاعدة وطالبان إلى مشتقاتها اللاحقة من (دامس) دولة مصر والسودان إلى (خانس) دولة الخليج وعربستان. وقرأت من يلوم الصهيونية والموساد ومن يلوم الشيعة وإيران. قرأت من يلوم المناهج الدراسية المحلية ومن يلوم تربية الأمهات الأبوية الذكورية ومن يلوم التغريب وبرامج الابتعاث. ولا من يلوم الأحادية السياسية ولا «التوحد الفكري والوجداني» الذي يعيشه المواطن العربي في علاقته بالثقافة والوطن وبالسياسة والاجتماع. ولا من يلوم إدارة الأوطان والصراعات بالسياسات الاستخبارية الغامضة وبالحروب الطائفية والعرقية والأهلية البواح. والأفدح أن ليس هناك من يتساءل خارج محاولة ترميم الرمم أو التنكيل بالضحايات.

الحريق يحيط بمنطقتنا من كل مكان ولم نستطع بعد لا علماء دين ولا فقهاء ولامسؤولين ولا مثقفين التفكير خارج صناديقنا السوداء التي نظن أننا نتخندق خلفها لندع الشعوب وحدها تنعم بالرعب, فيما تتغير الخرائط والأقدار بدماء المدنيين وبأيدينا وأيدي سوانا على حد سواء. ولا نقول في الختام الذي ليس ختاماً إلا اللهم ألهمنا رشدنا لئلا يكون الأعداء داخلنا وخارجنا وأوطاننا أمامنا وخلفنا بينما لا نعرف أي وجهة نحن. فنكون كالتي نقضت غزلها أو التي في «الربيع» ضيعت اللبن.

Fowziyaat@hotmail.com

Twitter: F@abukhalid

مقالات أخرى للكاتب