11-10-2014

حفاظاً على التديُّن

تناول المقال السابق «مستقبل التدين» عددا من الإشكاليات والتحديات التي تواجه أو تعيق تدين الفرد تدينا صحيحاً، يحوز فيه المؤمن غنيمة الدنيا والآخرة، وكان من أبرزها غياب الأنموذج الصحيح للتدين أمام الشاب المسلم،

وتنافُس الكثير من جماعات العنف في تقديم مشروعها للشاب على أنها الأنموذج الصحيح الذي يعبر عن الشريعة تعبيرا صحيحا ويترجم هدايات الوحي إلى واقع يحتوي حياة المسلم كلها، وفي هذه المقال سنتناول الوسائل الصحيحة في إعادة بعث التدين الحق والتجافي عن المظاهر المزيفة فيه، لكن قبل ذلك لابد من الجواب على هذا السؤال: لماذا نحافظ على التدين؟ قد يبدو السؤال - بهذه التلقائية - في غاية السذاجة لكن من يتابع واقع الشباب المسلم على مستوى الوطن العربي اليوم سيجد أن القضية التي تتحكم في خارطة حياته هي قضية التدين، ويضاف إلى ذلك أيضا ما يثار بين الفينة والأخرى من محاولات غير نزيهة في إيجاد علاقة عضوية بين التدين والإرهاب، وبالتالي فلا غرابة من طرح هذا السؤال إذاً، والجواب عليه يطول - بالتأكيد - لكن أشير هنا باختصار إلى أن التدين بمفهومه المعتدل هو الذي جاءت به الرسل، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهو رحمة للبشرية جمعاء، وفضلا عن كونه سبباً للنجاة في الآخرة فهو مصدر للسلام والاستقرار في الدنيا، وسبب رئيس في تحقيق الأمن النفسي والروحي، وكل أزمات الوعي الفكري التي تحصل في هذا العالم إنما هي بسبب اضطراب مفهوم التدين، وهذا مما يؤكد مركزيته في الأمن والسلم العالمي، وبالتالي، فإن كل هذا يدعونا لحراسته وتنقية منابعه لا إلى محاربته وتسطيح دوره وتجفيف منابعه. وما هذا المقال والذي قبله إلا محاولات متواضعة تصب في هذا السياق.

وحتى يعود التدين الفطري الذي نسعى إليه، أذكر هنا أهم الوسائل التي تحقق تلك الثمرات العظيمة، منها:

أولاً : تعزيز مقام الإسلام في النفوس، إذ هو مقام رفيع، إذا بلغه الإنسان حرم ماله ودمه وعرضه، فلا يجوز تنقص دين المؤمن أو هتك عرضه أو البغي عليه تحت أي مسوغ؛ إذ إنه مادام ثبت له هذا المقام بيقين، فلا يزول عنه إلا بيقين، وقد كان هذا هو المنهج النبوي الذي كان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه عليه، فإذا ما خرج أحدهم عن هذا الأصل إلى ظن أو شك أو متشابه أو قيل وقال ردَّه صلى الله عليه وسلم إلى محكم الإيمان، وذكره بعقد الإسلام، وفي حديث عتبان بن مالك - رضي الله عنه - أبلغ تصوير لهذه القضية، فقد روى البخاري في صحيحه أنه لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا في بيت عتبان واجتمع عنده في البيت رجال كثر، فسأل بعضهم عن رجل من المسلمين يقال له : مالك بن الدخشن، فقال أحدهم : ذلك منافق لا يحب الله رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذلك، ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله»، فقال الرجل : الله ورسوله أعلم، ثم أردف الرجل : فإننا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله ؛ يبتغي بذلك وجه الله». وهذا حديث عظيم مكتنز بالدلالات، ونحن اليوم أحوج ما نحتاج إلى تدبر فقهه ومعانيه، فرغم إصرار الرجل وتقديمه الدلائل على أن مالكا قد وقع منه ما يشكل ؛ من موالاة المنافقين ومحبتهم ورغم أن الرجل كان يطلق هذا التحذير غيرة على الشريعة وحراسة لبيضة الإسلام، رغم كل هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستجب لكل هذا الحشد اللفظي والتأثير العاطفي، فلم يوافق الرجل على ما قال، بل حتى لم يُثن على غيرته وحرصه على الدين؛ لأن أصل الإيمان مازال قائما ولا يقوى هذا الظن على هدمه، ولهذا ردَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى محكم الإيمان وعقد الإسلام، وحينما تقرأ هذا النص المكثف بالمعاني والدلالات وتستعرض مواقف بعض الشباب وكيف يقفون الموقف العدائي من إخوانهم المؤمنين، لمجرد اجتهاد خالفوه فيه تكتشف المسافة الطويلة بين التدين الحقيقي وبين ماسواه، ولك أن تقلب بصرك في حفلات الشتائم التي يقيمها - في تويتر - بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة لمجرد أن أحدا من الناس قال رأيا لا يعدو أن يكون من المسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف قديما وحديثا، ومثل ذلك ما يفعله بعض الشباب من استطالة في أعراض الولاة وولع شديد بالشائعاتوالأقاويل عنهم، وينسون أصل الإيمان الذي يشتركون معهم فيه، والذي به يُعصم الدم والمال والعرض، وأن هذا الأصل الكبير له استحقاقات عظيمة لا يمكن أن تزول بمثل هذه الظنون والأقاويل.

ومن ينظر في أصول الشريعة ومحكماتها سيجد بدون أدنى عناء أن الشريعة تتشوف غاية التشوف إلى أن يبقى الناس على إسلامهم لا أن يخرجوا منه، ولهذا نلاحظ أن الشريعة تثبت الإيمان ولو بالأمارات الظاهرة تشوفا منها إلى بقاء المرء على دينه، فجعلت المحافظة على الوضوء دلالة على الإيمان، «لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» واعتياد المساجد شهادة بالإيمان لمن يعتادها «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» بل جعلت الشريعة الإقرار بأن الله في السماء دلالة على الإيمان كما في حديث الجارية : لما سألها صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت : في السماء : قال صلى الله عليه وسلم : «أعتقها فإنها مؤمنة»، فهذه النصوص تؤكد تشوف الشريعة إلى بقاء الإيمان لا إلى زواله، لا كما يفهمه بعضهم بأن الغيرة على الشريعة تعني مفاصلة المؤمنين، والمزايدة على إيمانهم، ومحاولة تضخيم الأخطاء والفرح بها واصطيادها وتكبيرها، والغلظة على من وقع منه خطأ أو قصور، وأن هذا من الغيرة على دين الله والانتصار لشرعه، كلا، فليس هذا من هذا بشيء، فأكمل الغيرة وأحسنها غيرة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم ومنهجه بخلاف هذا.

ثانيا : تعميق أعمال القلوب في النفوس المؤمنة بدلا عن التدين المظهري المزدوج الذي يتعثر عن أدنى امتحان للقيم، وقد كانت العناية بأعمال القلوب هي منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، فكان صلى الله عليه وسلم يكرس في جميع مراحل حياته كل معاني التدين العميقة في نفوس أصحابه، بل حتى في لحظات التلطخ بالخطيئة كان صلى الله عليه وسلم يفتش في دواخل النفوس عن معان قلبية غير ظاهره فيبرزها ويشيد بها، ويظهر هذا جليا في قصة الرجل الذي شرب الخمر إذ لما أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقام عليه الحد فقال رجل : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله»، وهذه الإشادة منه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الموطن بالتحديد تحمل إشارة واضحة بأن المؤمن بالله يبقى طاهرا مهما تلوث بأوحال الخطايا، وأن تلبسه بخطيئة لا يبرر للذي لم يتلبس بها أن يزايد على دينه وإيمانه، بل ربما كان هذا الواقع في الذنب أقرب إلى الله من هذا الذي يشمت به.

والمعاني القلبية التي يجب أن نربي النشء عليها هي أركان الإيمان وأعمال القلوب التي تزكو به النفوس من مثل الخشية والإنابة والتوكل والإخلاص والرحمة والتسامح.

ثالثاً : الابتعاد عن فرز الناس وتصنيفهم إلى متدينين وغير متدينين، فالأصل أن كل مسلم هو متدين لله رب العالمين، وأما تقسيم الناس وتصنيفهم بحسب مظاهرهم وهيئاتهم فهو تقسيم حادث في الشريعة وأجنبي عنها، فالله عز وجل قسم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام : السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه، وكل واحد من هؤلاء في مرتبة الاصطفاء وموعود بالجنة، يقول الله تعالى ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير، جنات عدن يدخلونها « وفي القرون المفضلة لم يحصل أن تم فرز الناس وتصنيفهم بحسب تدينهم في مظاهرهم وهيئاتهم، فليس هناك في المجتمع المؤمن إلا القسمة الثنائية: مسلم أو كافر، أما تشظي المجتمع وتصنيفه بهذه الطريقة فآثاره مدمرة وكارثية، ونحن اليوم ندفع بعض فواتيرها بالجنوح إلى التطرف والغلو ؛ ومن ذلك مثلا : أن بعض من يسمى - بناء على هذا التقسيم - متدينا تراه يركن إلى هذا الوصف ويكتفي به ويكون حظه من التدين فقط هو استحقاق هذا اللقب «متدين»! ولهذا فلا تجده يتزود من أعمال القلوب وإنما يزايد على الآخرين بإيمانهم وصلاحهم ! ومن نزع منه هذا الوصف رضي بالأدنى ولم يبلغ بنفسه المنازل العليا في العبادة بحجة أنه لا يحمل هذا الوصف: «غير متدين» !

رابعاً : الرهان في التدين يجب أن يكون على القيم الشرعية الثابتة، وليس على الآراء الفقهية المتحولة، وأعني بذلك أن نربي النشء على القيم الشرعية الثابتة التي لا تتحول بحسب حركة الاجتهاد الفقهي، فقيم الصدق والعدل والحب والرحمة والسماحة واللطف والسخاء والجود وحسن الأدب كل هذه القيم محال أن تتغير مع الزمن، فلا يمكن أن يكون الصدق في وقت امراً مرغوبا وفي وقت آخر أمرا مرذولا ! لكن التدين الذي تربى عليه بعض شبابنا اليوم بخلاف هذا، فالرهان عندهم في التدين هو على كل ماله علاقة بالمظهر أو ما يثبِّت المرء في خانة التدين السائد وينسبه إلى صف «المتدينين»، من مثل : تقصير الإزار وإعفاء اللحية واجتناب سماع الغناء، وهذه القضايا وإن كان بعضها سننا ثابتة لكنها مسائل خلافية تخضع لنظر الفقيه واجتهاده، بخلاف قضايا القيم فهي ثابتة ولا تتغير مع تغير حركة الاجتهاد، والكثير من إشكاليات الوعي اليوم يعود سببها- في تقديري - إلى هذا، فالشاب حينما يريد أن يكون متدينا لا عليه سوى أن يفعل هذه الأمور -في يوم وليلة- وحينها يغفر له ما قد سلف، ويتحول من كونه يستقبل المواعظ إلى مصدر لها! وحتى ندرك حجم المأزق الذي نحن فيه لنتصور هذا المثال من الواقع : شاب يقضي شطرا من عمره في السفه ثم بعدما يعبر قنطرة التدين التي وضعناها له -وهي تقصير الإزار وإعفاء اللحية - نسمح له بأن يمارس أخطر مهمة في التاريخ وهي تشكيل عقول النشء، فنسمح له مباشرة بأن يرتاد مدارسنا ويغشى نوادينا ليشكل أولادنا بحسب فهمه الخاص للشريعة!!

أما لو كانت القيم الثابتة حاضرة بشكل أساسي في سلم التدين الذي نربي الشباب عليه فلا يمكن بحال أن يقع هذا الخلط والعبث،ولن نرى هذا التدين الخادع والمزدوج الذي تكشف عنه اليوم وسائل التواصل الاجتماعي، ولعل القارئ الكريم يدرك صدق ما أقول حينما يجيل نظره على هذه المواقع ليرى أن الكثير من الغلاة الذي يرفعون شعار التدين عبر مظاهرهم وهيئاتهم يسقطون عند أدنى امتحان للقيم، فتبدو منهم القسوة والغلظة والفظاظة وسوء الأدب والمزايدة على الإيمان عند أدنى اختلاف يحصل معهم. والله أعلم.

وللحديث بقية.

khaled4321@gmail.com

كلية الشريعة - جامعة القصيم

مقالات أخرى للكاتب