16-10-2014

غياب العدل في الفكر العربي بشاهد ابن تيمية وابراهام لينكون

أعتقد أن كره شيخ الاسلام ابن تيمية نابع أصلاً من نزاعات سياسية قديمة لقرون خلت. وأتى نفط الخليج فأوقد نار الحسد في قلوب القوميين والاشتراكيين العرب، فأحيوا هذا الكره لاستخدامه وقودًا لوسيلة من وسائلهم، (خاصة بغياب الفهم وقلة الحجة عند من يدعي النصرة لشيخ الإسلام). فتلقف دعاويهم من يردد ما لا يدري معنى ما يسمع وإن درى فهو لا يفهم. مثقف مُقلد أو متفيقه متذمر من تخلف حاله وحال مجتمعه وقومه، قد أعمته دعاوى وتصرفات تُنسب لشيخ الإسلام قد ضيقت عليه في دينه ودنياه بغير حق. فراح يُردد فحيح كل حاسد لنفط الخليج، ويجتر صديد كل موتور من ضحايا بوليسية استخبارات الأنظمة العربية العسكرية -مما لا ذنب لشيخ الإسلام فيه-، دون أن يُدرك أن شيخ الإسلام كان له الفضل العظيم في إنقاذ الأمة من التدجن والخوار الذي أصابها عبر قرون سبقته. ودون أن يدرك فضل شيخ الإسلام في إيقاظ العقل العربي المُخدر بالدروشة أوالسفسطة الذي اتجهت له الأمة في عصره. وفي فضله في إعادة تنوير كثير من العقول العربية وما زرعه فيها من استخدام العقل والمنطق. وفي فضله في وقف انتشار المنطق المتخبط المدمر للعقول، الذي وجد أمته عليه. والذي تحكيه بعض بقايا تطبيقاته النقاشات الحوارية العربية اليوم، المتخبطة بلا خطام ولا عقال. فما يُدري ما كان سيكون عليه حالنا لولا جهود شيخ الإسلام التنويرية للأمة، وجهود من تنور به من بعده. وما يُدرى ما كنا سنكون عليه من تقدم فكري لو أنه لقى دعمًا ولم تُحرف مفاهيم منطقيته وطرق تفكيره.

وأما ما يفعله الخبثاء أو الأغبياء من اقتطاف اقوال ومواقف لشيخ الإسلام قد قالها في مضائق المناظرات، أو في ردود مجملة أو أوضاع خاصة محرجة، أو في جدل افتراضي عقلي، أو زلات ثم يلتقطها كل معتوه ومجرم ومغفل فيُعممها في التطبيق، ثم يُحمل وزرها على شيخ الإسلام، فهو كمن يأخذ مواقف الرسول نبي الرحمة في بني قريظة وفي العرانيين وفي المخزومية، ويعممها في كل حال.

وهؤلاء الذين كرهوا شيخ الاسلام - بالأصل أو بالتبعية أو تقليدًا - فلم يعدلوا فيه فعميت أبصارهم فانغلقت عقولهم فلم يستفيدوا من تنوير شيخ الإسلام، لا يختلفون عن أضدادهم المنتسبين زورًا لشيخ الإسلام والذين قد عميت أبصارهم بكره الغرب فلم يعدلوا فيه، فحُرموا الاستفادة منه وحرموا المجتمعات العربية كذلك بالتخويف والتخوين. فلو لم يكن في الغرب إلا الاستفادة من وقفة ابراهام لينكون في تحرير العبيد لكفى. فكم من دروس في تضحيته في ذلك باقتصاد بلاده وماكينة إنتاجه، ونشوب حرب أهلية ما يزال الأمريكان إلى اليوم يحسبون عدد قتلاهم من الجنود في تلك الحرب والذي تعدى -أخيرا- ثلاثة أرباع مليون قتيل. وكم من عبر في عاقبته بأن وحد الله له أعظم امبراطورية وضاعفها أكثر من ثلاثة أضعاف ثم أكرم الله سيرته بأن جمع الخلق أجمعين اليوم برضاهم على موافقته في قراره. ففي رواية لينكون فقط عبر ودروس وفوائد هي الأعظم والأعمق والأكثر بعد سيرة الرسول والخلفاء الراشدين.

ومن الدروس المتعلقة بحاضرنا، عظم بلاء الحرب الأهلية، وأثر الاقتصاد على إشعال الفتن، وأهمية المساواة والإنسانية. ومن الدروس المتعلقة بموقف الكارهين لابن تيمية: أنه قد كان في الحرب الأهلية دموية وفظائع كما لحقها ظلم ودمار، فهل تنسب الدموية والظلم لابراهام لينكون؟ وهل يقر عقلاء أمريكا فضلاً عن عامتهم قيام خبلائهم وشرارهم بالقتل والتدمير والظلم بحجة ما حصل بسبب لينكون؟ فلم ننسب الشر لعظمائنا بغير حق ونجحدهم فضلهم ظلمًا وعدوانًا؟ وقد جعل الغرب من فكر عظمائهم وما لحق به من خبث دروسًا وعبرًا استفادوا منها امتثالاً واجتناباً، بينما جعلنا من فكر عظمائنا جنونًا وخرابًا.

وقد هاجمني أحدهم لوقفتي مع شيخ الإسلام ووصفها بأنها وقفة المريد بين يدي شيخه فكتب: «كنت في السابق أعتقد أن الدكتور حمزة السالم غادر (ديوان السلفية) بدون رجعة وعن قناعة تامة ولكن بعد قراءة تعليقه اكتشفت أن السلفية لم تغادره,. يذوب في حبه

(شيخ الإسلام) كما يذوب الصوفي في شيخه، لأن عبارات الشخص تنبئ عن حديث عقله الباطني»

فكان من ردي على هجومه «بل العدالة والأمانة. فوالله أني لا أدافع عن ابراهام لينكون وأحبه لموقفه في تحرير العبيد كدفاعي عن شيخ الإسلام وحبي له في مواقفه المشرفة لنصرة الأمة ولإنقاذ المسلمين من كثير من الخرافات التي لو جلست لأصبحنا في حال أسوأ اليوم. أفيكون مني أن أدافع عن لينكون، ثم لا انتصر لمن نصر الأمة ونفع الله به كثيرًا في التخفيف فيما وصلنا إليه من الجهل اليوم. والسفيه هو من لا يُميز ويهذي ضد عدوه بما يظهر قلة عقلة وبما يعميه عن الاستفادة من قول وتصرفات خصمه. والحماقة والظلم قد أعمى الكثير ـ من أبنائها ومن أعدائها- عن اكتشاف ما في السلفية من مداخل في أصولها هي الأقوى على الاطلاق في إمكانية إحياء حقيقتها في رفع التسلط الديني عن الناس وعن التدخل الديني في شؤون الدنيا»

وأنا لا أنكر عشقي لشيخ الإسلام فهو من أرضع فكري وعقلي فالطفل يعشق -جبرًا لا إرادةً - صدر أمه التي حضنته وأرضعته، فطرة وطبعًا لا تطبعًا واكتسابًا. وأما لينكون فلم أعرفه إلا بعد الأربعين، وهذا العشق الفطري لا يمكن حدوثه بعد الفطام، إلا أن الاستفادة من الحكمة والعدالة في الحكم هي بعد الأربعين أقوى من المرحلة التي قبلها.

فجوهر الفهم هو العدل الفكري مع الخصم ومع الحبيب على حد سواء. فهو يضمن صحة الفهم ويفتح أبواب الحجة في الدفاع والهجوم. وغياب العدل الفكري، يدفع النفس دفعًا لتخير الأقوال والوقائع التي لا تنفع وقد تضر بينما يعميها عن أخرى نافعة. وتخيُر العين الظالمة بين الأقوال والوقائع يعمي بصيرتها عن الفهم. وفكر من لا يفهم ولا يرى، يُوقع صاحبه في التبعية لعدوه فيقوده إلى المنحر، قود الراعي للقطيع.

hamzaalsalem@gmail.com

تويتر@hamzaalsalem

مقالات أخرى للكاتب