09-10-2014

الماركسية في عقلية وثقافة العرب بشاهد الاقتصاد الريعي

لا أنكر أنني وللأسف قليل القراءة والمخالطة خارج - ما أنا مُكلف به -، حتى وصلت قراءاتي ومخالطتي للناس إلى شبه العدم في السنوات الأخيرة. ولا أنكر بأنني لم أسمع بمصطلح الاقتصاد الريعي إلاّ منذ فترة، لكثرة انتشار استخدام هذا المصطلح بين كثير من أطياف المجتمع. فكل عربي يصف اقتصاد بلاده واقتصادات بلاد العرب بأنها قائمة على اقتصاديات ريعية. فالتونسي والمغربي يصفان بها بلادهما كما هما يصفان دول الخليج كذلك. والخليجي يصف اقتصاد بلاده والخليج بهذا كذلك. وإن كنت قد كتبت قبل عامين في مقال لي، إشارة للتنبيه بعدم صحة المفهوم المتعارف عليه لكي لا يختلط على القارئ فهم مقالي ذاك. ولا أنكر أنني لم أكلف نفسي حينها بأن أبحث عن أصله الأكاديمي العلمي. فقد اقتنعت من حينها بعدم منطقية المفهوم المنتشر لظهور تناقضه. فمن المعنى اللغوي لهذا المصطلح، ومن عدم وجود قاعدة منضبطة تجمع بين اقتصاديات العالم العربي الموصوفة بالاقتصاد الريعي، مع كون الخليج قائماً على الاقتصاد البترولي، وهو اقتصاد له دراساته الخاصة به لكونه اقتصاداً قائماً على استهلاك أصله، - وينطبق هذا حتى على دخول الدول الاستعمارية من مستعمراتها قديماً -، بينما تونس والمغرب مثلاً اقتصاديات قائمة على الزراعة والسياحة، فدخلهما يتجدد مع ثبات الأصل على حاله دون نمو وزيادة، كحال معظم الاقتصادات قبل الثورة الصناعية، ولهذا - وبمعزل عن المؤثرات السياسية - فهي دول فقيرة نسبية بالمقارنة مع الدول الصناعية الذي ينمو إنتاجها ويتطور. فهذا كافٍ للتوصل لمعنى الاقتصاد الريعي، متوقعاً أنه سيكون موافقاً لمعناه الأكاديمي العلمي. فأرحت نفسي من البحث خاصة أنني أدرك بخلفيتي الاقتصادية البسيطة أنه لا بد أن يتبع هذا الفرق الشاسع بين الاقتصاد الريعي حسب فهمي والاقتصاد البترولي، فرق شاسع في تخطيط الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية بين الدول الريعية والدول البترولية. فالاقتصاد الريعي يبقى حياً لكنه على هامش الحياة. فهو لا يستطيع النهوض السريع لقلة الثروة وعدم نموها، إلا أنه لا يموت لعدم انقطاعها. بينما الاقتصاد البترولي يفتح أبواب ثروات على المجتمع قد تتزايد ابتداءً ولا تنقص، إلا أنّ نهايتها للزوال ولا تدوم. فإما أن تنهض به هذه الثروات ليتحول إلى اقتصاد صناعي ومعرفي للمحافظة على ثراء ورفاهية البلاد - كما هي سياسة الملك الصالح عبد الله بن عبد العزيز اليوم - وإمان تُخدره الثروات وتُفسد إنتاجية المجتمع وأخلاقه وتنشر فيه الفساد الإداري وأحياناً الحروب، كما حدث مع هولندا عند اكتشاف الغاز فيها عام 1959، بما يُعرف بالمرض الهولندي، مما دفع النرويج اليوم لعزل عوائد النفط عن اقتصادها. وكما حدث ويحدث الآن في دول أفريقيا الوسطى الغنية بالماس والمعادن. إلا أنه قد دفعني نقاش حدث اليوم، للبحث عن معنى الاقتصاد الريعي في العلم الأكاديمي، فلم أجد له مقابلاً في المصطلحات الاقتصادية الأكاديمية العلمية باللغة الإنجليزية.

وما وجدته يشارك جزء من معناه في بعض تعاريفه، ولكن باختلاف جذري، هو الاقتصاد التأجيري. فالاقتصاد التأجيري لا يخرج مطلقاً في تعريفاته واستخداماته عن الاستفادة من الريع مع بقاء الأصل، وهذا يخرج اقتصاديات الموارد الناضبة كالنفط. وتطبيقاته في تأجير الأرض أو المباني أو النقود أو في أي أصل ينتج أرباحاً فوق الكلفة في السوق التنافسية. وقد استخدم مصطلح الاقتصاد التأجيري هنري جورج ومدرسته - التي ترى فرض غالب الضرائب على الأراضي - في ذم ملاكها الذين يصبحون أثرياء على حساب المجتمع دون جهد وبأرباح تفوق كثيراً الكلفة.

فما وجدت بُداً من العودة للبحث عن تعريفات الاقتصاد الريعي عند العرب وتطبيقاته. فوجدتها ككلام الأصوليين في الفقه قديماً. متناقضة لا يرتبط أولها بآخرها هدفها الانتصار للمذهب الفقهي للأصولي. وهكذا هي طروحات الاقتصاديين العرب حول مفهوم الاقتصاد الريعي، في تعاريفها وطروحاتها تضم كل متفرق وتجمع كل متناقض وتفرق بين كل متشابه، هدفها التحريض السياسي على الأنظمة العربية. فهي بلا خطام ولا نظام، ولا يوجد تعريف واحد إلا ويُدخل اقتصاديات مختلفة. كما أنّ هناك شبه إجماع على أنّ الوصف بهذا المصلح «الريعي» بتخصيصه ببلاد العرب عامة والخليج خاصة. وجميع التعريفات والطروحات دائماً تأتي بصفة الذم لهذا الاقتصاد ولحكومة بلاده. كما يلاحظ أنّ أطروحاته تحمل روح الحسد وكره الأثرياء وثورة الفقراء، وتستشهد بالخرافات المنتشرة في طروحات الاقتصاد الإسلامي حول الاقتصاد ونظام البنوك والنقود. وبما أنّ هذه القاعدة المطردة في طروحات شرح معنى مصطلح الاقتصاد الريعي هي أيضاً عامل مشترك مع طروحات دعاة ثورات الشعوب لتحريك عواطفهم العمياء -فتحريك الصراع بين الغني والفقير عاطفة لا تحتاج لمنطق صحيح -، مع كونها ارتبطت بحيثيات متناقضة ومتفرقة، ونتائج بعيدة عن الطرح، وبما أنه لا وجود لهذا المصطلح بلفظه أو في معناه في البحوث العلمية الغربية الموثقة عموماً، فلذا فمصلح الاقتصاد الريعي إما أن يكون اشتراكياً أو عربي الأصل. وبما أنّ العرب والإسلاميين استقوا ثقافتهم الاقتصادية الفلسفية من الاشتراكية عند بدء البعثات إلى فرنسا وغيرها، فهم يتوارثون خرطها وخريطها إلى اليوم، فقد دفعني هذا لحصر كلمات البحث في الإنترنت بالجمع بين الاقتصاد الريعي والاشتراكية فسرعان ما وجدت ضالتي.

فمفهوم الاقتصاد الريعي بمفهومه العربي مرتبط بالتنظير الاقتصادي الاشتراكي. وإن صح نقل باحث منهم وصحّت ترجمته، فقد زعم أنّ أول من وظف مصطلح الاقتصاد الريعي تطبيقياً هو كارل ماركس، حيث كتب الباحث «ولكن أول من استعمله كنمط اقتصادي هو كارل ماركس في كتابه التحليلي الكبير (رأس المال) حين قال: في الاقتصاد الريعي تقوى علاقات القرابة والعصبية» (انتهى النقل). وسواء أصح النقل والفهم والترجمة أو لم يصح، فيكفي أن تجمع بين الاقتصاد الريعي والاشتراكية في الإنترنت لتدرك من أين جاء هذا المفهوم الواضح في معناه اللفظي والمتخبط تناقضاً وتفرقاً في منطقه وفي مفهومه الاقتصادي، وفي تبعيات ذلك على خلط الخطط الاستراتيجية السياسية والاقتصادية.

ومن عنوان المقال، فإنه يتبيّن أنّ مفهوم الاقتصاد الريعي ليس هو غرض المقال، وإنما هو مجرد شاهد لمصادر ثقافتهم الاقتصادية التي تخطّفتها الأيدلوجيات القديمة، ومثال توضيحي لطريقة تفكير العرب اليوم، القائمة على التقليد دون تمييز، وعدم نزعتهم للتحليل المنطقي رغم نزعتهم القوية لنظريات المؤامرة. فانتشار الاتفاق الفكري العربي - حيث إنّ الاقتصادي وغيره يستخدم هذا المصطلح - على مفهوم اقتصادي يستخدمونه في الجمع بين متناقضات واضحة لا تحتاج إلى تخصص (بجمع الاقتصاديات المختلفة)، مع عدم التفكر في دلالاته الاقتصادية المتخبطة (التي هي خلط لاستراتيجيات مختلفة)، لهي شواهد واضحة على عدم منطقية التفكير العربي عموماً اليوم وغياب التحليل الفكري عندهم.

وكما أنّ الناس والفقهاء لا يعابون فيما تشرّبوه من قبلهم من تناقضات فقهية من قبلهم، فالناس والاقتصاديون اليوم لا يُعاب أحد منهم مطلقاً على هذا. فالإنسان قد طُبع خِلقة على التسليم لفكر مجتمعه. لكن الذي أريد لفت النظر له هنا لننتبه أمرين: الأول هيمنة العاطفة السلبية الناتجة والمتراكبة عن تأخر العرب والمسلمين وأوضاعهم المتردية على عدم العدل في الحكم مما يُضل عن رؤية المنطق الواضح، مع عدم الأمانة في نقل الأخبار إما بتحريفها أو بالتخير منها بما يوافق الميول العاطفية السلبية، مما يوصلنا للنتائج الخاطئة. والثاني بأني أعتقد بأنّ العرب - وأنا منهم - قد فقدوا الكثير بمنعهم من دراسة المنطق وبعدم إحياء التفكير المنطقي في مناقشاتهم الخاصة والعامة وفي حواراتهم الإعلامية. ومحاولات الإحياء المتواضعة لثقافة الرأي والخلاف فيها تطرف إصلاحي وعدم منهجية. مما أعاد الحوار - بتركيبة العقل اللامنطقية -، فجرته مرة أخرى لسجن عدم منطقية الحوار، وخاصة إذا اقترن بمقبرة الفهم المتمثلة في الانتصار للنفس. فليس بصحيح أنّ كل رأي يُعد رأياً وليس كل خلاف يُعَد خلافاً. فالرأي المعكوس المنطق البيِّن خطؤه، والخلاف الثابت بُطلان حيثياته وشواهده، والنتائج البعيدة تماماً عن الطرح عقلاً أو واقعاً أو تطبيقاً، ما هي إلاّ مجرّد سفسطة تورث الجنون والخبل، فعدمها خير للعقل العربي. فالجنون لا يبقي عقلاً ولا دياراً.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب