09-10-2014

الإعلامُ الفردي..

ربما كان الوصفُ الأقربُ لوسائط التواصلِ الاجتماعية الإعلامَ الفرديَّ؛ فالجديدُ صار قديمًا، والبديلُ تخلفه بدائل، والفردانيةُ سمتُه؛ فكلٌّ ينشئُ موقعَه ليكتبَ ويصورَ ويسألَ ويجيبَ كيف شاء متى شاء ولمن شاء، وبينما كان ظهور الاسمِ والعمل في الوسائط التقليدية المقروءة والمرئية والمسموعة مرتبطَين بإجراءاتٍ مطولةٍ من التراسلِ وربما التوسل فقد بات الأمرُ نابعًا من الشخص صابًا عنده؛ به يبتدئُ وإليه ينتهي وهو من يقررُ متى يصدرُ وماذا ينشر، ولا تعنيه تراتبيةٌ إداريةٌ أو رقابية ولا متطلباتٌ مالية أو تشريعية.

** صار لكلٍ جريدتُه ومعرِضُه ومحطتُه الإذاعيةُ والتلفزيونيةُ سواءٌ أتمَّ ذلك بطريقةٍ مهنيةٍ كما في بعض»المدونات» و»المواقع الشخصية» وبرامج «اليوتيوب» الاحترافية أم عبر الاجتهاد والارتجال والثرثرة وملءِ الفراغ.

** قبل عقود تقصر عن الثمانية كان الوسطُ المجتمعيُّ يتسقط الأخبار عن طريق جهاز «راديو» لا يتوفر في المدينة الصغيرة منه اثنان، وهذا يعني محدودية الجمهور المستقبل ممن تربطهم علاقةٌ بالوجيه ذي المذياع وما ينقلونه في مجالسهم كما حصل في تسقط أحداث الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، ويسميها الإعلاميون مرحلة» الصفوة»، وتزايد الجمهور بتزايد مقتني أجهزة الراديو ثم التلفزيون خلال العدوان الثلاثي وحرب اليمن ونكبة 1967م « أواسط ونهاية الخمسينيات وفي الستينيات الميلادية»، ثم تضاعفت مع انتشار التلفزيون وتنامي الصحف وتكاثر الإذاعات وتسمى مرحلة « الحشد» امتدت حتى زاحمتها مرحلةُ « التخصص» التي أفرزت المنتديات والمدونات والمواقع مخليةً جزءًا من مكانها لمرحلة «التفاعل» التي نعيشها اليوم وتوشك أن تمحوَ المراحل الثلاث.

** بين الحرية والفوضى تصطبغُ المرحلةُ التفاعلية مثلما هي مرتهنةٌ للمراوحة بين العزلة والتواصل، والخشية أن تكون أميلَ إلى الفوضى وأكثر تحفيزًا على الانعزال، وكما تصدَّر البليغُ والسويُّ أمس جاءت وسائطُ أنطقت العَييَّ والمأزومَ وغابت المعاييرُ ففُتحت المعابر لمن عَرف ومن هرف ومن قدِر ومن عثَر ومن تُسيره مصلحةٌ عامة ومن تحركه أهواءٌ خاصة.

** العزلةُ والفوضى عاملان مؤثِّران في كثيرٍ من التردي المعرفيِّ والأخلاقيِّ الذي يعيشُه مدمنو الوسائط التواصلية سواءٌ أكانوا مرسلين أم مستقبلين، وهنا تتلقفهم أفكار العبثيةِ والفراغ والضياع، وقد يألفُ تنظيماتٍ تقودُه إلى حيث لم يشأْ حيث شبكات الأدلجة والبرمجة.

** ليست في أولوياتنا «البحثيةِ» مفارقاتُ التعاكس بين الوسيلةِ المحدودة والاستقبال الجمعي قبلاً وبين الوسائل المتعددة والتلقي الفردي الآن، وفيها إشاراتٌ إلى تراجعِ التنظيم القادر على إدارةِ العقول ومعرفة اتجاهاتها وهو ما نشاهده في تردد القراراتِ وظنيةِ الدراساتِ وفُجائية التغيّرات واستلابِ المواطنة وعولمةِ الأخلاق وانحسار خصوصيتها مهما عزفَ حراسُ القديم على ما يتوهمونه ثابتًا غيرَ قابلٍ للمساس.

** تغير الإعلامُ الذي عشناه وتغير معه ما درسناه وما يزال فينا من يدورون ولا يدرون فيُهدرون أمنَ الذات وفروسيةَ السمات.

** الإعلامُ يصنع ويصطنع.

ibrturkia@gmail.com

t :@abohtoon

مقالات أخرى للكاتب